انعقد حاجبا درويش بمنتهى القسوة والشراسة، وهو يجلس واضعا إحدى ساقيه فوق الأرض، متطلعا إلى ذلك الشاب، الذي لم يتجاوز العشرين من عمره بعد، والذي أمسك به اثنان من رجاله، وأجبراه بقسوة على الركوع أمامه، وهو يهتف في ذعر باكيا:
– أقسم إنني سأدفع ثمن ما أخذته.. غدا سأحضر لك المبلغ المطلوب.. إنها أزمة عابرة فحسب..
زمجر درويش في شراسة، جعلته أشبه بذئب برّي متوحش، وهو يقول:
– لقد أمهلتك أسبوعين كاملين، لتدفع ثمن البضاعة، واليوم تنتهي المهلة، وليس من عادتي مدّ المهلة، مهما كانت الأسباب.
بكى الشاب في انهيار، وهو يقول:
– ولكنني أقسم أن أدفع المبلغ غدا.. أمهلني فقط حتى ظهر الغد، وسأسدد الثمن كله، حتى ولو اضطررت لسرقة مصاغ والدتي، و…
قاطعه درويش بزمجرة أكثر شراسة:
– لا يوجد غد.. بالنسبة لك على الأقل.
انهار الشاب أكثر، وهو يقول ودموعه تغرق وجهه:
– الرحمة.. أرجوك.
صرخ فيه درويش:
– ليست مسألة رحمة.
ثم تراجع في مقعده، وأضاف في شيء من الزهو الوحشي:
– إنها مسألة مبدأ.
كاد الشاب المسكين يفقد الوعي، وهو يقول:
– ولكنني وحيد والديّ، ولن يبخلا بأي شيء في مقابل حياتي.
لوّح درويش بذراعه، في حركة مسرحية، وهو يقول:
– هراء… إنهما حتى لم يحسنا تربيتك.
لم ينبس الشاب ببنت شفة، وهو يبكي وينتحب بصوت مرتفع، فتابع درويش، وقد اكتست لهجته بلمحة من الشماتة:
– أنت شاب مرفه، من أسرة ذائعة الصيت، ووالداك من طبقة تتصور نفسها فوق كل الطبقات، وتنظر إلى أمثالنا من علٍ، نظرة احتقار وازدراء، وينفقان عليك بسخاء؛ لتصل إلى أعلى مستويات التعليم، الذي لم نحظ نحن بأدناه.
ارتفع بكاء ونحيب الشاب أكثر، مما زاده انتعاشا وزهوا وشماتة، وهو يتابع:
– والأثرياء أمثالكم يتصورون أن المال هو كل شيء.. فقط لأنهم يمتلكونه.. وينسون أن التربية هي الأساس.
بدت هذه الموعظة عجيبة تتناقض وبشدة مع هيئة درويش، وعمله في تجارة المخدرات، إلا أن الشاب المنهار لم يعلق على هذا، واكتفى ببكاء عنيف، جعل درويش يزداد شماتة، وهو يقول في ازدراء متعمد:
– انظر إلى نفسك.. شاب يتلقى التعليم في أغلى جامعات مصر، وعلى الرغم من هذا لم يمكنه مقاومة ميله الطفولي لتجربة المخدرات.
تمتم الشاب في صعوبة، من وسط بكائه:
– أقسم ألا أعود إليها مرة أخرى.
أطلق درويش ضحكة عالية ساخرة وحشية، قبل أن يقول:
– قسم ستبرّ به حتما؛ لأنك لن تكون بيننا لتعود إليها مرة أخرى.
ثم بدأت لهجته تكتسي بالشراسة، وهو يضيف:
– ولا حتى إلى والديك.
تصور أحد الوحشين اللذين يمسكان بالشاب أن هذا بمثابة إصدار الحكم، فقال في غلظة بدت وكأنها جزء من شخصيته:
– هل ننهي الأمر؟!
ارتجف الشاب في رعب، في حين التمعت عينا درويش، وهو يشير بسبابته، قائلا:
– أرأيت أيها المدلل؟ بإشارة واحدة مني أهبك الحياة أو الموت.
انتفض الشاب في عصبية مفاجئة، وصاح على الرغم من دموعه وانهياره:
– ومن أنت حتى تهب الحياة أو الموت؟!
انتفض درويش بدوره، وحدق في الشاب ذاهلا، غير مصدق أنه قد نطق تلك الكلمات…
ولكن الشاب تابع في غضب عجيب، وكأنما أدرك أنه هالك لا محالة، فلم يعد يجد داعيا للتوسل:
– الله سبحانه وتعالى وحده يحيي ويميت.. أما أنت، وكل ضباعك الشرسة، فلستم سوى مخلوقات ضعيفة، لو سلّط عز وجل عليكم كلبا من كلابه، لما بقيت فيكم خلية واحدة حية، أو عرق واحد ينبض.
