تاريخقضايا وأراءوعي

هزيمة يونيو المستمرة || (٦) : الخطة “فجر” الموءودة في الفجر

ثلاثة مشاهد

المشهد الأول:

الزمان:

السابعة صباح يوم ٢٦ مايو ١٩٦٧ بتوقيت القاهرة؛ منتصف ليلة ٢٥-٢٦ مايو بتوقيت واشنطن.

المكان:

وزارة الخارجية الأمريكية بواشنطن.

يوجين روستو، مساعد وزير الخارجية الأمريكية، يطلب مقابلة السفير مصطفى كامل، سفير الجمهورية العربية المتحدة ( ج. ع. م.)، بصفة عاجلة. وعندما حضر السفير لمكتب روستو طلب الأخير من مساعديه ترك الغرفة لينفرد بضيفه كي يبلغه الرسالة الآتية:

“إن أعداءكم [أي الإسرائيليين] يعتقدون أن مصر وسوريا على وشك شن هجوم في أي لحظة. نحن لا نعتقد أن ج.ع.م. ممكن أن تتصرف بتلك الرعونة، فهذا النهج سيكون له بالطبع نتائج وخيمة.

وبالتالي فنحن ما زلنا نحث إسرائيل على ضبط النفس.”

ويمكن الاطلاع على صورة من هذه الرسالة وتعليق الخارجية الأمريكية عليها لسفارتهم في القاهرة هنا.

وهذه الصورة متاحة ضمن مطبوعات وزارة الخارجية الأمريكية التي تقوم بنشرها بصفة دورية)

وعلى الفور قام السفير مصطفى كامل بكتابة برقية شفرية للقاهرة بمضمون المقابلة. (ويمكن الاطلاع على نص البرقية في هيكل، الانفجار، ص ٥٧٥-٥٧٦، وعلى صورة أول صفحة منها ص ١٠٢٢)


المشهد الثاني:

الزمان:

الساعة ٥:٣٠ مساء بتوقيت القاهرة، ١٠:٣٠ صباحا بتوقيت واشنطن؛ يوم ٢٦ مايو ١٩٦٧.

المكان:

وزارة الدفاع، البنتاجون، مكتب وزير الدفاع، روبرت ماكنمارا.

وزير الخارجية الإسرائيلي، أبا إيبان، الذي وصل لتوه من تل أبيب، يجتمع مع وزير الدفاع الأمريكي، روبرت ماكنامارا، ليستوضح منه إذا كانت الولايات المتحدة ما زالت ملتزمة بتعهداتها التي قطعتها على نفسها عام ١٩٥٧ بضمان حرية مرور السفن الإسرائيلية في خليج العقبة.

وفي أثناء المناقشة استُدعي السفير آفرام هارمان، سفير إسرائيل لدى واشنطن، الذي كان حاضرا الاجتماع أيضا، للرد على مكالمة تليفونية من تل أبيب، وعندما عاد بعد دقيقتين قدم لإيبان ورقة تفيد بأن أجهزة المخابرات الإسرائيلية تؤكد على قرب قيام ج. ع. م. بالاشتراك مع سوريا بشن هجوم مباغت على إسرائيل في أي لحظة.

ماكنمارا أكد أن أجهزة المخابرات الأمريكية المختلفة تختلف مع هذا التحليل وتؤكد على أن المعلومات الواردة من سيناء توضح أن الحشد المصري الذي بدأ في ١٤ مايو دفاعي وليس هجوميا.

ولكن إيبان أكد بدوره أن ما وصله ليس “تحليل معلومات” ولا حتى” معلومات” بل “يقين” not just an evaluation of intelligence but is “information”, a word he later changed to “knowledge.”

(ويمكن الاطلاع على نص محضر الاجتماع ضمن مطبوعات وزارة الخارجية الأمريكية هنا)


المشهد الثالث:

الزمان:

الساعة ٣ فجرا يوم ٢٧ مايو ١٩٦٧؛

المكان:

منزل الرئيس جمال عبد الناصر بمنشية البكري.

