كتابات د : أحمد خالد توفيقمن هنا وهناك

مشاهد متناثرة .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

في الظلام الدامس يتسلل الفتى مدمن المخدرات نحو مكان يعرفه جيدًا .. نحو الكومباوند السكني الذي كان يعمل فيه كفرد أمن قبل طرده .. لم تكن هذه المرة الأولى، فقد تسلل إلى تلك الفيلا من قبل وخرج مظفرًا وكانت جريمة كاملة. ترى هل يختبر الأقدار هذه المرة أيضًا؟

قام بتعطيل بعض الكاميرات التي يعرف موضعها جيدًا، قبل أن يدخل.


صديقان يمنيان زاراني في مدينتي منذ أعوام، وعندما جاء المساء طلبا أن يريا فندقًا مناسبًا في المدينة للبيات. لظروف خاصة لم أستطع استضافتهما عندي، لذا أخذتهما لأحد الفنادق الفاخرة.. كان سعر الليلة مخيفًا يتجاوز قدراتهما بكثير. خرجنا من هناك فقصدنا أحد الفنادق الشعبية .. كان المشهد مخيفًا من فرط البؤس و القذارة والرائحة العطنة. لم يرق لي أن أتركهما هناك، لكنهما قالا إن المكان جيد وسوف تمر الليلة بأي شكل.

في اليوم التالي عرفت أنهما لم يقيما في ذلك الوكر لحظة واحدة، ولكنهما بعد رحيلي وجدا فندقًا بين بين ناما فيه. كانت أهم ملاحظة لهما هي:
ـ”كيف يتجاور فندق بهذه الفخامة في نفس المدينة مع وكر بائس بهذه القذارة؟ والمكانان يحملان لقب فندق. عندنا في اليمن ليست الفوارق بهذا الاتساع”

كانت هذه مشكلة مصر دومًا. أن يتجاور الثراء الفاحش جوار الفقر المدقع. لاحظ أننا كنا في أوائل القرن ولما تتشكل الصورة بوضوح كما نراها اليوم. مع الوقت ذابت الطبقة الوسطى أكثر فأكثر حتى صارت شريطًا رفيعاً يفصل بين السيارة البي إم دابيليو والتوك توك.


يهشم الفتى نافذة المطبخ وينسل داخل الفيلا. تستيقظ المجني عليها نيفين، وهي مدير مصرف كبير تعيش وحدها. تصرخ مستغيثة فيخرج السكين التي يحملها ويطعنها عدة طعنات، ثم يحمل ما استطاع حمله – وهو قليل بالنسبة لجريمة قتل – ويفر.

رائج :   ملاك حساس !! || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

يخرج بسيارتها من الكومباوند وسط يقظة رجال الأمن الواضحة. عندما يتعلق الأمر بالداخلية فلديك بسطويسي النائم .. هنا أمن قطاع خاص لذا لديك بسيوني النائم.


كان هذا انتصارًا آخر للعولمة .. في البدء دخل الهالوين الغربي، ثم ظهرت الجمعة السوداء .. الاسم نشأ في فيلادلفيا عام 1961 تقريبًا.. إنها الجمعة التالية لعيد الشكر الأمريكي دومًا، وبالتالي هي آخر جمعة في نوفمبر. وهي تمثل لدى الغربيين بداية موسم الشراء المجنون لهدايا الكريسماس. تخفيضات هائلة وساعات عمل لا تنتهي وزحام وتدافع من جماهير أصابها السعار الاستهلاكي. ربما وصفوها بالسوداء لأنها كابوس رجال الشرطة والمرور وأعداء الزحام.. توفيت سبع سيدات في الولايات المتحدة بسبب التدافع منذ بدأت هذه العادة.

في مصر رأينا الصور عندنا ورأينا الزحام .. أعتقد أن هذه الحشود لم توجد منذ أيام المليونيات إياها، وبدا واضحًا أن الكثيرين لن يستطيعوا شراء أي شيء. معظم من اخترقوا الجموع أدركوا أنها خدعة على الأرجح، وأن الأسعار تمت زيادتها قبل الجمعة السوداء مباشرة، ثم تم التخفيض لتعود الأسعار لما كانت عليه.

نفس هذه الطوابير تدافعت لشراء آيفون 7 الجديد لدى ظهوره في مصر، وكان سعره يقترب من 16 ألف جنيه. وكانت النتيجة هي أنك يجب أن تحجز اسمك في طابور طويل إلى أن تنال المراد.

من يرى هذه الصور يؤمن أننا شعب شديد الثراء لا يعرف ما يفعله بالمال حقًا. وتتساءل: أين المشكلة الاقتصادية إذن؟


يندفع الفتى بسيارته عبر الطريق .. يصطدم بحاجز خرساني في الطريق . يترجل ويستقل سيارة أجره إلى بيت أخته، ويمضي الليل هناك. وفي الصباح يفر إلى مصحة نفسية يتوارى فيها..


