يسمونها حرب الأيام الستة، في إشارة للسرعة الخاطفة التي حققوا بها انتصارهم، وفي إحالة للرواية التوراتية التي تقول بخلق العالم في ستة أيام ارتاح الرب بعدها وقدس اليوم السابع.
هذه الإحالة التوراتية التي تشيد بانتصار جيش “الدفاع” على أعدائه مجتمعين تحمل الإشادة بالعناية الإلهية والتلميح بأن هذا الانتصار لم يكن ليتم دون مباركة الرب ومشيئته، بقدر ما تحمل تقديس جيش “الدفاع” وغطرسة القوة العسكرية.
مايو ٦٧ وشبح الهولوكوست:
منذ أن ازدادت حدة المواجهات العسكرية على الحدود السورية-الإسرائيلية طوال النصف الأول من عام ١٩٦٧ كان الإسرائيليون يستمعون لتصريحات القادة العرب تحذرهم وتتوعدهم.
بدأت هذه التصريحات في منتصف مايو باستنكار التهديدات الإسرائيلية لسوريا، ثم تطورت للتصميم على مواجهة هذه التهديدات عسكريا إذا أقدمت إسرائيل على غزو سوريا، ثم ركزت على وحدة الصف العربي (بحلول يوم ٢٠ مايو أعلنت كل من لبنان والعراق والجزائر والكويت والسعودية استعداد قواتهم المسلحة لنصرة سوريا إذا تعرضت الأخيرة لاعتداء إسرائيلي)، ثم وصلت تلك التصريحات للذروة في الأيام القليلة السابقة على اندلاع الحرب بالتوعد بهزيمة إسرائيل إذا أقدمت على مهاجمة سوريا.
كتيب أصدرته وزارة الإعلام الإسرائيلية عشية الحرب يتضمن كاريكاتيرات وصورا من الصحافة العربية اعتبرتها إسرائيل معادية للساميةكان الإسرائيليون يستمعون لأخبار الحشود العسكرية العربية على الحدود، وكانت هذه الأخبار تزيد من شعورهم بالخطر، فالأمر الآن تعدى الخطب العنترية بل تحول لحشد للقوات وتحريك للجيوش.
فإعلان التعبئة العامة في مصر يوم ١٤ مايو، حينما شوهدت الأرتال العسكرية وهي تجوب شوارع القاهرة في طريقها للجبهة، لم يكن أمرا سريا بل كان استعراضا عسكريا علنيا تناقلته وكالات الأنباء وكان هدفه الواضح بث الرعب في قلوب الإسرائيليين.
ومما زاد من جزع المجتمع الإسرائيلي ما أعقب قرار التعبئة من إجراءات اتخذتها مصر.
ففي يوم ١٦ مايو علم الإسرائيليون بقرار مصر طرد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
وما هي إلا بضعة أيام أخرى (يوم ٢٢ مايو) حتي استمعوا لعبد الناصر يعلن إغلاق مضيق العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية ويقول لهم :
“بيهددوا بالحرب اليهود. بنقول لهم “أهلا وسهلا. احنا مستعدين للحرب، قواتنا المسلحة وشعبنا، وكلنا مستعدين للحرب.”
وفي يوم ٢٦ مايو أضاف:
ووصلت ذروة لهجة التهديد لإسرائيل في خطاب عبد الناصر يوم ٢٨ مايو حين قال في إجابته على أحد الأسئلة الصحفية
إن الفلسطينيين “لهم الحق الكامل في أن يباشروا بنفسهم حرب التحرير ليستعيدوا حقوقهم في بلدهم، [و] إذا تطورت الأمور إلى صراع شامل في الشرق الأوسط، فنحن على استعداد لهذا الصراع.”
وفي إجابة على سؤال آخر قال:
“لا نقبل أي أسلوب للتعايش مع إسرائيل.”
وكان عبد الناصر قد بدأ المؤتمر الصحفي بكلمة أوضح فيها رؤيته لسبب الأزمة الراهنة، فقال إن الموضوع لا يتعلق بقرار إغلاق المضيق بقدر ما يتعلق بوجود إسرائيل في حد ذاته:
“تلك هي مشكلة العدوان الذي وقع وما يزال وقوعه مستمراً على وطن من أوطان شعوب الأمة العربية في فلسطين، وما يعنيه ذلك من تهديد قائم باستمرار ضد أوطانها جميعاً، هذه هي المشكلة الأصلية.”
استمع الإسرائيليون لهذه الخطب، وما وصلهم لم يكن التحليل التاريخي أو القانوني الذي قدمه عبد الناصر، بل فضلوا أن يفهموا كلام عبد الناصر على أنه تهديد بإبادتهم.
ثم وصلتهم أخبار تقول إن الملك حسين، ملك الأردن، الذي كان عدو عبد الناصر اللدود، طار بنفسه للقاهرة يوم ٣٠ مايو واجتمع بعبد الناصر ووقع معه اتفاقية دفاع مشترك، وزاد بأن وضع كل جيشه تحت إمرة قادة مصريين.
وبعدها بيومين سمح الأردن للعراق بدخول قوات عراقية لأراضيه في طريقها للجبهة حتى تشترك في المعركة المرتقبة ضد إسرائيل.
ولذا وعلى مدار الثلاثة أسابيع السابقة على اندلاع الحرب، ومنذ تفجر الأزمة يوم ١٤ مايو بقرار حشد القوات المصرية والزج بهم لسيناء، اعتقد الإسرائيليون أنهم أمام خطر وجودي، وأنهم يواجهون تهديدا يماثل الهولوكوست، وأن بقاء الدولة نفسه وبقاءهم أنفسهم أصبح محل شك.
وحتى هؤلاء الذين آمنوا باستطاعة الجيش الدفاع عن دولتهم كانوا متوجسين من الأضرار التي ستسببها تلك الحرب، فقال البعض إن الحرب سوف تستمر لأسابيع طويلة وأنها ستتسبب بأضرار بالغة على الاقتصاد.
أما عن تقديرات عدد القتلى فالبعض قال إن الحرب ستكلفهم عشرة آلاف قتيل، بينما قدر يهوشوفاط هركابي، الذي كان رئيس المخابرات العسكرية في أواخر الخمسينات، أن عدد القتلى قد يصل لمائة ألف قتيل.
كما انتشرت إشاعات بأن مصر لديها سلاح سري سيستخدمه عبد الناصر عند الحاجة، وأن الجيش المصري سيستخدم الغاز السام مثلما فعل في اليمن.
قدس الذهب:
وبالتالي فإن نتائج الحرب كانت مدهشة للإسرائيليين بقدر ما كانت الهزيمة صادمة للعرب.
فعندما سكتت المدافع يوم ١١ يونيو بدأ الإسرائيليون يستوعبون حقيقة أن جيشهم قد تمكن بالفعل من الحرب على ثلاث جبهات ومن إيقاع هزيمة منكرة بالجيوش العربية مجتمعة ومن مضاعفة مساحة إسرائيل خمس مرات، وكل ذلك في ستة أيام.