تليفون الطوارئ الموضوع على مائدة بجوار سرير عبد الناصر يرن.

المتحدث هو السكرتير المناوب القائم بعمل ساعات الليل يخبر الرئيس بأن السفير السوفيتي، ديمتري بوجداييف، على الباب يطلب محادثته في أمر عاجل لا يحتمل التأخير.

يقوم عبد الناصر من فراشه في عجالة، ويضع روب دي شامبر على بيجامته، ويلبس الشبشب، ويسرع لمقابلة السفير في الطابق الأرضي من منزله.

يُخرج بوجداييف من جيبه مظروفا ويقرأ رسالة من أليكسي كوسيجين، رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي، مؤداها أن الرئيس ليندون جونسون، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، قد اتصل به لتوه على الخط الساخن بين البيت الأبيض والكرملين ليخبره أن القوات المصرية ترتب لهجوم على إسرائيل، وطلب منه التدخل عبر سفيره في القاهرة لمنع هذا الهجوم، وإلا فالولايات المتحدة ستعتبر نفسها في حل من التعهدات التي أعطتها للاتحاد السوفيتي بظبط النفس. (حسنين هيكل، الانفجار، ص ٥٧٧-٥٧٨).


عند تحليله لهذه التطورات الدرامية المتلاحقة يقول هيكل في كتابه، الانفجار، (ص ٥٧٧) إن ما كان يشغل عبد الناصر ليس الوقوف على حقيقة موقف الاتحاد السوفيتي أو إذا كانت الولايات المتحدة تريد أن تبلغه رسالة تهديد، بل أن هذه المعلومات و”تحذيرات ما بعد منتصف الليل” كما يسميها هيكل أوضحت لعبد الناصر أن هناك تسريب ما، والسؤال الذي يقول هيكل إنه شغل عبد الناصر هو إذا كان هذا التسريب من القيادة، أم أن إسرائيل قد حصلت على تفاصيل العملية الهجومية (التي كان اسمها “فجر” كما هو مشروح أسفل) عن طريق كسر شفرات القوات المصرية.

وكان هيكل قد أمضى ست صفحات للتطرق لموضوع الشفرات وكسرها، وأخذ يسرد وقائع طريفة عن قدرة وحدة الاستطلاع البحري المصرية على كسر شفرات القطع البحرية الأمريكية التي تصول وتجول في البحر المتوسط.

وبالتالي وبعد أن أكد على أهمية الشفرات وكسرها، شرح لنا هيكل كيف استدعى عبد الناصر عبد الحكيم عامر في الصباح الباكر يوم السبت ٢٧ مايو لكي يصارحه بهواجسه، “وطلب إليه أن تغير القوات المصرية شفراتها، وأن تفعل ذلك كل ثلاثة أيام توقيا لكافة الاحتمالات.

لكن الموضوع ظل يلح على خاطره طوال اليوم وحتى أوى إلى فراشه. (هيكل، الانفجار، ص ٥٧٣ و٥٧٧)

ولكن هل صحيح أن ما كان يشغل عبد الناصر حقًا هو موضوع كسر الشفرات، أم أن ما كان يضج مضجعه شيء آخر تمامًا؟


لكن قبل التطرق للأسباب الحقيقية التي شغلت بال عبد الناصر والتي يشير إليها هيكل ضمنًا دون التوقف عندها كثيرًا، يجب التأكيد على خطورة موضوع كسر الشفرات.

فموشى ديان يقول في مذكراته إن الاستخبارات الإسرائيلية استطاعت أن تلتقط أمر القتال المتعلق بالعملية “فجر”. (Moshe Dayan, The Story of my Life, pp. 325-6) .