تضاعف ذهول درويش وغضبه واستنكاره، واحتقن وجهه في شدة من فرط شعوره بالمهانة، في حين غمغم أحد الوحشين، في ذهول مماثل:
– لقد جُنّ.
صرخ فيه الشاب:
– بل قل: إن مواجهة الموت قد أعادت إليّ عقلي وصوابي.. إنني أتساءل: كيف سقطت في هذا المستنقع؟! وكيف أسأت إلى نفسي وعائلتي وربي سبحانه وتعالى، بالتورط مع حقراء أمثالكم.
همّ أحد الوحشين بضربه على رأسه، إلا أن درويش استوقفه بإشارة صارمة من يده، نهض بعدها من مقعده، الذي يتخذه عرشا لمملكة المخدرات التي يتزعمها، واتجه نحو الشاب، بوجهه الذي لم يفقد احتقانه بعد، ومال نحوه، قائلا في وحشية غاضبة:
– كلب من كلابه؟! هل تصوّرت أن كلبا يمكن أن يرجف شعرة واحدة في رأس درويش، ملك الكيف في مصر كلها؟
أدهشه أن الشاب قد بدا وكأنه قد اكتسب شجاعة مفاجئة، وهو يقول في تحدٍّ، على الرغم من سوء موقفه:
– وهل تصوّرت أنت أن كلاب الله سبحانه وتعالى تشبه كلابنا نحن؟!
احتقن وجه درويش أكثر، وأيقن من أن الشاب قد فقد عقله بالفعل، وإلا لما جفّت دموعه، واكتسب هذه الشجاعة المفاجئة!!
إلا أن هذا لم يصنع عنده فارقا…
لقد أهانه..
وأمام رَجُليه..
وهو ليس بالرجل الذي يغفر هذا..
أبدا..
وبكل غضبه ووحشيته، ووجهه الذي ازداد احتقانا، اعتدل درويش، وضغط أسنانه في قوة، حتى لا تخرج كلماته غاضبة عصبية..
وبعد لحظات من الصمت، قال في بطء وحشي:
– سأريك أنني أهب الحياة أو الموت بإشارة من سبابتي.
قال الشاب في تحدٍّ عجيب:
– هراء.
كظم درويش غيظه أكثر، وقال:
– سترى.. لا أريده أن يموت ميتة عادية.
ورمق الشاب بنظرة متحدية، مضيفا:
– أريده أن يذوق أبشع أنواع العذاب وأقساها وأقصاها، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
كان يتصور أن كلماته ستثير الرجفة في أوصال الشاب، إلا أنه ارتطم بنفس النظرات المتحدية، فأكمل، غير قادر على كتمان عصبيته هذه المرة:
– وأريد تشويهه بشدة، وحرق أطرافه في بطء، حتى تصاب أمه بحالة من الهلع، لا تفارقها طيلة حياتها، عندما نلقي جثته أمام منزله.
مرة أخرى واجهه الشاب بتلك النظرة المتحدية، والتي أفقدته أعصابه هذه المرة، فصرخ بكل ثورته:
– الآن.. خذوه وافعلوا به هذا الآن.
جذب الوحشان الشاب في قوة، وكل شر ووحشية الدنيا يطلان من عيونهما، و…
وفجأة، ظهر هذا الغبار…
غبار كثيف، اندفع داخل تلك الحجرة، في قبو فيلا درويش، التي اختار لها تلك البقعة النائية، البعيدة عن العمران…
وكرد فعل طبيعي، التفت الكل إلى باب القبو، حيث ظهر الغبار..
ومع التفاتتهم، ارتفعت تلك الزمجرة المخيفة..
زمجرة قوية..
عالية..
رهيبة..
زمجرة زلزلت كيانهم، وارتجفت لها أوصالهم، وانخلعت معها قلوبهم..
ثم عبر ذلك الجسم الضخم سحابة الغبار..
وتجمّدت الدماء في عروقهم جميعا..
حتى ذلك الشاب..
فذلك الجسم، الذي عبر سحابة الغبار، ورمقهم بعينيه اللامعتين المخيفتين، كان آخر شيء يتخيلون رؤيته في قبو كهذا..
كان أسدا..
أسد قوي، رهيب، مخيف، في ضِعف حجم الأسود العادية..
على الأقل..
ولثوانٍ، أدار ذلك الأسد الهائل عينيه في وجوههم..
ثم توقف بصره عند الوحشين، اللذين يمسكان الشاب..