الأراضي التي احتلتها إسرائيل في الحرب
هناك من أخذته نشوة النصر السريع وعزاه لمشيئة الرب ومباركته، وكان هذا نذيرا بالصعود المذهل لليمين الديني المتطرف.
وهناك من انتبه لمعنى احتلال أراض يقطنها ملايين الفلسطينيين ومن تحول إسرائيل من دولة وليدة مهددة إلى قوة عظمى إقليمية تتحكم في حياة أكثر من مليون ونصف فلسطيني وتخضعهم لسلطات الاحتلال، وكان هذا بمثابة البداية الجنينية لحركة السلام الإسرائيلية.
ثم أخيرا كان هناك تيار ثالث، أي الواقعيون الذين أدركوا معنى المستجدات التي أوجدتها الحرب وعملوا على ترسيخها وتعظيم نتائجها مُنحّين جانبا الأسئلة الدينية والأخلاقية التي طرحتها الحرب.
وقبل الخوض في هذه التحولات العميقة في فهم الإسرائيليين لأنفسهم ولدولتهم ولعقيدتهم الصهيونية قد يكون من المفيد التوقف عند أغنية تعود لنفس الفترة التي نحن بصددها، أي مايو-يونيو ١٩٦٧، حتى نقف على الواقع الملتبس والمربك الذي أحدثته الحرب ليس فقط للطرف المهزوم بل أيضا للطرف المنتصر.
هذه الأغنية هي أغنية “قدس الذهب”، أو “يروشاليْم شِل زهاف” بالعبرية، التي ترتبط ارتباطا وثيقا بحرب ١٩٦٧ والتي تحتل مكانة متميزة في الذاكرة الجمعية الإسرائيلية تصل لاعتبارها النشيد الوطني غير الرسمي لدولة إسرائيل.
يعود تاريخ هذه الأغنية لأيام قليلة قبل اندلاع الحرب، فاستعدادا للذكرى التاسعة عشرة لإنشاء الدولة كلف تيدي كوليك، رئيس بلدية القدس (الغربية) الشاعرة نعومي شيمر بكتابة قصيدة تتغنى فيها بالقدس ووشجعها على التقدم بها لمهرجان فني كان كوليك يرعاه.
وبالفعل كتبت شيمر القصيدة ولحنتها بنفسها، وعهدت بها لمغنية مغمورة (ذاعت شهرتها بعد ذلك نتيجة لهذه الأغنية) اسمها شولي ناتان لتغنيها في المهرجان، مهرجان المغنى والجوقة، الذي عقد يوم ١٥ مايو ١٩٦٧.
وما أن غنتها شولي ناتان حتى شاعت الأغنية وكأنها لمست وترا حساسا عند الجمهور الإسرائيلي. فاللحن عذب، والكلمات تردد معانٍ صهيونية استبطنها المجتمع الإسرائيلي وآمن بها دون تساؤل أو مراجعة، شأنها شأن الكثير من مفردات الخطاب الصهيوني.
تقول كلمات الأغنية:
- نسيم الجبال ينساب شفّافًا كالنبيذ
- ممتزجًا بأنفاس الغروب ورائحة الصنوبر
- وقرع الأجراس
- في سكون الشجر والحجر
- سكنت حُلمها المدينة التي تقبع وحيدة
- ملتفة بأسوارها
- أورشليم من ذهب.. ومن نحاس ومن نور..
- لكل أغانيك أنا قيثارة
*******
- كيف نضبت آبار الماء في البلدة القديمة
- ميدان السوق خالٍ
- وما من زائر لجبل الهيكل
- وفي الكهوف التي في الصخور عويل الريح
- ولا أحد ينزل باتجاه البحر الميت في طريق أريحا
- أورشليم من ذهب ومن نحاس ومن نور
- لكل أغانيك أنا قيثارة
*******
- ولكني من أجلك اليوم جئت أغني
- أنا أصغر من أصغر أبنائك
- ومن آخر المغنين
- لأن اسمك لاذع فوق شفتيّ كقبلة ملتهبة
- إن نسيتك أورشليم التي كلها ذهب
- أورشليم من ذهب ومن نحاس ومن نور
- لكل أغانيك أنا قيثارة
وحسب موقع “باب الواد” (الذي أنقل عنه، ببعض التصرف، هذه الترجمة) اعتمدت شيمر “في تصوير [الأغنية] على جملة محورية مقتبسة من قصة تلمودية شهيرة، هي قصة الحاخام عكيفا وزوجته راحيل، اللذين عانيا من فقر شديد، فكانا يستليقان في مخزن للتبن، وبينما كان ينزع الحاخام التبن العالق في شعر زوجته قال لها “لو كان الأمر بيدي كنت أعطيتك أورشليم من ذهب”. أي أنّه لو لم يكن فقيرًا، لأهداها تاجًا على شكل القدس مصنوعًا من الذهب.”
ولم تكن صدفة أن يقوم جنود وحدة المظليين، الذين كانوا أول من دخل المسجد الأقصى ووصلوا لحائط البراق (حائط المبكى) بعد سقوط المدينة، بأداء الأغنية عند الحائط، وهو الأمر الذي زاد من شعبية الأغنية بشكل استثنائي.
وسرعان ما أن طلب كوليك من شيمر أن تضيف مقطعا يعبر عن الظرف الجديد الذي “أعاد” يروشاليْم لأهلها.
وبالفعل أضافت شيمر الكلمات التالية التي أصبحت جزءا أساسيا من النسخة المعتمدة للأغنية:
- عدنا إلى آبار المياه
- للسوق وللميدان
- المزمار يعلو في جبل الهيكل في البلدة القديمة
- وفي الكهوف التي في الصخر
- آلاف الشموس تشرق
- وبإمكاننا الآن أن ننزل باتجاه البحر الميت في طريق أريحا
- أورشليم من ذهب ومن نحاس ومن نور
- لكل أغانيك أنا قيثارة
ما يجعل “يروشاليْم شِل زهاف” قصيدة صهيونية بامتياز ليس إحالتها للتلمود بل تصويرها للقدس على أنها مدينة غير مأهولة، خاوية على عروشها، وحيدة، تلتف عليها أسوارها.
فالميادين خالية، والأسواق مهجورة، والآبار مياهها نضبت، والكهوف لا صوت فيها إلا عويل الريح.
وفقط عند “رجوعنا” للمدينة ستزدحم الميادين من جديد وستصدح المزامير وستشرق الشمس فوق الكهوف.
هذا العمى الذي لا يبصر حقيقة أن القدس كانت مأهولة بالفعل بسكانها بل مكتظة بهم هو ما يجعل القصيدة متماهية مع العقيدة الصهيونية، تلك العقيدة التي ما برحت تنظر لفلسطين كوطن بلا شعب وكأرض بلا سكان، أرض تنتظر من يعمرها ويبث فيها الحياة بعد آلاف السنين من الجدب والاغتراب.
وكما سنرى سيشكل هذا التراوح بين ادعاءات الصهيونية عن خلو المدينة من السكان وحقيقة اكتظاظها بهم – سيشكل هذا التراوح عقبة كؤود لم تستطع الصهيونية التعامل معها حتى الآن.
