قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || سبحان الله

من المؤكد أن هذه القصة ستبدو للعديدين أشبه بالميلودراما الشهيرة، لأفلام المخرج الراحل (حسن الإمام)، ومن المؤكد أيضاً أن العديدين سيعتبرونها مثالاً للرومانسية النمطية، التي انتهى عهدها، ولم تعد مقبولة في هذا العصر، الذي سيطرت عليه الماديات، وانكمشت فيه مساحة العواطف والروحانيات، ولكن دافعي الرئيسي لكتابتها هي أنها قصة واقعية، عاصرت بدايتها ونهايتها بنفسي، وأثارت في أعماقي الكثير والكثير من المشاعر والانفعالات.

والعشرات والعشرات من الأفكار والتحليلات..
ولقد بدأت القصة مع أيامي الأولى في (القاهرة)، التي انتقلت إليها من بلدي الصغيرة، كخطوة حتمية للاقتراب من مواقع العمل، واختصار الوقت الضخم، الذي أفقده في السفر إليها ومنها يوميًا ..
ففي تلك الأيام، كنت أجلس مع صديق جديد، من أصدقاء العمل، نناقش فكرة جديدة، عندما دخل الساعي، وهمس في أذنه بأن سيدة تطلب مقابلته، ولم يكد يذكر له اسمها، حتى انتفض صديقي في اهتمام شديد، وقال للساعي في حماسة:
ـ دعها تدخل على الفور.

ونهض بنفسه لاستقبال السيدة، التي بدت في منتصف العشرينات، هادئة الملامح إلى حد كبير، وإن ارتسمت على وجهها، وأطلت من عينيها لمحة حزن واضحة، أفسدت الكثير من سمات جمالها البسيط، وأضفت عليها عمرًا إضافيًا زائفًا ، وبؤسًا واضحًا، زاد من عمقه ذلك الطفل، الذي لم يتجاوز عمره الأول، والذي تحمله في رفق، وتضمه إليها في حنان، يخيّل إليك أنه يكفي لإسعاد نصف أطفال الأرض دفعة واحدة..

وعندما حاولت مغادرة الحجرة، لأفسح لهما المجال للحديث بحُرية، أصرّ صديقي على بقائي، وانتحى من السيدة المتشحة بالسواد ركنًا من أركان مكتبه، وراح يتبادل معها حديثًا خافتًا، انهمرت خلاله دموعها في غزارة، حتى كدت أشاركها إياه، من شدة انفعالي وتأثري..
وتوقعت أن يعرض صديقي عليها بعض المال، أو أن ينهض ليجري لها بعض الاتصالات بشأنها، إلا أن هذا أو ذاك لم يحدث، وإنما انتهى الحديث بينهما بعد دقائق عشر, لم تزد، ونهضت هي بعدها, ومسحت دموعه وهي تصافحه, قبل أن تنصرف بنفس الهدوء والصمت، اللذيّن دلفت بهما إلى الحجرة..

وعاد صديقي إلى مكتبه، وهو يطلق من أعمق أعماق صدره زفرة حارة، ويهز رأسه مشفقًا, ويغمغم:
ـ ياللبؤس !
وعلى الرغم من فضولي الشديد، لمعرفة ذلك السر، الذي يختفي خلف تلك الأرملة الحزينة ـ كما تصورت ـ إلا أنني لم أجرؤ على سؤاله عنها، خشية أن يكون في ذلك تدخل فيما لا يعنيني، فأنال ما لا يرضيني، إلا أنه تطوع بالحديث قائلًا:
ـ إنها إحدى قريباتي من الدرجة الثانية، توفي زوجها منذ ثلاثة أشهر، وترك لها ابنة لم تبلغ عامها الأول بعد.
شجعني حديثه على أن أقول:
ـ كنت أتوقع هذا، ولكنني تصورت في الواقع أن زوجها توفي منذ مدة أقصر.