هي سلسلة لا تنتهي من الأخطاء الاقتصادية الفادحة، ومن الواضح أن الحكومة تخلت عن دورها تمامًا لنصير فريسة لرجال الأعمال والمضاربين والمحتكرين. هكذا لا تجد السكر .. لا تجد ألبان الأطفال .. لا تجد الدواء .. لا تجد المحاليل الطبية ولا محاليل غسل الكلى. لا توجد أي خطة واضحة لمنع هؤلاء الذين صمم كل واحد منهم على أخذ قطعة خشب من السفينة..

رائج :   فلا نزل القطر .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

لكنك كلما تكلمت عرضوا عليك صور المتزاحمين على الجمعة السوداء وطلبوا منك أن تصمت.. الكل أثرياء كما ترى. إن لم يعجبك فلترحل.. وهو منطق مستفز. وكما قال أحد المعلقين على النت: “أنا أرحل لو لم يكن جو مصر أو موقعها الجغرافي يروقان لي، لكني لن أرحل بسبب هذه الحكومة الفاشلة”. وعلى كل حال ما حدث في مركب رشيد هو أن هؤلاء قوم نفذوا نصيحة الرحيل حرفيًا، وغرقوا وماتوا فاتهموهم بالخيانة.

هناك مقال جميل جدًا – وفائق الانتشار – لصديقي الشاب د. محمد أبو الغيط، يتحدث فيه عن مجتمع 15% الذي يملأ المولات ويشتري السيارات والموبايلات .. لو تمكن 3 ملايين فقط من الشراء، فلسوف تبقى حقيقة أن ثمانين مليونًا لا يستطيعون. يقول أبو الغيط معتمدًا على تقارير حكومية: “الطعام لا يكفي الأطفال.

نسبة التقزُم (قِصر القامة بسبب سوء كمية أو نوع الغذاء) بين أطفال مصر أقل من 5 سنوات بلغت 21% عام 2014. ربع الأطفال في الفئة العمرية 6- 59 شهرا يعانون الأنيميا. حين تشاهد عساكر الأمن المركزي متشابهي الملامح، يجب أن تعرف أن السبب هو أنهم يجمعهم عمر كامل من سوء التغذية”. “خلال عامين سقط مليون و 368 ألف مصري جديد تحت «خط الفقر المصري»، وهو معدل دخل 482 جنيها للفرد شهرياً. خط الفقر العالمي سيزيد الصورة سواداً”.

لو كنت لا ترى في مصر سوى قائدي السيارات الذين لا تتجاوز نسبتهم 7% من تعداد مصر فهذا لا يدل إلا على حماقتك. يقول في نهاية مقاله الجميل: “قطاع كبير من الطبقتين الوسطى والعليا في مصر، ويشمل هذا قطاعات من مؤيدي ومعارضي النظام، لا يفهمون معنى أن مصر بلد كبير جداً، سكانه بالداخل تجاوزوا 91 مليون نسمة، بالإضافة إلى 9-10 ملايين بالخارج. هذه الأعداد تسمح بوجود عشرات العوالم والمجتمعات والشعوب المنفصلة تماماً، وتسمح بأن يكون لدينا أعداد ضخمة، مئات الآلاف والملايين من كل الفئات، من الأغنياء والفقراء، من المتعلمين والجهلة، من المهذبين والمنحطين، من الإسلاميين والعلمانيين والثورجية والدولجية واللي ملهومش فيها”.

رائج :   اسئلة انترفيو محاسبة عربي و انجليزى || Arabic

برغم هذا كله يصرون بعناد الأطفال على أن الأمور رائعة .. المرأة التي تصر على أن زوجها طيب وابن حلال بينما هو يضربها علقة يومية ويسلب مالها، والسبب أنها لا تريد شماتة أهلها .. لا تريد الاعتراف بأنها كانت مخطئة. مع الوقت تصير شرسة ومتوحشة تسب أم كل من يناقشها.

يقولون إن علينا أن نتحمل فهي حرب ضروس. والسؤال: هل يقبل الواحد من هؤلاء السادة أن يتنازل عن شهر واحد من راتبه لمصر؟ هل يتنازل عن مليون من ملايينه السنوية؟. الشعب يصبر ولكن متى تنتهي الحرب التي نحن طرفاها معًا؟ يبدو أننا نتحرك نحو ظلام أكثر، ولا يبدو أن حظوظ الفقراء تتحسن أو أن الأسعار سوف تنخفض ونجني الثمار، أو ان الطبقة الوسطى ستنمو من جديد.


استطاعت قوة أمنية أن تحدد شخصية القاتل عن طريق كاميرات المراقبة، وتوجهت إليه لتعتقله. المفاجأة كما قلنا هي أنه كان من رجال أمن الكومباوند .. أي أن حاميها حراميها حرفيًا.

عندما تعيش في كومباوند، فلتتذكر أن هناك اضطرابًا اجتماعيًا واقتصاديًا هائلاً بين ناس يتزاحمون للشراء في الجمعة السوداء وناس يأكلون هياكل الدجاج. تذكر أن أمن الكومباوند قد ينقلب عليك إذا تفاقمت الأوضاع أكثر.. فلتتذكر هذا طيلة الوقت.

نُشر في 30 نوفمبر 2016

مقالات ذات صلة