ويقول الفريق أول عبد المحسن مرتجي في مذكراته، الفريق مرتجي يروي الحقائق ( ص ٩١-٩٢)، إن عددا من الضباط المصريين وقعوا في الأسر يوم ٢٨ مايو بالقرب من إيلات عندما تخطت وحدتهم الحدود الدولية، وعندها خشيت القيادة العليا من أن يكون أمر الخطة “فجر” قد افتضح،

لكن مرتجي عاد ليؤكد أن قائد الفرقة لم يكن قد لقن خطته إلا لقادة الألوية فقط، وأن هؤلاء الضباط كانوا في مهمة استطلاعية وضعت ضمن خطة خداع لتضليل العدو. على أن الكتابات الأكاديمية الإسرائيلية تؤكد أن هؤلاء الضباط الأسرى أوضحوا للإسرائيليين بالفعل حقيقة الخطة “فجر”. (Michael Oren, Six Days of War, p. 121.)

وبعد انتهاء الحرب بمدة قصيرة نشرت إسرائيل كتابا دعائيا ووزرعته على نطاق واسع وتباهت فيه بتمكنها من زرع جاسوس في وسط قيادة القوات الجوية المصرية لمدة اثنى عشر عاما. الكتاب عنوانه وتحطمت الطائرات عند الفجر ونُشر أن مؤلفه يُدعى باروخ نادل، أو باروخ ماندِل.

يزعم الكتاب أن هذا الجاسوس استطاع أن ينشئ صداقة حميمية مع الفريق صدقي محمود، قائد القوات الجوية والدفاع الجوي، ويزعم أن صداقاته شملت أيضا زكريا محيي الدين (وكان آنذاك رئيسا للوزراء والمسؤول الأول عن شؤون الأمن والاستخبارات).

ويقول الكتاب إن هذا الجاسوس كان يُدعى لحضور اجتماعات قيادة القوات الجوية، وأنه كان يرافق الفريق صدقي محمود في جولاته إلى القواعد الجوية في سيناء وغيرها، وأن زكريا محيي الدين دعاه يوم ٢٢ مايو ليتجول بتصريح رسمي منه في جميع القواعد الجوية المصرية وأن يضع له تقريرا يوضح نواقصها ونواحي الإهمال فيها.

وكان هذا الكتاب أيضا من أهم مصادر الإشاعة المغرضة التي قالت إن حوالي ٤٠٠ ضابط وطيار حضروا حفلة ساهرة ليلة ٤-٥ يونيو في قاعدة أنشاص.

على أن أهم ما جاء في الكتاب إدعاؤه أن باروخ نادل هو الذي أرسل رسالة لإسرائيل ليلة ٢٥ مايو باعتزام مصر شن هجوم جوي شامل على مطاراتها وقواعدها العسكرية، وهو الأمر الذي مكّن العدو من الاستعداد للهجوم والاحتراز منه. (ص ٢٤٧)

هذه ادعاءات مذهلة لدرجة يصعب تصديقها، وبالرغم من ذلك فالكتاب كان له تأثير بالغ السوء على الحالة المعنوية المصرية إذ أنه نُشر في وقت (١٩٦٨) انعدمت فيه الثقة تماما في القوات المسلحة بشكل عام وفي القوات الجوية تحديدا كما سأوضح في مقال لاحق.

ويُذكر أن هذا الكتاب هو الذي حدا بدار الشروق في عام ١٩٧٤ أن تختار عنوان الكتاب الذي كتبه أحمد بهاء الدين احتفاءا بحرب أكتوبر، فجاء كتابه “وتحطمت الأسطورة عند الظهر” ليدحض افتراءات باروخ نادل ويمحو تأثير كتابه.

 أحمد بهاء الدين احتفاءا بحرب أكتوبر، فجاء كتابه “وتحطمت الأسطورة عند الظهر”
أحمد بهاء الدين احتفاءا بحرب أكتوبر، فجاء كتابه “وتحطمت الأسطورة عند الظهر”

رائج :   لماذا أعتبر فيلم توم هانكس A Hologram for the King بمثابة “تعرية” للعرب


وإذا نحينا جانبا موضوع الشفرات وكسرها، والجواسيس ومغامراتهم، فمما لا شك فيه هو أنه كانت هناك بالفعل خطة هجومية اسمها “فجر” مختلفة اختلافا جوهريا عن الخطة “قاهر” الدفاعية التي تناولناها في مقال سابق.