تنهد مرة أخرى، ولوح بيده قائلًا:
ـ من المؤكد أن جزءًا كبيرًا من حزنها يعود إلى فقد زوجها، ولكن الجزء الآخر يرجع إلى المشكلات العديدة، التي أحاطت بها بعد موته.
هممت بسؤاله عن تلك المشكلات، أو بعرض استعدادي للمساعدة في حلها، إلا أنني أحجمت عن هذا خشية أن أسيء إليه أو إليها بهذا، ولكنه واصل في بساطة:
ـ عائلة زوجها الراحل تمتلك متجرًا لبيع الذهب والمجوهرات، وكان هو يمتلك ربعه، بعد وفاة والده وتوزيع التركة عليه وعلى أشقائه.

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || لو علمتم الغيب

قلت في اهتمام:
ـ وأعتقد أنه في حال وفاته ستحصل ابنتها على ثلث نصيبه، وتحصل هي على الثمن، ويوزع الباقي على أشقائه..
تنهد في أسف، قائلًا:
ـ ولكنهم يرفضون هذا تمامًا.
قلت في دهشة:
ـ يرفضونه؟! .. ولكن ليس لهم الحق في هذا، قانونًا أو شرعًا.. إنها قوانين المواريث، والمأخوذة من القرآن مباشرة.

هز رأسه في أسى، قبل أن يقول:
ـ المشكلة أن تقييم تركة كهذه أمر شاق للغاية، فأشقاء زوجها الراحل يمكنهم إخفاء معظم البضائع في المتجر، كما يمكنهم وضع عقبات عديدة في طريقها، وهي وحيدة كما ترى، ولا يمكنها التصدي لهم.
سألته في حيرة:
ـ ولماذا يفعلون هذا؟ .. المفترض أنهم أثرياء إلى حد كبير، وهي زوجة شقيقهم الراحل, ونصيبها ليس ضخمًا؟
أجاب في حزن:
ـ المشكلة أنها تريد أن تظل شريكة لهم بنصيبها ونصيب ابنتها من الميراث، إلا أنهم يرفضون هذا تمامًا، ويصرون على منحها قدرًا من المال فحسب، على ألا يكون لها أدنى نصيب من أسهم المتجر.
تضاعفت حيرتي، وأنا أسأله:
ـ وما حكمتهم في هذا؟
تنهد، قائلًا:
ـ يقولون إنها من الممكن أن تتزوج مستقبلًا، ويصبح زوجهم شريكًا لها بالتبعية، وهم يرفضون أن يشاركهم أي غريب عملهم.

قلت في أسى:
ـ ولكنه حقها !
هز رأسه مرة أخرى، قبل أن يقول:
ـ ومن ينظر إلى الحقوق والواجبات في هذا الزمن؟
أحنقني الموقف كثيرًا، وضايقني أن يتعامل أشقاء مع زوجة شقيقهم الراحل بهذه القسوة، وأن يستغلوا قوتهم في مواجهة ضعفها، لإجبارها على التنازل عن حق منحها إياه الله (سبحانه وتعالى)، وأيدته القوانين الوضعية، وسألت صديقي في ألم:
ـ وماذا ستفعل؟
أجابني في خفوت:
ـ بل قل ماذا فعلت .. لقد أخبرتني الآن أنها قبلت عرضهم مرغمة، فهي تحتاج وابنتها إلى النقود، وتعلم أنها لن تستطيع التصدي لسطوتهم واتصالاتهم قط.

سألته في اهتمام:
ـ وهل منحوها من النقود ما يساوي حقها؟
هز رأسه نفيًا، وهو يجيب:
ـ ليتهم فعلوا .. ربنا احتفظت عندئذ بشيء من احترامهم في أعماقي .. لقد أعطوها مائة ألف من الجنيهات، على الرقم من أن الخبراء المحايدين قدروا نصيبها ونصيب ابنتها بربع مليون جنيه دفعةً واحدة ..
ثم مال نحوي، مستطردًا:
ـ ولكن ثق في أن صفقتهم ليست رابحة كما يتصورون، فالله (سبحانه وتعالى) يمهل ولا يهمل.