هناك نقطة أخرى تجعل أغنية “يروشاليْم شِل زهاف” أغنية صهيونية تعبر بشكل لا واعي عن تناقضات الصهيونية كعقيدة وكمشروع. فالصهيونية تعتبر نفسها عقيدة تحريرية، تهدف لتحرير الشعب اليهودي من أسره وتضع نهاية لمنفاه وتعيده لأرضه التي نُفي منها طوال ألفي عام.
ولكن، حتى لو تغاضينا عن الافتراءات التي تحتويها هذه المقولة، لا تنكر الصهيونية أبدا أن مشروعها هو مشروع إقامة دولة يهودية، أي دولة يمتلكها اليهود مِلكا، وليس دولة يسكنها اليهود كأقلية أو حتى كأغلبية.
وبالتالي فإن غير اليهود غير مرحب بهم في هذه الدولة ويجب تهجيرهم أو طردهم أو حثهم على الرحيل بشتى الطرق.
هذا التناقض الجوهري الكامن داخل نفس المشروع الصهيوني، أي “إعادة الشعب اليهودي لموطنه” مع ما يستلزم هذا من سلب هذا الوطن بعينه من سكانه الفعليين، هو ما تعبر عنه الأغنية، ولكن بشكل مستتر وغير واع كما سبق القول.
فمن المفارقة أن لحن هذه الأغنية، الأغنية التي ارتبطت بحرب الأيام الستة، لحن مسروق بدوره.
فقبل وفاتها كتبت نعومي شيمر خطابا لملحن إسرائيلي آخر اسمه جِل ألديما تعترف له فيه أن لحن أغنية “يروشاليْم شِل زهاف” “مقتبس” من أغنية شعبية برتغالية كانت تُغنى للأطفال، وأنها سمعتها مرة في منتصف الستينات وتأثرت بها بشدة حتى أنها رددتها وهي تكتب أغنيتها.
بمعنى آخر، فإن الأغنية التي ستشتهر في إسرائيل وسيرددها الجنود المظليين عند حائط البراق بعد “تأليفها” بثلاثة أسابيع أغنية مسروقة، شأنها شأن المدينة التي تحتفي بها وتتغنى.
ويمكن لنا الوقوف على مدى التطابق بين اللحنين بالاستماع لهما هنا (اللحن الأصلي) و هنا (اللحن المنحول كما غنته شولي ناتان).
أغنية “يروشاليْم شِل زهاف” تعبر أيضا عن تناقضات الصهيونية بشكل آخر، أعمق في دلالته من مفارقة اللحن المسروق.
هذه التناقضات كامنة في صلب الفكرة الصهيونية ولم تكن وليدة حرب الأيام الستة؛ فقط الحرب أظهرتها للعيان. ثم جاءت الأغنية، مرة أخرى بشكل غير مقصود لتعبر عن هذا التناقض الدفين وتوضحه.
فالأغنية في طورها الأول، أي قبل إضافة المقطع الأخير، أغنية حنين للماضي السحيق وتباكي على حاضر حزين.
كلمات هذه المقاطع الأصلية تعبر عن عجز وضعف وقلة حيلة. ولكن فجأة وبعد إضافة المقطع الأخير بتكليف جديد من الدولة في أعقاب النصر المدوي تحول المعنى للنقيض، فأصبحت الأغنية تفتخر بالقوة وبالعزيمة وبالنصر:
“وبإمكاننا الآن أن ننزل باتجاه البحر الميت في طريق أريحا.”
هذا تناقض أصيل وتأسيسي في العقيدة الصهيونية: الإحساس الدائم بالضعف وبالخطر المحدق من كل صوب، وفي نفس الوقت التفاخر بالقوة وبالقدرة على الانعتاق من أسر التاريخ ومكره.
أتت حرب الأيام الستة لتظهر هذا التناقض الصهيوني وتوضحه أيما وضوح.
فإسرائيل مهددة من كل حدب وصوب، أعداؤها العرب يهددونها ليس فقط بالهزيمة بل بالإبادة، وجيوشهم تتفوق على جيشها عددا وعدة.
الدولة الوليدة تستدر عطف العالم لصغر حجمها وضآلة قوتها أمام القوى العربية المعادية.
إنها داوود أمام جالوت. أما الآن وبعد ستة أيام فقط تمكنت تلك الدولة الضعيفة من هزيمة هؤلاء العرب أجمعين، وتشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين.
بعد الحرب أمست قوة إقليمية متغطرسة، ودولة احتلال متسلطة، تتحكم بآلتها العسكرية في مقدرات أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني تحت سيطرتها.
شر البلية:
في أعقاب النصر الحاسم جاء وقت التنكيت، وطُبع عدد ضخم من الكتب التي جمعت النكات المتعلقة بالحرب، والتي كان عبد الناصر موضوعها الأساسي.
وكان من أشهر هذه الكتب اللاذعة كتاب כל בדיחות נאצר أي “كل النكات الناصرية” الصادر عام ١٩٦٧ من دار نشر جديدة في تل أبيب اسمها “شرم الشيخ”، وكتاب כל בדיחות ששת הימים أي “كل نكات الستة أيام” لرافي إيلان الصادر أيضا عام ١٩٦٧.
غلاف كتاب “كل نكات الستة أيام” لرافي إلان، ١٩٦٧وكان من ضمن هذه النكات تلك التي تقول:
“لملذا استغرقت الحرب كل هذه المدة؟ لأن حاخامات الجيش أفتوا بأن الحرب يجب أن تنتهي قبل الشابات (أي عطلة يوم السبت).”
وأخرى تقول:
“عندما علم عبد الناصر بمدى خسارته، وبحجم الخسائر في المعدات التي تكبدها أقبل على كوسيجن، رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي، لكي يعوضه هذه الخسائر.
فرد كوسيجين مستغربا:
“لو كان إشكول ورابين يريدان معدات وأسلحة لماذا لا يأتيان لي مباشرة عوضا عن أن تتوسط أنت لهما؟”
في إشارة لحجم الأسلحة المصرية التي غنمها الجيش الإسرائيلي في الحرب.
وكان من أنجح ألبومات النكات ذلك الألبوم الذي رسمه “دوش” (وأصل اسمه كارييل جاردوش קריאל גרדוש) بالاشتراك مع إفراييم كيشون אפרים קישון، والذي نُشرت أول طبعة منه في نوفمبر ١٩٦٧.
في هذا الألبوم جمع دوش وكيشون الكاريكاتيرات التي كانا قد نشراها في جريدة معاريف طوال مدة الحرب إضافة إلى الفترة السابقة على الحرب.
بطل هذه الكاريكاتيرات بلا منازع هو “سروليك“، وهي شخصية خلقها دوش عام ١٩٥٦. “سروليك” – وهو تصغير دارج لـ”إسرائيل” — رمز لإسرائيل، والطريقة التي رسمه بها دوش تعبر، بشكل واع، عن إصراره على تقديم صورة إيجابية تدحض الصور التقليدية التي ظهر بها اليهود في الخطاب الأوربي المعادي للسامية.
