منذ أيام أخذت ابنتى لسيرك ايطالى شهير يعرض ألعابه فى طنطا، وسبب عدم اصطحاب ابنى وزوجتى هو أنهما يمقتان السيرك بشدة.
كان العرض مصمما بعناية وبالغ الإبهار، وقد راق لبنتى كثيرا، لكنى لم أستطع نسيان ذكرى حريفة قديمة تعود لطفولتى، هل كان سيرك (أبوشفه) بالفعل أجمل مذاقا؟. ربما. وربما لأنه كان أول سيرك أراه فى حياتى.
أعود بذاكرتى إلى عام 1972. أى أننا نتحدث عن أربعين عاما. لا تندهش. أنا لست متوشالح شيخ التوراه. أنا مجرد رجل على باب الخمسين، وسوف يأتى عليك يوم مماثل تكتشف فيه أن أربعين عاما مضت منذ قامت ثورة مصر.
بما أنني من طنطا، فمولد السيد البدوى يلعب دورا مهما فى ذكرياتى. أسبوع يتصاعد فى إثارته وحماسته حتى نصل إلى الليلة الكبيرة. إن الفلاحين فى القرى حول طنطا ينتظرون هذا اليوم فى شغف، ويدخرون المال لإنفاقه فى هذا الأسبوع وقد لاحظ عالم الاجتماع الكبير على فهمى أن معظم موالد مصر لا علاقة لها بتاريخ ميلاد الأولياء، ولكن لها علاقة بجنى المحاصيل! أى أن المولد يتم تصميم تاريخه حسب الوقت الذى يكون فيه الفلاح قد باع محصولا معيئا وجيبه ملىء.
إنها لعبة اقتصادية لا دور للدين فيها كما ترى وعلى هذه ايام يعتمد دخل كبار تجار طنطا لمدة عام تقريبا.
يذهب الفلاح للمولد لينعم بليلة الأحلام. كأنه ذهب إلى ديزنى لاند. نيشان. التهام ذلك الهلام الملون المجهول الهوية فى أطباق.
مص القصب. مشاهدة الرقص الشرقى أكل السمك المقلى الذى لا يعرف أنه قشر بطيخ معالج بعناية ليخدع الجميع ختان ابنه. أكل الحمص وحب العزيز، ويحيط بهذا كله جو من الشعور بالبركة. الخيام ذات اللون الأخضر إياه والإنشاد الشعبى من الشيخ (حامد حفور)، وأشخاص لا يفعلون أى شىء ولا تعرف عنهم سوى أنهم (من المحبين). هذا دين مواز له طقوسه وعباداته، فلا تندهش هناك فى جنوب مصر مقام لأحد الأولياء يعتبرون الطواف حوله بمثابة حجة. فلا داعى لأداء فريضة الحج بعد ذلك!. إن كتاب د. على فهمى عن تدين الحرافيش فى مصر كتاب ممتع ومهم جدا، وقد صدر عن دار ميريت إذا كنت مهتما بالاستزادة.
ثم تأتى لحظة الذروة الأخيرة يوم الجمعة عندما يمر موكب الخليفة، والنقرزان وتلك الدقة المميزة للطبول، بينما تزغرد النساء كنت أسكن قديما فى بيت يطل على الشارع الرئيسى الذى يمشى فيه الموكب، كان من ضمن طقوس طفولتى أن أقف فى النافذة لألقى البونبون على هذا الموكب، وكنت أعلق أهمية دينية عظمى على هذا الطقس.
احتجت لوقت طويل حتى أتعلم أن هذا كلام فارغ وبعيد عن الدين، وكانت صدمة معرفية أولى. بعد هذا اعتدت أنا وأبى أن نصلى الجمعة ثم نذهب لمراقبة هذا الموكب ثم نعود للبيت سريعا، ومن المصادفات الغريبة أن السماء كانت تمطر دوما بعد مرور موكب الخليفة لا دور للمعجزات هنا طبعا، ولكن أعتقد أن الأمر يتعلق بكمية
الأتربة الرهيبة التى تصعد لعنان السماء.
كنا نمشى فى ذلك اليوم قرب ميدان السيد البدوى الذى بدأ يفرغ من الزحام وبدأ أصحاب الخيام يجمعونها تلك اللحظة المفعمة بالشجن التى يعرفها كل طنطاوى جيدا.
المدينة تخلو والغبار يملأ الجو والمطر ينهمر، ثم تأتى ليلة مقفرة صامتة. وغدا العودة للمدارس! هنا فوجئت بتلك الخيمة التى لم يفكوها بعد.