فالفريق أول محمد فوزي يذكر في كتابه، حرب الثلاث سنوات (ص ١١٨)، إن الخطة “فجر” صدرت بها توجيهات المشير رقم ١٦/١٩٦٧ في ٢٣ مايو ١٩٦٧. وكان هدف هذه الخطة عزل منطقة النقب الجنوبي وإيلات. وخصص لها قوات برية وبحرية وجوية.

أما القوات الجوية فوُضع لها خطة مستقلة اسمها “أسد” بقصد توفير الحماية الجوية والاستطلاع الجوي، ومجهود مباشر بقوة ٩ طلعات سرب مقاتل-قاذف، وطلعة سرب قاذف خفيف يوميًا، ولمدة ثلاثة أيام.

كما يذكر فوزي إن الفريق مرتجي صادَق على الخطة في الساعة الثامنة من مساء يوم ٢٥ مايو. أما المشير فصادق عليها في اليوم التالي، أي ٢٦ مايو، وكان من المفترض أن تُشن في الساعة الثامنة مساء يوم ٢٨ مايو.

حرب الثلاث سنوات
حرب الثلاث سنوات

إذن، فالخطة “فجر” لها وجود حقيقي، وليست من محض افتراءات الجاسوس الإسرائيلي، كما أن توقيتها وتفاصيلها متطابقة إلى حد بعيد مع ما ذكره الإسرائيليون وقتها. وبالتالي فإن هيكل على حق في قوله إن عبد الناصر ارتاب بالفعل في مصدر الرسالتين اللتين وصلتاه يومي ٢٦ و٢٧ مايو واللتين تفيدان أن إسرائيل قد علمت بالفعل بأمر الخطة “فجر”.

على أن السؤال يبقى: هل كان ما يقلق عبد الناصر أن أمر هذه الخطة قد وصل لإسرائيل عبر طريق ما ، تسريب من القيادة أو فك شيفرة، أم أن ما كان يقلقه هو وجود هذه الخطة من الأساس؟


في يوم ٢٥ مايو عُقد مؤتمر في القيادة العامة للقوات المسلحة حضره الرئيس عبد الناصر؛ والمشير عبد الحكيم عامر، وقادة أفرع القوات المسلحة — البرية والجوية والبحرية — والفريق أول محمد فوزي، رئيس الأركان؛ والفريق أول أنور القاضي، رئيس هيئة العمليات؛ والفريق صلاح محسن، قائد الجيش الميداني؛ والفريق أول عبد المحسن مرتجي، قائد الجبهة الشرقية؛ واللواء محمد صادق، مدير المخابرات الحربية.

لم يسهب هيكل في شرح ما دار في هذا الاجتماع ربما لأنه لم يكن حاضرا، واكتفى بأن قال “كان جمال عبد الناصر على موعد في القيادة العامة للقوات المسلحة لاجتماع مع هيئة القيادة العلية تحدد له الساعة الثامنة مساء. (ص ٥٦٥)

ولكنه بعد بضعة صفحات يقدم عرضا دقيقا لما قاله عبد الناصر لعامر عندما التقيا في مكتب عبد الناصر في الصباح الباكر يوم ٢٧ مايو، أي بعد استلام الرسالتين التحذيرتين من واشنطن: الرسالة المباشرة التي بعث بها السفير مصطفى كامل، والرسالة غير المباشرة التي وصّلها السفير دميتري بوجداييف.

ففي صفحتي ٥٧٣-٥٧٤ ينقل هيكل عن عبد الناصر قوله لعامرإنه قد “لاحظ في اجتماع [القيادة يوم ٢٥ مايو] أن المشير عبد الحكيم عامر يتحدث بطريقة ظاهرة وبطريقة ضمنية عن الضربة الأولى ومن يوجهها والضربة الثانية ومن يتلقاها.

وكان رأيه [أي رأي عبد الناصر] أن الدوران طويلا حول هذه المسئلة من شأنه أن يخلق بلبلة لدى القوات. فالحرب جهد سياسي شامل يدخل القتال كعنصر من عناصره في وقت من الأوقات”.

