عند الحديث عن المعارك الحربية التي دارت أثناء حرب ١٩٦٧ يكثر الحديث عادة عن المعركة الجوية التي وقعت في يوم ٥ يونيو، وكيف تمكن الطيران الإسرائيلي من تدمير ٨٥٪ من سلاحنا الجوي في ثلاث ساعات، الأمر الذي أدى إلى شل القيادة العسكرية وانهيارها.
على أن الحدث الذي لا يقل غرابة هو تدمير جيش قوامه أكثر من مائه ألف جندي في أقل من ٣٦ ساعة.
كان جمال عبد الناصر يتشدق بهذا الجيش، وكان صديق عمره ورفيق سلاحه وقائد جيشه، عبد الحكيم عامر، يقول عنه إنه أكبر وأقوى جيش في الشرق الأوسط.
وقد شاهد المصريون بأعينهم استعراضات الجيش في احتفالات الثورة عام ١٩٦٦، ثم أثناء حشد القوات إلى سيناء ابتداء من يوم ١٤ مايو، وانبهروا بما رأوه من عدة وعتاد.
بل أن عبد الناصر نفسه قال للفريق أول عبد المحسن مرتجي، الذي كان قد عينه حديثا قائدا للجبهة، “تحت قيادتك جيش يفوق جيش الجنرال مونتجمري قبل معركة العلمين، ونحن تواقون لنرى ماذا ستفعل به.”
وما هي إلا أيام قلائل حتى انفرط عقد هذا الجيش تماما، وسقط من رجاله عشرة آلاف شهيد، أي عُشر القوة المقاتلة.
فبحلول مساء يوم ٦ يونيو بدأت قوات الجيش في الانسحاب غربا باتجاه القناة في مشهد مأساوي يصعب على المرء وصفه أو تخيله.
وعلى مدار يومي ٧ و ٨ يونيو كان آلاف الجنود يهرولون غربا تنفيذا لتعليمات الانسحاب، ذلك الانسحاب الذي لم يتم بناء أي خطة أو تنظيم، فأمسى الجيش فلولًا تتسابق للوصول لبر الأمان غير مدركين أن بتركهم خنادقهم المحفورة في باطن الأرض، وبزحفهم في صحراء مكشوفة تحت الشمس الحارقة، وبتدافعهم عبر الممرات الجبلية ثم صوب المعابر الضيقة فوق القناة أصبحوا هدفا يسيرا لطيران العدو الذي أخذ يحصدهم حصدًا.
لماذا الهزيمة؟ أسباب وذرائع:
يحلو للإسرائيليين التأكيد على قوة شكيمة عبد الناصر وعظمة شخصيته، ويشيرون في كتاباتهم لخطبه العنترية حتى يؤكدوا على قدرتهم على هزيمته وإذلاله.
كما يحلو لهم أن يعظّموا من شأن الجيش المصري الذي حُشد أمام جبهتهم الجنوبية لكي يعظموا من حنكتهم وعزيمتهم وحسن تخطيطهم. والأمر كما سنتبين كان خلاف ذلك، فالجيش الذي قاتلوه كان جيشا مهترئا ضعيفا، وكان قادته الميدانيون هم أول من اعترف بذلك وحذر منه.
أما عبد الناصر فقد انهزم عسكريا، ولكنه لم يرفع سماعة التليفون لكي يعرض الاستسلام ويطلب الصلح من ديان، كما تمنى هذا الأخير وقال في حديث شهير بعد أن سكتت المدافع.
وإذا كان تدمير سلاح الجو في ثلاث ساعات نتيجة منطقية لقيادة فاشلة فشلت في التخطيط واستهترت بالعدو وتمثلت في شخص الفريق أول صدقي محمود، قائد القوات الجوية والدفاع الجوي لمدة خمسة عشر عاما، فما هي الأسباب التي أدت إلي هزيمة الجيش البري بهذه السرعة، وبهذا العمق؟
الرئيس عبد الناصر ومعاونوه ألقوا باللائمة على المشير عبد الحكيم عامر، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذي تربع على قمة السلطة العسكرية في مصر منذ عُين قائدا للجيش عام ١٩٥٤.
فبسبب فساد أخلاقه، وقلة خبرته، وسوء إدارته تحول الجيش تحت قيادته إلى دولة داخل الدولة، لا حسيب لها ولا رقيب، وبالتالي انعدمت الخبرة القتالية، وتحولت عقيدة الجيش من القتال للاستئثار بمزايا استثنائية للضباط وعائلاتهم، وشاع الفساد بين كبار الضباط وصغارهم، ووهنت هزيمة القتال بين الرجال.
وتحديدا، يقول رجال الرئيس إن انهيار المشير وإصداره قرار الانسحاب المشؤوم يوم ٦ يونيو هو السبب الرئيسي للمأساة التي حلت بالجيش. فبدون غطاء جوي أمسى مستقبل الجيش البري في سيناء سوداويا.