كانت هناك منصة يقف عليها رجل يلبس سترة لامعة شبيهة بجلد الثعبان، ويمسك بمكبر صوت وجواره رسم عملاق رديء وغليظ جدا يظهر ساحرا وفتاة بلا رأس وأسدا يزأر.
وكان يهتف – بقرش صاغ واحد يا سلام. السيرك العالمى سيرك (أبوشفة) الأ فى ذلك الوقت كان مبلغ قرش صاغ فادحا يحتاج لبعض التدقيق. يدخل الجيب بصعوبة ويخرج منه بصعوبة. ثم ما موضوع (أبوشفة) هذا؟ كلنا لدينا شفة، فلابد أن (أبوشفة) له شفة عملاقة جديرة بالتدريس فى كتب التاريخ الطبيعى.
– فتاة النار والكهربا تحط اللمبة على رجلها تنور. على صدرها تنور ومن خلفه خرجت فتاة منكوشة الشعر قبيحة كالأبالسة، وهى تأتى بحركات إغراء تقلد بها فتيات الاستعراض. ثم ظهر رجل متسخ الثياب يبدو كعسكرى المرور. له شارب رفيع ويقلد شارلى شابلن.
– تعال شوف شارلى شابلن. يا ابن العفريتة يا شارلى وكنت فى ذلك الوقت قد كونت نظريتى الخاصة عن أن أى شخص يقلد شارلى شابلن يكون هو السماجة بعينها وقد كان هذا صحيحا.
– “تعال شوف الأسد والنمر. وشوف الشجيع كنت أحفظ تحفة صلاح جاهين الرائعة (الليلة الكبيرة) التى امتدت لها لمسات سيد مكاوى والسقا لتجعل منها حجرا كريما يتوهج فى عنق الفن المصرى، لهذا كنت أتوقع أن هناك أسدا فعلا. أنا شجيع السيما أبوشنب بريمة. وتعال لى يا حبيبى تعال لى.
– كل حاجة بصاغ واحد. لم ترفع الفتاة إصبعها بحركة تحسبها رشيقة بما يعنى (صاغ واحد).
– آخر عرض فى مدينة طنطا الكريمة. قبل ما يلعب. هذا هو العرض الأخير قبل مغادرة البلدة كما نرى فى القصص التى تدور فى الغرب الأمريكى. سوف يحضر المأمور للتأكد من أن الفرقة غادرت البلدة فعلأ، على حين تتحرك عربة الأسود وعربة الأفيال بتثاقل نحو المولد التالى أو البلدة التالية فى ألاباما كان رد فعل أبى هو أن جذب يدى ليبتعد، لكنى تسمرت فى الأرض وقد أدركت الحقيقة .. سأموت لو لم أر هذا العرض ابعدونى من هنا واحفروا لى قبرا.
أبى المسكين يعبث فى جيبه مضطرا فيخرج قرشين. ونحصل على تذكرتين، وندخل عالم الأحلام بالنسبة لى.
كان أبى مدير شركة متأنقا شديد الوقار، لا يتحرك إلا بالبدلة والصديرى وربطة العنق، فكانت المفاجأة الأولى بالداخل أن جمهور السيرك من الطراز الذى يحضر بالبيجامة والجلوس على دكك خشبية مهشمة مليئة بالمسامير.
المفاجأة الثانية بالداخل هى أن البراغيث كثيرة جدا. المفاجأة الثالثة أن معظم الموجودين من الصبية وغالبا هم صبية فى السابعة يدخنون السجائر ويتبادلون السباب. أنت تعرف أن الصبية فى هذه السن يباهون فى الوقاحة وقلة الأدب لأن هذا يجعلهم أقرب للكبار.
أبى المسكين وجد نفسه فى السيرك فعلا، بالمعنى الحرفى للكلمة، فدس رأسه فى الجريدة وحاول أن تمر هذه اللحظات بسرعة.نفس منطق من يقف على منصة المشنقة بانتظار هبوط الطبلية. لحظات قاسية لكنهاستنتهى سريعا يا سادة.
على المسرح برز الرجل الذى كان يدعونا للدخول بالخارج. إذن هو (أبوشفة) نفسه، وقد خاب أملى لأن شفته ليست متضخمة.
وأعلن بكل فخر:
-“الآن إليكم الساحر الليبى” ومن مكان ما تعالت موسيقا من أكورديون تالف وطبلة من الطراز الذي يوضع بين ركبتي العازف، ونظرت بحثا عن الساحر الليبى فاكتشفت أنه أبو شفة نفسه. هذا الرجل رائع فعلا. لقد غير لهجته إلى ما يعتقد أنها لهجة ليبية، واحتفظ بنفس الثياب وكل شىء، وبدأ يقدم فقرة عن ابتلاع خمس كرات لتخرج من فمه ستا أو شيئا من هذا القبيل. الأسوأ أنه طلب صبيا من الحضور ليساعده، وناوله بعض الكرات التى ابتلعها هو ليبتلعها!.