ثم أخذ هيكل يلخص كلام عبد الناصر لعامر عن توازنات القوى، الإقليمية والعالمية، وكيف ستقرأ هذه القوى، بالإضافة للرأي العام العالمي، التحركات العسكرية المصرية.

ثم ردد هيكل كلام عبد الناصر لعامر: “إن هدفه الرئيسي في إدارة الأزمة هو أن نخرج منها بسلام ودون حرب، ومع أن نسبة نشوب الحرب كما قال … في اجتماع القيادة قد زادت عن ٦٠٪، فهو لا يزال واثقًا أن جهود كثيرين … لكسب الوقت يمكن أن تؤدي إلى تخفيض نسبة المخاطرة، وأن نجيء في هذه اللحظة ونتحدث عن ضربة أولى فهذا كلام غير مسؤول.”

عبد الناصر مع هيكل
عبد الناصر مع هيكل

رائج :   10 نصائح .. عشان تبقى دكتور كويس فـي البلد\دي

ويضيف هيكل:

“ثم أشار جمال عبد الناصر في حديثه مع عبد الحكيم عامر إلى تفاصيل سمعها في اجتماع [القيادة] عن خطة تعرضية محدودة تحمل الاسم الرمزي “فجر”، وهي موجهة إلى ميناء إيلات الإسرائيلي بهدف قطعه عما وراءه.

وقال إنه لم يشأ أن يشدد في الاعتراض عليها في اجتماع القيادة حتى لا يساء فهم اعتراضه. وأنه يؤثر أن يقوم عبد الحكيم عامر الآن بألغاء الأمر الإنذاري للخطة التي كان مزمعا تنفيذها خلال أيام قليلة.

ولم يكن اقتناع عبد الحكيم عامر كاملا، وإن كان قد قال في نهاية حديثه إنه سوف ينفذ الأوامر.

والغريب أنه ظل طوال يوم ٢٧ مايو مترددا في إلغاء العملية “فجر” ثم اضطر أخيرا إلى تنفيذ الأوامر.”

إلى هنا انتهى كلام هيكل عن هذا اللقاء العاصف بين عبد الناصر وعامر. ومن هذا الاقتباس القصير تتضح الهوة التي كانت تفصل بين عبد الناصر وعامر عن طريقة الاستعداد للمعركة القادمة وإدراتها.

فعبد الناصر كان ما يزال يعتقد أن هذه الأزمة يمكن إدارتها سياسيا، وأنه يمكنه التعامل معها دمبلوماسيا كما تعامل وأدار أزمة السويس عام ١٩٥٦. ولكن عبد الحكيم عامر كان يدفع للتصعيد العسكري، بل كان يسعى له سعيا.

ويمكن لنا أن نقف على عمق الفجوة التي كانت تفصل بين الرجلين لو رجعنا لمذكرات الفريق مرتجي ووصفه لاجتماع القيادة يوم ٢٥ الذي حضره. ففي مذكراته، الفريق مرتجي يروي الحقائق، يقول مرتجي: “عُرض في هذا المؤتمر فكرة الخطة التعرضية الهادفة إلى عزل منطقة إيلات والاستيلاء عليها.”

ويضيف مرتجي: “وظهر عدم الاقتناع على رئيس الجمهورية بالنسبة للهدف المرجو من هذه العملية التعرضية المحدودة ومدى الكسب الذي سنحصل عليه.

وتساءل هل هذه العملية تتساوى من حيث النتائج مع سقوط غزة مثلا … ثم لفت النظر لأهمية قطاع غزة، وأن سقوطه يعني الكثير بالنسبة لمصر ويؤثر على هيبتها بدرجة كبيرة.

وأنه يرى أن أضعف نقطة في النظام الدفاعي هي هذا القطاع … إذ أن القوات المخصصة له أضعف من أن تقف أمام أي هجوم … وعلى ذلك يرى ضرورة تقوية هذا القطاع بقوات أكثر وذات كفاءة قتالية مناسبة حتى تجبر إسرائيل على التفكير آكثر من مرة لو راودتها نفسها على مهاجمة القطاع.” (ص ٧٩)

ومن هنا يتضح عمق الخلاف بين عبد الناصر وقائد جيشه حول المعركة المرتقبة.