أما شلة المشير فبدورهم ألقوا باللائمة على ما أسموه “القيادة السياسية”، أي عبد الناصر وأعوانه، وعلى تدخل تلك القيادة السياسية في مجريات الجيش وتحديدا في الخطط القتالية والاستعدادات العسكرية.
ويزعم رجال المشير أن الرئيس ورجاله هم المسؤولون الأساسيون عن الهزيمة المروعة التي مُني بها الجيش، ويقولون إن التعديلات التي أدخلها عبد الناصر على الخطط العسكرية لأسباب سياسية هي التي أدت لهزيمة الجيش.
إن الصراع بين الرئيس عبد الناصر والمشير عامر كان له بالتأكيد دور أساسي ومحوري في الهزيمة كما سأبين في مقال لاحق.
على أن بدراسة الخطط العسكرية الموضوعة وبتتبع أحوال جيش وأوضاع قواته البرية حتى قبل اندلاع القتال يتضح أن مصير الجيش كان محتوما سواء بقى سلاح الجو أو دُمر، وسواء قَوي العدو أو ضعُف.
الخطة “قاهر” فلسفتها وملامحها:
في كتابه الهام، شاهد على حرب ٦٧، يقول الفريق صلاح الدين الحديدي “إن مصر اختطت لنفسها استراتيجية دفاعية بحتة إزاء إسرائيل، ولم تفكر في يوم من الأيام أن تعد لعمليات هجومية واسعة.
فمنذ هدنة ١٩٤٩، لم تتلق هيئة أركان حرب القوات المسلحة تعليمات بتغيير استراتيجيتها الدفاعية، بل كان أقصى ما سُمح به خلال هذه الستوات الطويلة مجرد وضع خطوط عامة لعملية إغارة على بعض الأهداف الإسرائيلية القريبة [من الحدود] ثم العودة لقواعدنا في النهاية، ولم يحدث أن تم تنفيذ خطط هذه الإغارات على أهداف لها قيمتها.”
(ص ١٠٩-١١٠؛ انظر أيضا حديث الفريق أول أنور القاضي لمجلة آخر ساعة، بتاريخ ٨ يونيو ١٩٨٨).
ولم تشذ الخطة “قاهر” عن هذه القاعدة. فهذه الخطة التي يكثر الكلام عنها عند الحديث عن حرب ٦٧، هي خطة دفاعية بالأساس وُضع أساسها بمعرفة قيادة المنطقة العسكرية الشرقية في بداية عام ١٩٦٦، وأضافت هيئة عمليات القوات المسلحة بعض التعديلات عليها ، وعُرضت على المشير عامر وصادق عليها في الأول من ديسمبر عام ١٩٦٦.
بنيت فكرة الدفاع في الخطة “قاهر” على منع العدو من الوصول لقناة السويس وتدمير قوات العدو التي تنجح في الاختراق توطئة للقيام بالهجوم العام المضاد، بالتعاون مع الاحتياطي الاستراتيجي للقضاء على العدو، حسب ما جاء في كتاب الفريق أول محمد فوزي، حرب الثلاث سنوات (ص ٩٩-١٠٠).
وكما يتضح من الخريطة أعلاه تتكون الخطة “قاهر” من العناصر الآتية: نطاق أمنى ملاصق للحدود ومخصص له كتائب استطلاع، وكتائب صاعقة، وأفواج الحدود؛ والغرض من هذه الوحدات استطلاع تحركات العدو والتحذيد من أي هجوم إسرائيلي محتمل. وخلف هذا النطاق الأمني يقبع عمق الدفاع التكتيكي الذي يتكون من نطاقين دفاعيين.
النطاق الأول يتمركز حول النقاط المحصنة على طول الخط الواصل بين التمد جنوبا، مارًا بالقسيمة، وأبو عجيلة، وانتهاء بالعريش شمالًا. ويدافع عن هذا النطاق الأول فرقة مشاة بالإضافة إلى لواءين مشاة وفوج مدرع.
وخلف هذا النطاق الدفاعى الأول يقبع نطاق ثان جنوب غربي من القسيمة.
أما احتياطي المنطقة فيحتل ثلاثة أماكن: فوج مدرع شمال نخل؛ ٢ لواء مشاة بالإضافة إلى قيادة فرقة في منطقة الحسنة؛ لواء مدرع على المحور الأوسط غرب أبو عجيلة وبالقرب من جبل لبني.
كل هذه القوات كان مخططا لها أن تكون تحت قيادة قائد الجيش الميداني ومقره بير تمادا في وسط شبه الجزيرة.