رائج :   مواء في منتصف الليل .. قصة قصيرة

أيدت قوله بمنتهى الحماسة، ثم طرحنا هذا الأمر جانبًا، وعدنا نناقش فكرتنا الجديدة، وكيفية إخراجها إلى النور، وإن لم تفارق صورة الأرملة الحزينة رأسي بسهولة، وظللت أفكر في موقفها, وموقف أشقاء زوجها الراحل لعدة أيام، ثم لم يلبث الأمر كله أن انزاح من ذهني، مع مشكلات العمل والحياة، حتى نسيته تمامًا مع مرور الوقت ..

ومضى على هذه الواقعة أربعة أعوام كاملة، انمحى خلالها كل أثر لها في أعماقي، ثم كان في يوم، ذهبت فيه لزيارة صديقي هذا، دون موعد سابق، وعندما دخلت إلى مكتبه، نهض لاستقبالي في حرارة، وقدم لي سيدة أنيقة باسمة، تجلس في مكتبه، فصافحتني بابتسامة عذبة صافية، وبقيت بضع دقائق، عرضت خلالها على صديقي خاتمين من الماس، انتقى أحدهما لزوجته، ومنحها شيكًا بثمنه، ثم انصرفت وهي تدعوني لزيارة متجرها مع زوجتي، لمشاهدة معروضاتها الفريدة..

ولم تكد السيدة الأنيقة تغلق الباب خلفها، حتى مال زميلي نحوي، وسألني في لهفة عجيبة:
ـ ألا تذكرها؟
انعقد حاجباي في محاولة للتذكر، وأنا أقول:
ـ الواقع أن ملامحها مألوفة إلى حدٍ ما، ولكنني لست أذكر متي رأيتها بالضبط، ولا أين؟
اتسعت ابتسامته، وهو يقول:
ـ لقد التقيت بها هنا، في مكتبي، منذ أربع سنوات تقريبًا, ولكنها كانت ـ حينذاك ـ أرملة متشحة بالسواد، تحمل طفلة لم تتجاوز عامها الأول بعد ..

استعاد ذهني الموقف كله فجأة، ووجدت نفسي أهتف في دهشة:
ـ أمن المعقول هذا؟!
أومأ برأسه إيجابًا، وهو يبتسم، قائلًا:
ـ اختلفت كثيرًا .. أليس كذلك؟
قلت في حماسة:
ـ بل اختلفت تمامًا .. لم تعد أبدًا تلك الأرملة الحزينة البائسة .. لا ريب في أن تطورات عديدة قد حدثت، خلال هذه السنوات الأربع.

تراجع في مقعده، قائلًا:
ـ لو أخبرتك بما حدث، لن تصدق نفسك.
سألته في لهفة:
ـ وماذا حدث بالضبط؟
أجابني في حماسة:
ـ أنت تذكر أن أشقاء زوجها أعطوها مائة ألف جنيه، تعويضًا عن نصيها في تركته، وأقنعوا المجلس الحسبي بأن هذا كل ما تستحقه، ورضخت هي للأمر تمامًا، واكتفت بوضع المبلغ في البنك كوديعة, والإنفاق مع أرباحه على نفسها وابنتها، في حين حصلت على عمل بسيط في شركة كبرى من شركات الاستثمار، بذلت فيه أقصى وقتها وجهدها وطاقتها، في محاولة لنسيان زوجها الراحل، وتأمين مستقبلها إلى حدٍ ما .. ولأنها أمينة ومخلصة، وقليلة الكلام والشكوى، ترقت في عملها خلال عام واحد, وأصبحت مسئولة عن مصروفات الشركة، وعملية الإحلال والتجديد، مما جعل علاقتها بصاحب الشركة مباشرة، حيث كانت تحتاج إلى توقيعه قبل إصدار أية شيكات، أو دفع أية مصروفات .