فعوضا عن هذه الصور البغيضة التي تظهر اليهودي كشخص معقوف الأنف، محمل بالجراثيم، مصاص للدماء، إلخ ، يبدو “سروليك” كفتى ضحوك، خفيف الظل، واثق من نفسه، قوي، ومحب للإنسانية.
دوش مستهزئا بتقاعس الساسة تجاه التصعيدات العربية – مقابل جاهزية الجيش للحرب.تعليق إفراييم كيشون المصاحب لهذا الكاريكاتير يقول :”أي حد كان مصدق إن حكومتنا واخدة التهديدات دي جد كان عنده حق.”
في أثناء الحرب ارتدى “سروليك” الزي العسكري، وأصبح رمزا لـ”تساهال” أي جيش الدفاع الإسرائيلي.
وفي أثناء الأزمة التي سبقت اندلاع الحرب عندما شعر المجتمع الإسرائيلي بالجزع والهلع كان “سروليك” دائما يطمئنهم، ففي يده يكمن الخلاص وهو وحده القادر على انتشال البلد من أزمتها وهو الوحيد القادر على القضاء على كل أعدائه مجتمعين.
إضافة إلى كتب النكات، كان هناك بالطبع ألبومات الصور.
فتكالب الناشرون على جمع صور الجنرالات المنتصرين والجنود الأبطال إضافة طبعا لصور الغنائم والأعداء المقهورين. وفي مناسبة الذكرى الأربعين للحرب عام ٢٠٠٧ قال أحد الناشرين إن الألبومات التي نشرها بيع منها مائة ألف نسخة في الأسابيع التي أعقبت الحرب.
غطرسة القوة وتأليه الضباط:
في أعقاب انتصارها المدوي كثرت الكتابات الإسرائيلية الجادة التي تعبر عن هذا التناقض والتي تؤكد على رقة إسرائيل وعلى جبروتها في نفس الوقت. فالكثير من الصحفيين والمراقبين الإسرائيليين كتب بعد أشهر قليلة من الحرب تعبيرا عن نشوة الانتصار وغطرسة القوة وقبل أن تتضح معاني النصر وتبعاته وقبل أن تتضح تكلفته.
فهناك من نشر انطباعاته بعد الحرب بأسابيع قليلة، مثل أفيزر جولان אביעזר גולן Aviezer Golan الذي كتب كتابه ששה ימי תהילה :מלחמת 1967 أي “ستة أيام من المجد: حرب ١٩٦٧” بعد انتهاء الحرب بثلاثة أسابيع.
وهناك من نشر تحليلاته بعد انتهاء الحرب بأيام قليلة، مثل كتاب آريه أفنيري، היום הקצר ביותסיפור הנצחון המופלא של חיל האוויר הישראלי، أي “أقصر يوم: قصة الانتصار المذهل لسلاح الجو الإسرائيلي” الذي نُشر بعد انتهاء الحرب بأربعة أيام فقط.
أغلب هذه المؤلفات التي ظهرت في فورة النصر طواها النسيان ولم تعد ذات قيمة إلا لهواة اقتناء الكتب القديمة.
ولكن هناك كتابان حققا نجاحا مذهلا فور نشرهما كما صمدا أمام امتحان الزمن.
تأثير كلا الكتابين تعدى فورة النصر وامتد لسنوات وعقود أعقبت الحرب، كما أنهما مجتمعيْن، وكل واحد منهما منفصلا، يعبران عن التناقض الصهيوني المذكور سابقا، أي الإشادة برقة الدولة ورهافتها من ناحية، والافتخار بقوتها وسطوتها، من ناحية أخرى.
الكتاب الأول هو חשופים בצריח أو “مكشوفون في البرج” [أي برج الدبابة] لشبطاي تيفيذ (שבתי טבת Shabtai Teveth) الذي نشر في أوائل سنة ١٩٦٨. وسرعان ما ظهرت ترجمته الإنجليزية بعدها بأسابيع قليلة تحت عنوان Tanks of Tammuz أي “دبابات تموز”.
يُعتبر كتاب تيفيذ، “مكشوفون في البرج” (أو “دبابات تموز”) مثالا نموذجيا للكتابات العسكرية عن الحرب: ضباط وجنرالات عظام، يمتلكون بصيرة نافذة، وزعامة ملهِمة، وقدرة فائقة على الإنجاز.
هؤلاء الرجال العظام يدرسون الطوبوغرافيا ويتمعّنون في الخرائط قبل إصدار أوامرهم لمرؤوسيهم من الرجال، وإذا بآلهة الحرب تستجيب لهم وتكلل جهودهم بالنصر.
يشرح لنا تيفيذ كيف تروّى قبل تأليف كتابه ولم يندفع للكتابة عن الحرب مثل غيره من الصحافيين. فيوضح لنا كيف درس تاريخ سلاح المدرعات دراسة متأنية قبل أن يصاحب الفرقة المدرعة السابعة، الفرقة الفولاذ، في معارك سيناء.
وفي أثناء هذه المعارك يركز تيفيذ على ما اعتبره بطولات خارقة لضباط سلاح المدرعات، هذا السلاح الذي لم يكن يحظى بشعبية كبيرة في أوساط “تساهال” (وهو الاسم الدارج للجيش الإسرائيلي)
فسلاح المظلات كان من تسيد الموقف في “العملية قادش” (وهو أحد الأسماء التي عُرف بها العدوان الثلاثي لسنة ١٩٥٦ في إسرائيل).
لذلك يتتبع تيفيذ أبطال سلاح المدرعات في الحرب، خاصة في الجبهة الجنوبية (أي سيناء)، ويخرج القارئ مشدوها ببطولات هؤلاء القادة وشجاعتهم. فتحت القيادة العامة للجنرال يشاياهو جافيتش، قائد الجبهة الجنوبية، تتضح عظمة العمداء الثلاثة:
إسرائيل تال و آرييل شارون و آبراهم يوفي الذين نعيش معهم على مدار حوالي ٣٠٠ صفحة ونتتبع صولاتهم وجولاتهم مع فرقهم المدرعة في زحفها الخاطف من رفح وأم قطف والقُسيّمة والكنتيللا في الشرق، إلى العريش وبير لحفن وأبو عجيلة والحسنة حيث خط الدفاع الثاني للقوات المصرية، ثم بير جفجافة وبير تمادة ونخل حيث انهارت آخر الدفاعات المصرية، ووصولا لقناة السويس والطور وأبو زنيمة وراس سدر في الغرب.
ومن الجدير بالذكر أن الوصف التفصيلي الذي قدمه تيفيذ للمعرك البرية في سيناء وفي الضفة الغربية وفي الجولان ما يزال من أدق ما كتب عن الحرب من الناحية العسكرية
الأمر الذي حدا بالعميد الركن حسن مصطفى أن يعتمد عليه اعتمادا كليا عندما نشر كتابه العمدة، حرب حزيران ١٩٦٧، في يناير ١٩٧٣ وهو الكتاب الذي اعتبره من أهم ما كُتب عربيا عن الحرب من الناحية العسكرية اللوجستية.