لم يكن هذا الخلاف خلافا حول بعض التفاصيل الدقيقة، ولكنه كان خلافا حول التوجه العام للمعركة . فبينما يرى عبد الناصر أن القوات يجب أن تتخذ أوضاع الدفاع الوقائي، أكد عامر على أهمية شن هجوم على القطاع الجنوبي، أي على النقب الجنوبي وميناء إيلات.

ونحن نعرف الآن من مذكرات فوزي أن العملية “فجر” الذي خطط لها عامر ذهبت في تفاصيلها إلى أبعاد لم يُستشر فيها عبد الناصر؛ وأنها كانت عملية كبيرة شملت القوات البرية والجوية والبحرية؛ وأن عبد الناصر لم يوافق عليها عندما علم بها، وأمر بإلغائها.

كما نعلم أنه كان من نتاج هذا الخلاف، وكما يؤكد فوزي، أن صدرت للقوات المسلحة أربع خطط عسكرية في عشرين يوما. (ص ١٢٢)

وبالرغم من أهمية هذا الخلاف ومحوريته لفهم طبيعة المعركة ونتائجها فإن هيكل لا يركز عليه في كتابه ذي الألف صفحة. فكما رأينا، لا يستغرق عرضه لهذه النقطة الهامة أكثر من صفحة ونصف، بينما عرضه للرسائل الدبلوماسية التي تلقاها عبد الناصر عن الخطة “فجر” من واشنطن، وتفاصيل الروب دي شامبر والبيجاما والشبشب المتضَمنة في هذا العرض استغرقه فصل كامل يتتبع فيه أبا إيبان في رحلاته الأوربية والأمريكية لإجهاض الخطة.


ويجب هنا التأكيد على أن هذا الخلاف لم يظهر فجأة في اجتماع القيادة الذي عُقد يوم ٢٥ مايو حينما اكتشف عبد الناصر أن هناك خطة تعرضية اسمها “فجر” وُضعت دون علمه.

بل أننا إذا رجعنا لكل خطوة من خطوات تطور الأزمة منذ بدايتها يوم ١٤ مايو وحتي يوم اندلاع الحرب يوم ٥ يونيو سنجد لهذا الخلاف الجذري بين الرجلين أثارا واضحة في كتابات كل القادة الذين شهدوا هذه الوقائع وكتبوا عنها.

فكما أوضحت في مقال سابق، لم يكن قرار الحشد يوم ١٤ مايو من بنات أفكار عبد الناصر. فهو لم يؤخذ رأيه فيه، بل اجتمعت هيئة أركان القوات المسلحة برئاسة عبد الحكيم عامر واتخذت هذا القرار المصيري دون إخباره.

وكانت الخطوة التالية التي أدت إلي الحرب هي خطوة طرد قوات الأمم المتحدة يوم ١٦ مايو. فكان عبد الناصر يريد إعادة توزيع محدود لتلك القوات وليس سحبها كلية.

أما عبد الحكيم عامر فكان له رأي مختلف، فهو كان يبغي تصعيد الموقف وتسخينة بالإصرار على سحب شامل للقوات، وليس إعادة تمركز جزئيا.

فبالتالي عندما قرأ عبد الناصر في صباح يوم ١٦ مايو النسختين العربية وتلك الإنجليزية من طلب إعادة تمركز القوات الذي كان سيسلم للجنرال ريكي، قائد تلك القوات، لاحظ أن هناك فرق بين النسختين، فبينما تنص النسخة الإنجليزية على سحب كل القوات، غابت عن النسخة العربية كلمة “كل”، وهو ما كان أقرب لمبتغاه.

لذا عمل على تصحيح النسخة الإنجليزية بأن شطب كلمة “all” ، كما شطب كلمة “withdrawal” ، أي انسحاب، واستبدلها بكلمة “redeployment”، أي إعادة توزيع.

