أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

معنى الحياة .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أنا سيدة مطلقة منذ حوالي عشر سنوات وأعمل بمهنة مرموقة‏,‏ ولقد طلقت من زوجي السابق بسبب عدم الإنجاب وبعد زواج دام ثماني سنوات‏,‏ وخرجت من هذه التجربة القاسية مهلهلة نفسيا وفاقدة للرغبة في الأشياء وتوزعت حياتي بين عملي وبين قلة من الصديقات‏,‏ وبعد تفكير عميق فيما تعرضت له وماعانيته من فشل الزواج‏,‏

قررت ألا أرتبط بأي إنسان آخر بالرغم من أنني كما يقال عني شخصية لطيفة ومحبوبة وعلي قدر من الجمال مما يدفع كل من يقترب مني لطلب الارتباط بي أيا كانت حالته الاجتماعية وعشت حياتي بعد انفصالي عن زوجي السابق مع أبي وأمي اللذين أحاطاني بعطفهما وحنانهما‏,‏ فأنا صغرى الأبناء ولقد تمتعت بقدر كبير من التدليل قبل زواجي ورجعت إليهما أجتر مرارة الفشل فعاودا الاهتمام بي والعطف علي‏.‏

لكن الأيام مضت بالرغم من ذلك بطيئة ثقيلة‏..‏ ولا شيءيحرك مياهها الراكدة‏,‏ وازداد انغلاقي علي نفسي وإزداد فتوري تجاه الأشياء والحياة‏..‏ فلا شيء يدعوني للنهوض من نومي في الصباح سوى ارتباطي القهري بالعمل‏.‏ ولا شيء يدعوني الي العودة إلي البيت سوي أنني لا أجد ما أفعله خارجه‏..‏ وكل من حولي مشغولون بحياتهم وشئونهم وأزواجهم وزوجاتهم وأولادهم‏..‏

رائج :   طلقــة التحذيــر ! .. رسالة من بريد الجمعة

حتي اصبحت أيامي صورة واحدة متكررة لا جديد فيها ومضت عشر سنوات علي هذا الحال وكبر أبي وأمي وتنبهت فجأة قبل أسابيع إلي أن أبي قد دخل مرحلة الشيخوخة وأصبح في حاجة إلي رعاية خاصة ومستمرة‏,‏ وإلي أن أمي قد تقدمت بها هي أيضا السن وضعفت همتها وصحتها عن بذل الرعاية الكافية لأبي في شيخوخته‏,‏ فبدأت أشارك ولأول مرة في حياتي في رعاية أبي‏..‏ وتدفقت دماء الحياة من جديد في عروقي فأصبحت أنهي عملي مسرعة لأرجع إلي البيت لأطعم أبي بيدي‏..‏ وأساعده في التنقل من مكان إلي مكان‏..‏ وأعينه على  ارتداء ملابسه‏,‏ وأقضي معه أجمل الأوقات وهو يشكرني علي اهتمامي به ويدعو لي بالخير والسعادة في الحياة‏..‏

فإذا بي استشعر السعادة التي أفتقدتها منذ سنوات طويلة وأشعر بأن الأمومة التي حرمت منها قد تحركت داخلي وأن الطفل المفقود في حياتي قد ظهر من الغيب وأن أبي هو طفلي المدلل الذي يحتاج دائما إلي وجودي إلي جانبه‏,‏ فدعوت الله أن يطيل في عمره وعمري معه لكي أخدمه وأرعاه وأرد له دينه علي من تدليل ورعاية وعطف وحنان طوال رحلة العمر وأصبحت متعتي الحقيقية في الحياة الآن هي رعايته والحدب عليه كما اصبحت أعشق كل رجل مسن وكل إمرأة مسنة وأمد لكل منهما يد العون بقدر مااستطيع‏,‏ كما أصبحت وهو الأهم أشعر الآن بأهمية وجودي في الحياة

رائج :   ببساطة .. أسباب تخلف العرب . أسباب تقدم الغرب

ولقد كتبت إليك هذه الرسالة لا لكي أشكو من شيء وإنما لكي أوجهها إلي كل من حرمن من الأمومة مثلي ولكل من فقدوا شيئا جوهريا في حياتهم أو مروا بأزمة تصوروا معها أنها نهاية الحياة‏..‏ وأيضا لكل من قست قلوبهم علي آبائهم وأمهاتهم‏,‏ فأقول لمن يفتقدن الأمومة‏..‏ أو مروا بمحنة قاسية في حياتهم أن الله سبحانه وتعالي قادر علي أن يعوضهم عما عانوه خيرا عميما وأقول لمن قست قلوبهم علي آبائهم وأمهاتهم ألا يضيعوا فرصة وجود هؤلاء الآباء والأمهات علي قيد الحياة ويحاولوا تصحيح أخطائهم في حقهم قبل فوات الأوان وشكرا‏.‏

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

كان شاعر الهند الفيلسوف طاغور يقول ان ابلغ درس يتعلمه الإنسان من الحياة هو أنه ليس هناك ألم لايستطيع المرء ان يتخلص منه بعد فترة معقولة من الزمن أو آن يصادقه ويتعايش معه أو يحيله إلي أنس وسعادة بشيء من سعة الأفق وعمق البصيرة‏..‏

رائج :   اللقاء الأول ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

والنظرة الشاملة للحياة  التي تري كل مافيها من جوانب السعادة والألم ولا تتركز فقط على أحزان الإنسان الخاصة‏.‏ ولقد أدركت ياسيدتي أحد اسرار السعادة في الحياة حين تنبهت الي حاجة أبيك في شيخوخته إلي رعايتك له واهتمامك بأمره ونهضت لأداء هذه المهمة بإخلاص فاستعدت حماسك المفقود للحياة‏,‏ واستشعرت معني جديدا لحياتك كان غائبا عنك طوال انحصارك في دائرة معاناتك الشخصية وحدها‏.‏

ولا عجب في ذلك فالإنسان في حاجة دائما الي من يحتاجون إليه‏..‏ ولقد تكون حاجته النفسية الي هؤلاء في بعض الأحيان أعمق غورا من احتياجهم المادي والمعنوي إليه‏.‏ وكلما إزدادت دائرة من يحتاجون إليه أو يعتمدون في حياتهم عليه إزداد هو استشعارا لأهمية الحياة وحماسا لأداء دوره فيها ورغبة في الاستمرار والعطاء ‏..‏

فواصلي حماسك للحياة وعطاءك لأبيك وأمك‏..‏ فأنت إنما تعطين لحياتك بقدر ماتعطين لهما‏..‏ ولسوف يضيف الله سبحانه وتعالي الي أسباب حماسك المستعاد للحياة أسبابا أخري تتعلق بآمالك الشخصية وسعادتك الخاصة في قادم الأيام بإذن الله‏.‏

نشرت عام 2000

من أرشيف جريدة الأهرام

مقالات ذات صلة