وهذه بالطبع من أكبر علامات الهزيمة ( أن يدرس المهزوم تفاصيل هزيمته ويحللها اعتمادا على مصادر العدو المنتصر.)
في سرده لهذه الفتوحات العسكرية يلقي تيفيذ الضوء على تاريخ سلاح المدرعات، ويشرح كيف تطور هذا السلاح في السنوات الفاصلة بين “قادش” وحرب الأيام الستة.
وتحديدا يوضح كيف جاهد قادة هذا السلاح ليفرضوا الانضباط العسكري على وحداتهم ويطوروا من قدراتها القتالية، هذا بالرغم من خلفية هؤلاء القادة في “البالماخ“، أي سلاح الصاعقة التابع للهاجاناه
(الجيش غير الرسمي للمستوطنات اليهودية إبان فترة الانتداب البريطاني على فلسطين) التي اشتهر ضباطها بالجرأة وأخذ زمام المبادرة وعدم الاكتراث أحيانا بالتعليمات والأوامر العسكرية.
يؤكد تيفيذ عند تصويره لأبطاله على أن ما يميزهم هو ذلك المزج بين الرقة والدعة من جانب، والصلف والغرور والغطرسة، من جانب آخر.
فأبطال الكتاب ليسوا قادة وضباطا وحسب، بل أزواج وآباء وأبناء أيضا.
فنحن نراهم في بيوتهم يلعبون مع أطفالهم، ويداعبون زوجاتهم، يقرأون الشعر، ويدرسون الفلسفة.
ولكن حين يتلقون أوامر الاستدعاء نراهم وقد تحولوا لتروس في آلة عسكرية جبارة، آلة جري تشحيمها بعناية وإعدادها بدقة متناهية لكي تنطلق من عقالها عند إشارة البدء فتفتك بكل من تجده أمامها.
الآلة العسكرية الإسرائيلية عشية الحربلا نسبر غور هؤلاء الرجال ولا نعلم ما يجول بخواطرهم، ولكن ما نراه ظاهريا يعطينا صورة مثالية عن المواطن-المقاتل، مع التركيز على المقطع الأخير من هذا الثنائي.
فكتاب تيفيذ، في النهاية، كتاب عن آلة الحرب وآلهتها. هو كتاب يمجد هؤلاء الضباط ويسمو بهم حتى يضعهم في مطاف الآلهة.
رجال تيفيذ رجال خارقون، ذوو قدرات استثنائية تفوق قدرات البشر العاديين. يكفي أن نقرأ تصويره للكولونيل شمويل جونين (وكنيته “جوروديش”) قائد الفرقة السابعة.
هذا الرجل كان قصيرا وسمينا وقصير النظر، ولكن تيفيذ يصوره كأحد الآلهة الإغريق.
جوروديشوعندما اندلعت حرب يوم كيبور (حرب أكتوبر) بعد ست سنوات بدا أن ما قاله تيفيذ عن جوروديش قد لعب برأسه، وأقنعه بعظم جيشه، وبأن هذا الجيش لا يقهر، فإذ بالهزيمة تحيق به في الأيام الأولي من الحرب، وإذ بهيئة الأركان تستبدله بحاييم بارليف يوم ١٠ أكتوبر.
ويجمع الكثير من النقاد أن كتاب تيفيذ، “مكشوفون في البرج” (أو “دبابات تموز”) الذي باع ٨٥ ألف نسخة فور طباعته، لعب دورا أساسيا في ترسيخ تلك الغطرسة التي اتسم بها ضباط الجيش الإسرائيلي بل كل المجتمع الإسرائيلي بعد حرب ١٩٦٧، وأنه كان السبب الرئيسي للسقوط المدوي لجوروديش في حرب يوم كيبور.
ووصل الأمر عام ١٩٩٣، بعد عامين من وفاة جوروديش، بأن يؤلف الكاتب المسرحي، هيليل ميتلبونكت، مسرحية عن جوروديش حملت اسمه وأخرجت على خشبة أحد المسارح في تل أبيب.
لاقت المسرحية نجاحا كبيرا، واعتُبرت إدانة صريحة لكتاب تيفيذ ولمسؤوليته عن إشاعة الشعور بغطرسة القوة وترويجه لأسطورة الجيش الذي لا يقهر واستخفافه بالعدو واحتقاره له.
(وللمزيد عن الجو العام في إسرائيل أثناء حرب الاستنزاف وأثناء الشهور المؤدية لحرب ١٩٧٣ يمكن متابعة هذا اللقاء مع ميتلبونكت، مؤلف المسرحية.)
المقاتل الباكي:
أما الكتاب الثاني الذي صمد أمام امتحان الزمن فهو שיח לוחמים أو “حديث الجنود” من تحرير أفرام شابيرا (אברהם שפירא Avraham Shapira) وعاموس عوز (עמוס עוז Amos Oz) الذي نشر في أكتوبر ١٩٦٧ والذي ترجم بعدها بقليل للإنجليزية ونُشر بعنوان The Seventh Day أي “اليوم السابع”.
يمثل كتاب “حديث الجنود” الذي حرره الثنائي آفرام شابيرا وعاموس عوز نقيضا مغايرا تماما لكتاب تيفيذ.
فـ”حديث الجنود” لا يقدم سردية واحدة متماسكة عن الحرب، بل هو تجميع لشهادات ١٤٠ جنديا التقاهم شابيرا وعوز فور عودتهم من جبهات القتال.
فتعود قصة الكتاب للأيام والأسابيع القليلة التي أعقبت انتهاء الحرب عندما اقترح شابيرا على عوز، وكلاهما كان من سكان الكيبوتسات، أن يذهبا للجنود العائدين من القتال ليدوّنا شهاداتهم.
أما سبب اختيارهم لسكان الكيبوتسات فتعود ليس فقط لارتباطهما هما نفسيهما بها، ولكن أيضا لأن نسبة القتلى من الكيبوتسات كانت أعلى بكثير من نسبتهم للعدد الإجمالي للسكان، بالرغم من أن عدد سكان الكيبوتسات لم يتجاوز ٤٪ من إجمالي عدد السكان، إلا أنهم شكلوا ربع القتلى البالغ عددهم ٦٧٩ قتيل.
بعد محاولات عديدة باءت بالفشل اقترح عوز على شابيرا أن يستحضرا جهاز تسجيل ليسجلا شهادات الجنود صوتيا عوضا عن تدوينها على الورق.
وما أن دار شريط التسجيل حتى انهمرت الروايات من الجنود بشكل جارف فاجأ عوز وشابيرا.
وفي النهاية عكف الثنائي على تحرير المادة الغزيرة التي جمعاها، واختزلا الساعات الطويلة التي سجلاها في ٢٨٣ صفحة جمعت أصواتا وتجارب وشهادات متباينة، فهناك من وجد نفسه مبتهجا لدخوله أورشليم، ومنهم من شعر بالغربة في المدينة القديمة.