واتسعت ابتسامته، وهو يضيف:
ـ ثم تزوجا.
هتفت في دهشة:
ـ تزوجت صاحب الشركة؟!
أومأ برأسه إيجابًا، وهو يقول:
ـ نعم تزوجته .. كان أرملًا أيضًا منذ ثلاثة أعوام، ووجد فيها النضج والتهذيب والاحترام، وشعر أنها تصلح كزوجة لرجل مثله، فلم يتردد في طلب يدها, وعقد قرانه عليها، ونجح زواجهما بفضل هدوئها وحكمتها، وأنجبت منه طفلة أخرى، لم يفرق أبدًا في المعاملة، بينها وبين طفلتها من زوجها السابق.

رائج :   ما تقولوا ليه بتهينوا مصر؟ || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

شعرت بالارتياح لحديثه، وأنا أقول:
ـ حمدًا لله .. لقد عوضها عن مأساتها خيرًا.
أشار بسبابته قائلًا:
ـ مهلًا يا صديقي، فالأحداث المثيرة لم تبدأ بعد.
سألته في دهشة:
ـ هل تطورت الأحداث أكثر؟
أجاب مبتسمًا:
ـ بالتأكيد، ومن جانب أشقاء زوجها هذه المرة.
ملت نحوه، أسأله في لهفة:
ـ وكيف؟

أجابني في حماس واضح:
ـ طمعهم دفعهم للقيام بمحاولة لتهريب الماس، ألقوا خلالها بكل ما لديهم من أموال سائلة، وبكل ما اقترضوه من البنوك، على أمل نجاح المحاولة، وتحقيق أرباح خرافية، ولكن محاولتهم فشلت، وألقت الشرطة القبض عليهم، واضطروا للتنازل عن صفقة الماس كلها، في مقابل عدم مواصلة الإجراءات، وإقامة الدعوى الجنائية ضدهم، فتمت مصادرة الماس، وخسروا كل ثروتهم، وأصبحوا مدينين بما يقرب من أربعة ملايين جنيهًا.

قلت مبهورًا:
ـ سبحان الله .. يمهل ولا يهمل.
أجابني في حماسة أكبر:
ـ انتظر يا رجل ما زال للقضية بقية.
هتفت:
ـ أكثر من هذا؟!
أجاب ضاحكًا:
ـ أكثر بكثير، فعندما أفلسوا، اضطروا لبيع فيلتهم الفاخرة، متجر المجوهرات والذهب، فتقدم زوج قريبتي لشرائها، وجعل عقود البيع والشراء كلها باسمها، فأصبحت هي المالكة الفعلية للفيلا، ومتجر الذهب والمجوهرات، الذي كان لزوجها الراحل ربعه فحسب.

انفغر فاهي وأنا أحملق في وجهه غير مصدق، وهو يتابع في ارتياح:
ـ هل رأيت كيف أنه من الخطأ أن تمكر بحدود الله (سبحانه وتعالى)؟! .. لقد أرادوا حرمانها من بضعة ألوف من الجنيهات، ومن نصيب ضئيل في شركتهم، فمنحها الله (عز وجل) شركتهم كلها, وأصبحوا هم مجرد موظفين لديها .. صدقني يا رجل .. الله (سبحانه وتعالى) يمهل ولا يهمل أبدًا، وهو خير الماكرين ..

لم أستطع التعليق على حديثه هذه المرة، فقد انعقد لساني من شدة انبهاري ودهشتي, وغادرت مكتبه وأنا اضرب كفًا بكف، وأتساءل: هل سيصدق قرائي القصة لو كتبتها؟! .. هل سيصدقون أن ما يحدث في الحياة، يفوق كل ما نراه على شاشات السينما، في أفلام الميلودراما العنيفة؟!
ولكنني اتخذت قراري بكتابة القصة، حتى ولو لم يصدق قارئ واحد أنها قصة حقيقية واقعية، من الألف إلى الياء ..
قصة لا أملك معها سوى أن أردّد عبارة واحدة:
سبحان الله ..

________________
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ الكوكب العاشر ـ رقم 22)

مقالات ذات صلة