كان وكأنه قد انتقى فريسته الأولى، عندما توقف ببصره عندهما لحظات، حاول أحدهما خلالها أن يسحب مسدسه في حذر..
ولكن الأسد الهائل انقضّ فجأة..
وقبل حتى أن يجد أحدهما وسيلة أو مكانا للفرار، كانت مخالب الأسد تمزق عنق أحدهما، وأنيابه تنغرس في عنق الآخر..
وبكل رعبه، تراجع الشاب عدوا إلى ركن القبو، وانكمش هناك يرتجف في شدة..
وأمام عينيه، شاهد الوحشين البشريين يسقطان أرضا، والدماء تنزف من عنقيهما في غزارة مخيفة، وجسداهما يتلويان في ألم رهيب، وهما يلفظان أنفاسهما الأخيرة..
ثم رأى الأسد يلتفت إلى درويش، الذي تجمّد على عرشه الخشبي، واتسعت عيناه عن آخرهما، وارتسمت على وجهه أبشع آيات الرعب..
وفي بطء، اتجه الأسد نحوه، دون أن يرفع عينيه عن وجهه..
وعندما خمدت حركة الوحشين البشريين تماما، وتسمّرت نظراتهما، مع الرعب الذي لم يفارق ملامحهما، كان الأسد يقف أمام درويش مباشرة..
وكطفل مذعور مبلول، في طقس عاصف شديد البرودة، راح جسد درويش يرتجف، وراح يتمتم بكلمات وهمهمات، لم يتبيّنها الشاب المنكمش المذعور في البداية..
ثم، وفي حركة واحدة، انقضّ عليه الأسد..
ومع ثقل حجمه الهائل، سقط درويش مع مقعده أرضا..
وجثم الأسد الرهيب، بكل ثقله على صدره..
في تلك اللحظة، انهارت ثقة درويش، وانهارت معه غطرسته وزهوه..
لقد تحوّل إلى فأر مذعور، يصرخ بلا انقطاع، بنفس الكلمات، التي لم يتبيّنها الشاب في البداية:
– عرفتُ كيف يبدون.. عرفتُ كيف يبدون.
ومع آخر كلماته، مال الأسد برأسه نحوه في بطء، وغرس أنيابه في عنقه، ثم توقف على هذا الوضع، وكأنما يريد أن يذيقه بعض العذاب أولا..
وعندما جحظت عينا درويش عن آخرهما، من فرط الألم والرعب، أكمل الأسد عمله، وقضم قضمة كبيرة من عنقه..
ومع الدماء التي اندفعت كالشلال، رفع الأسد رأسه، ثم التفت إلى الشاب المسكين، الذي جحظت عيناه بدوره، والتصق بالجدار بشدة، في انتظار مصيره..
وفي هدوء، اتجه الأسد نحوه، وتطلع إلى عينيه مباشرة..
الطبيعي، في مثل هذا الموقف، كان أن ينهار الشاب تماما، مع قدر هائل من الرعب، يكفي مدينة كاملة..
ولكن العجيب أنه لم يشعر بهذا!!
شيء ما في عيني ذلك الأسد الهائل، الذي يفوقه حجما بأربع مرات على الأقل، جعله يشعر بشعور عجيب للغاية..
بالارتياح..
ومن خلف باب القبو المفتوح، والذي لم ينقشع عنه الغبار بعد، سمع الشاب صوت رجل يهتف:
– هنا.
وفي هدوء، التفت الأسد إلى مصدر الصوت، ثم اتجه نحو الباب، تاركا الشاب خلفه، وقد شمله هدوء نفسي عجيب وعميق..
“ولكن كيف فعلها؟!”
هتف مسئول حديقة الحيوان بالعبارة المتسائلة في دهشة بالغة، وهو يحدق في الشاب، الذي أجابه في هدوء أدهش الجميع:
– لقد رويت لكم كل ما حدث.
هزّ مسئول حديقة الحيوان رأسه في قوة، وهو يقول:
– ليس هذا ما أسألك عنه.. إننا نتساءل: كيف فرّ من قفص مُحكم، ونحن في طريقنا لنقله إلى حديقة الحيوان؟! ولماذا في هذه المنطقة بالذات؟! ثم وهو ما يحيرنا أكثر، لماذا قتل الرجال الثلاثة، ثم لم يمسَّك بخدش واحد؟!
تنهد الشاب في ارتياح، وأغلق عينيه لحظة، ثم عاد يفتحهما، وهو يجيب في خفوت:
– سل من أرسله..
ولم يفهم الرجل الجواب..
ولم يستوعب أيضا سر ابتسامة الشاب، وهو ينطق إجابته..
لم يستوعبها..
أبدا.