وكان غرضه من ذلك أن يوضح للجنرال ريكي أن غرضه ليس إنهاء عمل قوات الأمم المتحدة كلية، وإنما إعادة تمركزها على الحدود الدولية.

ولكن عبد الحكيم عامر أرسل النسخة الأصلية قبل تصحيحها متعللا بأنه لم يكن لديه الوقت الكافي لإجراء التعديلات التي طلبها عبد الناصر.

(ولتفاصيل هذه الواقعة راجع: Risa Brooks, Shaping Strategy: The Civil-Military Politics of Strategic Assessment, pp. 90-91)

أما الخطوة الثالثة فكانت قرار إغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية يوم ٢٢ مايو. ومرة أخرى نرى عمق الفجوة التي كانت تفصل بين الرجلين في هذا القرار الحاسم والذي يعتبره أغلب المؤرخين كعبور يوليوس قيصر نهر الروبيكون.

هذا القرار أعلن في مؤتمر حضره جمال عبد الناصر في مطار أبو صوير في منطقة فايد على القناة. وقد حضر هذا المؤتمر المشير عامر؛ والفريق أول صدقي محمود، قائد القوات الجوية؛ والفريق أول مرتجي، قائد الجبهة الشرقية؛ وزكريا محيي الدين، رئيس الوزراء؛ وأنور السادات، رئيس مجلس الأمة.

وفي هذا المؤتمر أعلن عبد الناصر إغلاق المضيق

رائج :   اكتشف نيجيريا تاريخيا وجغرافيا معلومات لا تعرفها من قبل

مقطع الرئيس عبد الناصر وهو يعلن إغلاق مضيق تيران عند الدقيقة ٥:٤١

وأكد عبد الناصر في هذا المؤتمر الذي حضره العديد من الطيارين أنه لا يريد تصعيد الأمر لدرجة تستدعي تدخل الولايات المتحدة، ولذا يجب علينا ألا نبادر بتوجيه الضربة الأولي لإسرائيل، بل أن نتلقاها لأن هذا “أمر لا مفر منه حيث أنه قرار سياسي اتخذ حتى يبطل أي حجة لأمريكا أو غيرها قد تتخذها ذريعة للتدخل.” (مرتجي، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ٧٣)

على أنه وفور انتهاء المؤتمر تكالب الطيارون حول المشير عامر وطالبوه بأن يصرح لهم بالقيام بالضربة الأولى، فرد عليهم قائلا “ما تخافوش يا ولاد. والله هنحارب”، وذلك حسب شهادة الطيار المقاتل ممدوح الملط الذي كان حاضرا المؤتمر.

ويمكن التدليل على الفجوة الشاسعة التي كانت تفصل بين الرجلين بالرجوع قليلا للوراء، وتحديدا ليوم ١٧ مايو، وهو اليوم الذي بدأت فيه فكرة السيطرة على المضيق، وليس إغلاقه، تطرح نفسها.

ففي هذا اليوم دعا عبد الناصر لاجتماع في بيته حضره معظم أعضاء مجلس قيادة الثورة السابق، وطرح عليهم عبد الناصر فكرة السيطرة على المضيق.

وفي كتابه مصر من الثورة إلى النكسة، يشرح ممدوح أنيس فتحي تفاصيل ما جرى في هذا الاجتماع.

وتنبع أهمية شرح ممدوح أنيس فتحي من أنه مبني على محضر الاجتماع الذي كتبه بخط يده سامي شرف، مدير مكتب الرئيس للمعلومات، والمحفوظ في دار المحفوظات المركزية للقوات المسلحة تحت رقم ١٩/١٥٨/٥. فلندع الكاتب يسرد لنا ما جري:

“طرح …. عبد الناصر فكرة السيطرة المصرية على خليج العقبة، ولكن المناقشة أخذت منحى آخر عندما صمم المشير عبد الحكيم عامر على إغلاق خليج العقبة، وأكد أنه لا يمكن للقوات المسلحة المصرية أن تقبل مرور العلم الإسرائيلي أمامها، فأخذ عبد الناصر الأصوات، فوافق الجميع على إغلاق المضيق ما عدا المهندس صدقي سليمان الذي أشار إلى أن هذا يعني الحرب. ومن ثم تقرر التنفيذ في موعد ملائم مع استعداد القوات المسلحة لذلك.