وهناك من تماهى مع العدو وتعاطف معه، ومنهم من لم تحركه سوى مشاعر التشفي والانتقام.
ومنهم من رأي نفسه في سردية طويلة من التاريخ اليهودي وأنه يسطر صفحة جديدة منه، ومنهم من لم يشعر بأي شيء عند دخوله الأراضي المحتلة.
على أن أهم فرق يفصل “حديث الجنود” عن “مكشوفون في البرج” هو أن الأول لا يمجد الحرب كما يفعل الثاني.
في “حديث الجنود” نتعرف على مشاعر الجنود: الخوف من القتال، وتجارب مواجهة الموت المتراوحة بين الاشمئزاز والاعتياد على رؤية جثث القتلى.
الكثير من الجنود عبر عن مشاكله مع “اليوم السابع”، أي مشاكل العودة للحياة المدنية برتابتها وعدم القدرة على التحدث عن أهوال الحرب.
في “حديث الجنود” لا نرى مقاتلين متغطرسين بقوتهم، بل رجالا منكسرين متعاطفين مع العدو ومتواصلين مع إنسانيته.
والصورة العامة التي نستخلصها كقراء هي صورة المقاتل المحترف الذي يؤدي مهمته على أكمل وجه ويعود منتصرا، ولكنه لا يفقد إنسانيته ولا يضيّع رهافة مشاعره. إنه يقاتل، ولكنه يبكي في نفس الوقت.
ما أن نُشر الكتاب في أكتوبر ١٩٦٧ حتى حقق نجاحا باهرا، إذ باع أكثر من ٩٥ ألف نسخة في فترة وجيزة.
وتقرر أن يدرّس في المدارس وفي الجيش، واحتفت به وزارة الخارجية خاصة بعد أن نُشرت ترجمته الإنجليزية.
ولكن وبمرور الوقت، ومثلما كان الحال مع كتاب “مكشوفون في البرج”، سرعان ما وُجهت الانتقادات اللاذعة لـ”حديث الجنود” خاصة بعد حرب يوم كيبور عام ١٩٧٣.
كانت الفكرة الأساسية التي بنى عليها الكتاب، فكرة الجندي الباكي، هي التي صب عليها النقاد جام غضبهم، فقد رأوا فيها تنصلا من المسؤولية الأخلاقية، فكأن الكتاب يقول إن عمليات القتل واغتصاب الأرض وطرد الأهالي يمحوها بكاء الجنود، ورهافة مشاعرهم، وحيرتهم عندما عادوا لأسرهم وأطفالهم.
ونتيجة لهذه الانتقادات، وهي انتقادات ظهرت أساسا بعد حرب ١٩٧٣ وبعد المراجعات القاسية التي خاضها المجتمع الإسرائيلي للجيش وغطرسته أثناء ما يسمونه “العصر الإمبراطوري” أي ١٩٦٧-١٩٧٣، نتيجة لهذه الانتقادات أفل نجم “حديث الجنود” وفتر الحماس له.
ولكن في عام ٢٠٠٥ عاد الاهتمام بكتاب عوز وشابيرا بعض الشيء، إذ أن توم سيجيف، وهو صحفي مخضرم في جريدة هآرتس، نشر في ذاك العام دراسته عن حرب ١٩٦٧، والتي ظهرت ترجمتها الإنجليزية بعدها بعامين.
وفي كتابه الضخم (٧١٠ صفحة) أفرد سيجيف بضعة صفحات يستعرض فيها ملابسات تأليف “حديث الجنود”، وتتطرق لتفاصيل عملية التحرير التي انتقى بها عوز وشابيرا مادتيهما من ضمن عشرات الساعات من التسجيلات.
أصوات ممنوعة وأخرى غائبة:
في عام ٢٠١٥ احتل كتاب “حديث الجنود” صدارة المشهد الثقافي في إسرائيل مجددا، هذه المرة بسبب فيلم تسجيلي بعنوان Censored Voices أي “أصوات ممنوعة”.
الفيلم مدته ٨٧ دقيقة من إخراج مور لوشي، (Mor Loushy) وهي مخرجة إسرائيلية من مواليد عام ١٩٨٢ أي تنتمي لجيل لم يعش حرب الستة أيام، وإن كان ولد وتربى في أجواء ما زالت تحتفي بالحرب وتمجدها.
ولكن على مدار العقود الخمسة التي تلت الحرب كانت هناك أصوات تعلو من حين لآخر للتشكيك في الرواية الشائعة التي، وكما رأينا، تتراوح بين الدولة المستضعفة والمستهدفة من كل صوب، والدولة الفتية والقوية، الواثقة في نفسها والقادرة على إيقاع الهزيمة المنكرة بكل جيرانها مجتمعين.
ولكن ما قامت به لوشي في فيلمها تعدى الانتقادات السابقة للرواية الرسمية بشكل لافت للنظر.
“أصوات ممنوعة” يعتمد اعتمادا أساسيا على كتاب “حديث الجنود”، أو بالأحرى على الشهادات الصوتية التي أدلى بها الجنود لعوز وشابيرا بعد عودتهم من الجبهة بأيام قليلة.
فأثناء بحثها اكتشفت مور لوشي أن شابيرا احتفظ بالأشرطة الأصلية للتسجيلات، وأن هذه الأشرطة تحتوي على أكثر من ٢٠٠ ساعة من التسجيلات، وأن هذه التسجيلات لم تُسمع من وقتها.
أقبلت مور لوشي على شابيرا وألحت عليه أن يتيح لها فرصة الاستماع للتسجيلات، وإزاء هذا الإلحاح وافق شابيرا أخيرا، وأعطاها الأشرطة.
وعندما عكفت على العمل هالها ما سمعته، وأدركت أن هؤلاء الجنود عبروا، في فورة النصر، وببصيرة ثاقبة عن المأزق الأخلاقي والسياسي والديمغرافي التي وجدت إسرائيل نفسها فيه.
فإسرائيل الآن دولة احتلال (وهو أمر قد يبدو لنا كعرب غريبا بعض الشيء، فنكبة ١٩٤٨ لدينا هي أصل الداء، أما حرب ١٩٦٧ فهي امتداد لهذه الخطيئة الأصلية.
ولكن الإسرائيليين، واليسار الإسرائيلي تحديدا، لا تساورهم أية شكوك في مشروعية حرب ١٩٤٨، فهي حرب استقلال، والتشكيك فيها يهدم المشروع الصهيوني برمته)، وتُخضع أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني لسلطاتها العسكرية، وتجردهم من أبسط حقوق المواطنة والمساواة.
ولكن تلك الشهادات كانت موجودة بالفعل في الكتاب الأصلي، “حديث الجنود”.
فما الجديد الذي أضافته مور لوشي بفيلمها؟
ولماذا يُعتبر هذا الفيلم محطة هامة لدراسة تعامل المجتمع الإسرائيلي مع حرب ١٩٦٧؟
الجديد هو ما وجدته لوشي في التسجيلات الأصلية، إضافة لبحثها الدؤوب في أرشيفات سينمائية متعددة، داخل إسرائيل وخارجها، عن مادة بصرية تعضض هذه الروايات الشفوية.