حمدت الله على أنه لم يختصنى بهذا الشرف. شرف ابتلاع الكرات التى كانت فى فمه. ثم جاءت الفقرة المعروفة للسلاسل التى تدخل فى بعضها، والماء الساخن الذى ينسكب على الناس. الخ، لقد كان عرض الساحر الليبى حافلأ، ثم سرعان ما عادت لهجة (أبوشفة) لطبيعتها وقدم الفقرة التالية: تحط اللمبة على صدرها تنور، وهى كما تعرفون شعار مذا النوع من المسارع.
نظرت لأبى فوجدته غارقا فى الجريدة وقد صار لونه بلون الطماطم. لا يجسر على رفع رأسه لحظة.
الفقرة التالية كانت مطربة أفراح من اللواتي يضعن كلاكس سيارة اسعاف فى حلقهن، لكن يبدو أنها أسعدت الجماهير فعلا. يبدو أنها الديفا أو الـ Super Troupe هنا. ثم ظهر شارلى شابلن على المسرح ليؤدى فقرة معقدة لم افهمها حول تدخين السجائر وابتلاعها ثم إخراجها ثانية. أما ذروة العرض فكانت هى الأميرة الهندية مقطوعة الرأس التي وضعوا رأسها في مزهرية ويكلمها (أبو شفة)، وكنت قد قرأت عن طريقة هذه اللعبة، وأنه يجب أن تلقى ورقة مجعدة جوار المنضدة لتكتشف أن هناك مرآة تتوارى ورائها هذه الفتاة. فكرت فى ذلك لكن وجه الأخ (أبو شفة) لم يكن يشجعك على هذا الجهد الاستكشافى.
وفجأة أعلن الرجل عن انتهاء العرض.لم يسأل أحد عن وعد الأسد والنمر الذى حنثوا به، وتدافع الكل للخروج. رأيت مقدم الحفل يتخلى عن لطفه ليصيح فى شارلى شابلن وعيناه تطقان الشرر.
– عارف يا شارلى لو شفت واحد هنا من العرض اللى فات حشوف شغلى معاك!. فيه وشوش بشوفها فى كل عرض!
ورأيت شارلى شابلن يحمل خيزرانة ينزل بها بين الصفوف وهو يصيح بوجه شرس –
“يا الله ياد. يا الله ياد يا بن الـ.
منظر جدير بالرؤية فعلا. شارلى شابلن بكامل ثيابه المرحة يتكلم ويطلق السباب وعلى الباب كان هناك حشد الوجوه الطازجة التى تنتظر دورها لرؤية هذه الأعجوبة بالداخل.
بينما وقف أبوشفة على منصة، لطيفا ظريفا كما كان:
– بقرش صاغ واحد. يا سلام. السيرك العالمى. سيرك (أبوشفة).
– وسأل ولد ببيجامة خاطت عليها أمه اسمه وعنوانه. سأل أبى:
– السيرك حلو يا كابتن؟
فهز أبى رأسه فى وقار أن نعم وابتعد بى مسرعا.
برغم هذا فإننى سأظل أذكر هذا السيرك كثيرا جدا. أعترف أننى لم أشعر بنفس السرور والنشوة وأنا أرى ذلك السيرك الإيطالى، كما أننى رأيت فيلما لـ (سيرك الشمس) العالمى الشهير فلم أشعر بذات الانبهار.
أما عن أبى فإننى أندهش من الحد الذى يمكن أن يذهب له الأهل لإرضاء أبنائهم. أعرف واحدة من قريباتى، وهى أستاذة جامعية. أخذت طفلتها إلى السوق وهناك وجدت الطفلة أرجوحة من تلك المراجيح الصدئة التى يجرها بغل أجرب، فأصرت على ركوبها. قامت الأستاذة الجامعية بوضع طفلتها فى الأرجوحة للفة أو اثنتين.
فلما انتهت وجدت أن الرجل يطالبها بأجر اثنتين: – مش انتى اتمرجحتى معاها يا أبلة؟
كان أبى من ذلك الجيل من الآباء الذين يجمعون بين الحزم الشديد والاستعداد لعمل أى شيء حلال وقانونى يسعد أطفالهم أبوس ايدك أن تقرأ له الفاتحة معى الآن!
نشر في سبتمبر ٢٠١٣