” ثم يضيف ممدوح أنيس فتحي قائلا: “وهنا نجد أن جمال عبد الناصر قد أراد من دعوة مجلس قيادة الثورة القديم للاجتماع مواجهة عبد الحكيم عامر والوقوف ضده في قرار إغلاق خليج العقبة، وأن يساند عبد الناصر في فكرة السيطرة المصرية على الخلية فقط كورقة ضغط على إسرائيل، ولكن من الواضح أنه استجاب لرأي الجميع الذين أيدوا موقف عبد الحكيم عامر.” (ص ٣٣٣)


يحفل كتاب هيكل، الانفجار، بالإشارة للـ”حكومة الخفية” في الولايات المتحدة، ولثلاثي “المخابرات والسلاح والبترول” الذي يحكم العالم، وللتواطؤ الإسرائيلي-الأمريكي لاستدراج عبد الناصر والإيقاع به، ولخطة اصطياد الديك الرومي، أي الإيقاع بعد الناصر والقضاء عليه.

والرسالة العامة للكتاب واضحة: مصر مستهدفة، وهناك قوى كونية تعمل على إسقاطها.

ومما لا شك فيه أن كل هذه العناصر والخطط والمؤامرات حقيقية وفعالة. فهناك بالفعل قوى مؤثرة تعمل في الخفاء في الولايات المتحدة، بعيدا عن سيطرة الكونجرس ورقابة الصحافة؛ وهناك أيضا تشابك لمصالح عالمية بين تجار السلاح، وشركات البترول ومشايخه، ورجال المخابرات، وهذا التشابك له دور محوري في رسم سياسات الدول، العظمى منها والصغرى.

كما أنه ليس خافيا مدى التعاطف والترابط والتنسيق الذي جرى (وما يزال) بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وتوضح الوثائق المنشورة مؤخرا والصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية والتي تغطي فترة حرب ١٩٦٧ مدي التواطؤ بين إسرائيل وكل مؤسسات صنع القرار في واشنطن وخاصة البيت الأبيض.

على أن ما يلفت النظر هو الغياب شبه التام في سردية هيكل لوجود تنظيم داخل مصر مماثل لتلك التنظيمات السرية التي استهوته وجذبت اهتمامه علي الصعيد العالمي.

وأقصد تحديدا ذلك التنظيم المترامي الذى بناه المشير عامر على مدار خمسة عشر عاما والذي يشار إليه أحيانا بتنظيم “الدولة داخل الدولة”. هذا التنظيم كان عماده الجيش، تلك المؤسسة التي استأثر عامر بها ومنع عبد الناصر من التدخل في شؤونها، بل استخدمها لتهديده وفرض إرادته عليه.

إن الحكومة الخفية في مصر، لا في الولايات المتحدة، هي التي كانت السبب الرئيسي في هزيمة ١٩٦٧. هذه الحكومة الخفية التي كان يديرها المشير عبد الحكيم عامر أدت إلى وضع كارثي، وضع أصبحت البلد فيه برئاستين أو أكثر، فكما قال عبد الناصر نفسه في أعقاب الهزيمة، أدى تدخل المؤسسة العسكرية في إدارة البلاد إلى دخولها في صراعات القوى والمؤسسات السياسية في الدولة، فظهرت جماعة على صبري بالاتحاد الاشتراكي العربي، وظهرت جماعة زكريا محيي الدين في وزارة الداخلية.

وفي اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي في ٤ يوليو ١٩٦٧ قال عبد الناصر تعليقا على هذه الأوضاع: “لقد تفككت الدولة لأحزاب عديدة غير معلنة: حزب عبد الحكيم، حزب زكريا، حزب علي صبري. بهذا الشكل حدث تفسخ في الوزارة، بل تفككت الدولة نفسها.”

وبهذا الشكل حدثت الهزيمة.

مقالات ذات صلة