فالجنود يعترفون بأن التعليمات التي وُجهت لهم في بداية العمليات العسكرية كانت تقول بضرورة الهجوم على الجيش المصري بغرض تدميره والقضاء عليه.
- ويعترفون بأن التعليمات كانت تقضي أيضا بألا يُظهروا أي رحمة بأعدائهم.
- ويعترفون بأن هذا ما دفعهم لارتكاب عمليات قتل لا ضرورة لها ميدانيا.
- ويعترفون بأنهم قتلوا مدنيين عزل. ويعترفون بأنهم قتلوا جنودا بعد استسلامهم.
- ويعترفون بأنهم هجّروا فلسطينيين من منازلهم.
- ويعترفون بأنهم دمروا قرى فلسطينية بكاملها.
وأثناء كل هذه الاعترافات الخطيرة تضع لوشي أمام أعيننا أشرطة سينمائية، بعضها من تصوير الجيش الإسرائيلي نفسه، تعبر عن هذا الاعترافات وتوضحها بصريا.
فنرى الفلسطينيين وهم يهجّروا من قراهم، ونراهم وهم يحملون أمتعتهم وأطفالهم وكهولهم عابرين نهر الأردن للضفة الشرقية حيث سيعيشون كلاجئين.
ونشاهد الجنود الإسرائيليين وهم يسخرون من أعدائهم المصريين في أغنية تقول “نـ***كم في ٤٨، ونـ***كم في ٥٦، وهنـ****كم تاني دا الوقت.”
كما تتضمن شهادات الجنود تحليلات ورؤى غاية في الأهمية.
فمنهم من يستغرب من الادعاء بأنهم حرروا القدس.
“أورشاليم لم تصبح مدينة محررة.
أورشاليم أصبحت مدينة محتلة.”
وهناك من قال :
”العرب يمرون الآن بتجربة مشابهة لتلك التي مررنا بها في الحرب العالمية الثانية.
هنا تكمن المأساة: أن أجد نفسي متعاطفا مع العدو ومتماهيا معه.”
وهناك من تنبأ قائلا
“لن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي نلبس فيها الملابس العسكرية.”
وهناك من قال :
“الحرب لا تقضي فقط على الأمم [بهزيمتها].
الاستعداد الدائم للحرب يقضي هو الآخر على الأمم [المنتصرة].”
وفي نهاية الفيلم نستمع لجندي التقته لوشي بعد ٤٨ عاما من إدلائه بشهادته الأصلية لعوز وشابيرا، فقال لها :
”إن آخر سطر من نشيدنا الوطني يقول “لكي نكون أحرارا في أرضنا، أرض صهيون وأورشاليم.” طالما نحن محتلون أرض شعب آخر فنحن لسنا أحرارا. لقد سقط منا الجزء المتعلق بأن نكون أحرارا.”
ولأهمية شهادات الجنود وخطورة الأفعال التي اعترفوا بها، والتي ترقى لجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، فقد تم التعتيم على هذه الشهادات ومنعها.
فحسب لوشي، قرر الرقيب العسكري حذف ٧٠٪ من أصل التسجيلات، وهذا هو السبب وراء عدم قدرة عوز وشابيرا على نشر هذه التصريحات الخطيرة في كتابهما.
وبسبب هذه الشهادات تعرض الفليم لهجوم عنيف من عتاة الصهاينة الذين لا ينفكون يهاجمون كل من يتعرض لإسرائيل بالنقد أو التجريح.
وكان من أهم من هاجم الفيلم مارتن كرامر (وهو أستاذ جامعي إسرائيلي نادى مؤخرا بضرورة منع المعونة الإنسانية عن الفلسطينيين حتى لا يتناسلوا ويزداد تعدادهم) الذي كتب مقالا طويلا ينكر فيها واقعة المنع ويعزو عدم نشر عوز وشابيرا لكل المادة التي كانت تحت أيديهما لضرورات تحريرية، وأنهما هما من حذف تلك المادة من كتابهما وليس الرقيب العسكري.
كما فند الاعترافات الأخرى التي أدلى بها الجنود قائلا إنها لا تعدو كونها استثناءات تحصل في كل الحروب.
أيا كان المتسبب في قرار المنع، الرقيب العسكري أم المؤلفان الأصليان، لا شك أن فيلم “أصوات ممنوعة” يمتاز بقدر كبير من الحرفية السينمائية فضلا عن الشجاعة في طرح أسئلة شائكة قلما تعرض لها السينمائيون الإسرائيليون.
ولكن، بالرغم من شجاعته يظل “أصوات ممنوعة” حبيس الإطار الصهيوني، وتظل مور لوشي غير قادرة على الفكاك من هذه الأيدولوجية.
فما تطرحه لوشي ليس ضرورة التخلص من الصهيونية، بل كيف يمكن ترويضها وتهذيبها. وكأنها بعد طول تفكير لم يسعها سوى أن تتفق مع أحد شهودها الذي يقول “الصهيونية مأساة.
منذ البدء، استدعى مجيئنا إلى هذه الأرض عملية إقصاء. إقصاء. فبجوار الكيبوتس التي نعيش فيها كانت هناك قرى عربية، نورس، مزار، كومي. هذه القرى اختفت.
بقاء الشعب اليهودي وعودته لهذه الأرض أدى لطرد من كانوا يعيشون هنا قبل مجيئنا. لو لم تكن ترغب في أن تطرد أحدا، لكنت قنعت بالعيش في الدياسبورا (المنفى).
وهناك كنت ستُذبح. فهل يؤنبني ضميري وأبكي من أجلهم [أي من أجل الفلسطينيين]، هؤلاء الذين اختفوا من هنا؟ لا. لا.”
عودة للحرب:
في عام ٢٠١٥، أي نفس العام الذى عُرض فيه فيلم “أصوات ممنوعة”، كتب عاموس عوز مقالة في جريدة هآرتس يتناول فيها المشكلة الديمغرافية التي وجدت إسرائيل نفسها فيها والتي كانت من أهم نتائج حرب الأيام الستة.
فاحتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية أدى لما كان بن جوريون يحذر منه عام ١٩٤٨ عندما سُنحت له الفرصة لاحتلال نفس تلك الأراضي، أي أن تجد إسرائيل نفسها وفي داخلها أقلية عربية ضخمة يصبح اليهود فيها أقلية نتيجة التفاوت بين نسبة الزيادة الطبيعية (أي عدد المواليد) بين العرب واليهود.
ففي خطاب ألقاه في الكنيست يوم ٤ أبريل ١٩٤٩ قال بن جوريون:
“إن باستطاعة جيش الدفاع الإسرائيلي أن يحتل كل الأراضي الواقعة بين النهر والبحر.
ولكن أي دولة ستنتج من فعل كهذه؟
حينها سيكون لدينا كنيست ذات أغلبية عربية.
فبين خيار إسرائيل الكبرى وإسرائيل اليهودية، اخترنا إسرائيل اليهودية”
، (وذلك حسب كتاب نُشر العام الماضي في إسرائيل وأثار حينها سجالا كبيرا).
عبر عوز عن هذا التخوف بوضوح قائلا:
“إذا لم نقم بإعلان دولتين هنا، وبسرعة، فسينتهي بنا الحال بدولة واحدة. وإذا انتهينا بدولة واحدة، ستكون هذه الدولة عربية. دولة عربية من البحر إلى النهر.”
هذه القدرة على مد الخطوط على استقامتها، ولكن الإصرار على رفض النتائج المنطقية لهذا التحليل، هي أيضا من سمات الفكر الصهيوني.
فعوز يدرك نتائج الاحتلال الذي سببته حرب الأيام الستة، ويرى أنه سيقضي على إسرائيل كدولة يهودية. وبعد أن أدرك أن الوقت ليس في صالح إسرائيل بسبب المشكلة الديمغرافية نادى بحل الدولتين.
إذ المقابل سيكون في رأيه دولة واحدة ولكنها ستكون عربية.
لم يستطع عوز أن يتخيل أن تكون هذه الدولة الواحدة دولة ديمقراطية، دولة لكل مواطنيها، عربا ويهودا، يتمتعون بنفس الحقوق ويقومون بنفس الواجبات ويتساوون أمام القانون، إذ أنه لو فعل ذلك سيكون تخلى عن صهيونيته، حتى ولو كان ذلك في مقابل بديل أكثر إنسانية وأكثر رحابة مما تعرضه الصهيونية.
مشكلة هذه الأصوات المراجعة للصهيونية، مثل عوز وشابيرا ولوشي وسيجيف، أنها ما زالت أسيرة تلك العقيدة ولا تستطيع التفكير خارجها. وتتضح محدودية هذا النقد عند تناول حرب الأيام الستة.
فما يلفت النظر أن هناك جانبا أساسيا لم تتطرق له هذه الأصوات المراجِعة، ألا وهو مقدمات الحرب.
فيكاد يجمع كل المحللين الإسرائيليين على أن إسرائيل كانت بالفعل مهددة، وأن كل طوائف المجتمع الإسرائيلي كانت مقتنعة أنهم يواجهون تهديدا وجوديا، وأن هذا التهديد يماثل الهولوكوست في بشاعته وخطورته.
إلا أن الوثائق الأمريكية والفرنسية والبريطانية والسوفييتية التي أُفرج عنها في العقدين الماضيين، إضافة إلى اعترافات كبار الساسة والعسكر الإسرائيليين وقتها، توضح بجلاء زيف هذا الادعاء.
وقد قام جون كويجلي John Quigley ، وهو أستاذ قانون في جامعة أوهايو ستيت، بدراسة تلك الوثائق، ونجح في تفنيد ودحض ادعاء إسرائيل إن هجومها على مصر يوم ٥ يونيو كان بمثابة حرب استباقية مشروعة غرضها الحيلولة دون تدمير إسرائيل.
(ولعرض واف لكتاب كويجلي يمكن الرجوع لهذه الدراسة).
فمثلا عندما طلبت إسرائيل من الولايات المتحدة في أوائل عام ١٩٦٧ أسلحة لمواجهة الأخطار العربية تدارس أركان حرب الجيش الأمريكي الطلب الإسرائيلي ورفعوا تقريرا لروبرت ماكنمارا، وزير الدفاع الأمريكي، قائلين:
Israel’s present military forces are capable of defending successfully against any individual or collective Arab attack
أي “القدرات العسكرية الحالية لإسرائيل تمكنها من الدفاع بنجاح ضد أي هجوم عربي، منفردا كان هذا الهجوم أو مجتمعا.”
وفي الزيارة الشهيرة التي قام بها آبا إيبان، وزير الخارجية الإسرائيلي، لواشنطن يوم ٢٦ مايو لحث الولايات المتحدة على التدخل لإعادة فتح مضيق تيران قال، حسب محضر الاجتماع الذي نشرته الخارجية الأمريكية عام ٢٠٠٤ والمتاح على الانترنت لمن يود الاطلاع، دار الحوار الآتي بينه وبين الجنرال إيرل ويلر Earle Wheeler، رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي:
General Wheeler restated the American view of Israel’s military superiority and said that, although we recognize that casualties would be greater than in 1948 and 1956, Israel would prevail. ….
Mr. Eban‘s rejoinder was that Israel believed its forces would win and he agreed that the balance of power had not been shifted by deployment of the last few days.
وترجمته: “كرر الجنرال ويلر تقدير الولايات المتحدة للتفوق العسكري الإسرائيلي، وقال إنه بالرغم من إدراكنا أن الخسائر في الأرواح ستكون أكبر من حربي ١٩٤٨ و١٩٥٦، إلا أن إسرائيل ستنتصر…
وكان رد مستر إيان إن إسرائيل تعتقد إن قواتها ستنتصر، وأنه يتفق [مع التقديرات الأمريكية في أن] ميزان القوى لم يتغير نتيجة الحشد [العسكري المصري] الذي حدث في الأيام القليلة الماضية.”
أما زيارة مائير عاميت، رئيس الموساد، لواشنطن أيام ٣١ مايو-٢ يونيو، تلك الزيارة الحاسمة التي أعطى فيها الأمريكان “الضوء الأصفر” لإسرائيل (بمعنى “دا احنا دافنينه سوا”) فقد دار خلالها الحوار التالي بينه وبين ماكنمارا:
Mr. McNamara asked Gen.
Amit how many casualties he thought he would incur in an attack in the Sinai. Gen.
Amit indicated that this was a tough question to answer, stating that it would depend a great deal on who hit first. ….
Amit indicated that …. he thought the Israelis could do the job with somewhere in the neighborhood of 4,000 casualties.
“سأل المستر ماكنمارا الجنرال عاميت عن تقديره للخسائر البشرية في حالة شنَّ [الإسرائيليون] هجوما في سيناء. فرد عاميت إن هذا سؤال صعب، وإن الإجابة عليه تتوقف على من بادر بالهجوم…. وأضاف عاميت … إنه يعتقد أن الإسرائيليين سيتمكنون من إنجاز المهمة متكبدين حوالي ٤،٠٠٠ قتيل.”
وفي مؤتمر أكاديمي عقد عام ١٩٩٢ بمناسبة مرور ٢٥ سنة على الحرب أقر عاميت بأنه كان قد قال لمكنمارا في هذه الاجتماع إن الحرب لن تستغرق أكثر من سبعة أيام.
وبالتالي فإن الإسرائيليين، ساسة (إيبان) وعسكر (عاميت)، يعترفون إن إسرائيل لم تواجه خطرا وجوديا، وإنها كانت على ثقة في قدرتها على الإجهاز على الجيش المصري في أقل من أسبوع، وإنها قدرت أنها لن تتكبد أكثر من أربعة آلاف قتيل.
لا هولوكوست هنا ولا يحزنون. إنما هو ذلك المزيج المميز للصهيونية: شعور دفين بالخطر المحدق من كل صوب مع الثقة المتناهية في النفس والاعتزاز بقوة “تساهال”.