وخلف هذه القوات يقبع الاحتياطي الاسترتيجي الذي وُضع تحت قيادة القيادة العليا في القاهرة، والذي اشتمل على فرقة مدرعة ولواء مظلات . ووزعت هذه القوات الاحتياطية على منطقتين، الأولى شرق الممرات، والثانية خلفها.
وتكمن الفكرة من وراء الخطة “قاهر” في تمسك قوات النطاقين الأول والثاني بموقعهما، على أن يتسعينا بتعزيزات من الاحتياطي الاستراتيجي عند الضرورة، وأن تقوم الفرقة المدرعة بالتصدي للعدو إن نجح في النفاذ من هذين النطاقين، والقضاء عليه، ثم القيام بهجوم مضاد.
ومفتاح هذه العملية الدفاعية هو التحكم في المحور الأوسط الواصل بين العوجة وأبو عجيلة والإسماعيلية.
وبالتالي فإن فلسفة الخطة “قاهر” تكمن في استدراج العدو لسيناء، وأن يتم توريطه في هجمات قوية، ثم تطويقه من الشمال والجنوب بغرض القضاء عليه وتدميره.
ومن هنا يتضح أن الخطة “قاهر” لها منطقها الذي يحكمها، وهو منطق دفاعي بحت، يفترض أن العدو سيهجم بشكل تقليدي باستخدام المحور الأوسط، وهو أكثر المحاور مناسبة للتقدم في اتجاه المضايق ومنها لقناة السويس.
(الملخص أعلاه مستقى من : فوزي، حرب الثلاث سنوات، ص ٩٩ وما بعدها؛ Dupoy, Elusive Victory, 240-241; George Gawrych, The Egyptian defeat of 1967,” Journal of Contemporary History, v. 26, 1991, 281-284.)
أربعة تعديلات قاتلة:
ولو نحينا جانبا الطابع الدفاعي للخطة “قاهر”، ولو نحينا جانبا أيضا أن هذه الخطة لم يجري التدريب عليها بل أن “القوات المسلحة لم تجري أي مناورة عامة بالجنود من بعد عام ١٩٥٤” (مرتجي، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ٣١-٣٢)، فسنرى أنه طوال شهر مايو أجريت أربعة تعديلات علي الخطة أفرغتها من محتواها وجعلت انهيار الجيش شيئا محتوما.
أما التعديل الأول فكان الاعتماد على الاحتياط بشكل أساسي حتى وصل الأمر للحد الذى كون الاحتياط أكثر من نصف عدد القوات.
فالفريق مرتجي، قائد الجبهة، يقول في كتابه الفريق مرتجي يروي الحقائق (ص ١٢٠) إن”القوات الاحتياط التي دفعت إلى الميدان بمجرد تعبئتها وصل تعدادها إلى أكثر من نصف إجمالي الأفراد بالمسرح — بلغ عدد أفراد الاحتياط ١٠٣٩ ضابطا و٨٠٦٥٠ رتبة أخرى من جملة ٠٠٠ر١٣٠ مقاتل تم حشدهم في سيناء في الفترة من ١٥ مايو حتى ٥ يونيو.
وقد وصف كل من تعرض لما سمي بالـ”حشد التعبوي” هذا الحشد بأنها كان كارثيا. فالجمسي يقول في مذكراته (ص ٦٦) إنه “لم يكن هناك تخطيط واقعي لتدريب قوات الاحتياط دوريا بما يضمن وصولها إلى درجة الكفاءة القتالية التي تؤهلها للاشتراك في الحرب في ميدان القتال.
وقد تجلى ارتباك وقصور نظام التعبئة في وصول بعض الأفراد إلى سيناء يرتدي بعضهم ملابسهم المدنية التي حضروا بها إلى مراكز التعبئة عند الاستدعاء، بل كان بعض الأفراد ينضمون إلى وحدات ليست من تخصصهم، كما تم تعبئة وحدات جديدة من الاحتياط مرَّ عليهم سنوات لم يتم تدريبهم فيها على القتال.”
أمّا عبد الفتاح أبو الفضل، نائب رئيس الاستخبارات، فكتب في كنت نائبا لرئيس المخابرات أنه ذهب في ٢٤ مايو إلى مدينة القنطرة شرق لإلقاء خطب وكلمات مشجعة في قوات الاحتياط التي كانت في طريقها إلى الجبهة، لكنه فوجئ بحالة من الفوضى جعلته يعتذر عن إلقاء الكلمة التي كان قد حضّرها.
يقول: “كان الكل في ملابس مدنية، ومعظمهم بجلاليبهم الريفية ويحملون بنادقهم وليس هناك أي زي عسكري، [….] وشُحنوا في السكك الحديدية كالدواب دون أي تجهيز أو ترتيب إداري من مأكل أو مشرب أو راحة… حشد هائل من الشباب والرجال الضائعين نتيجة إهمال واستهتار سلطات القوات المسلحة بآدميتهم وإنسانيتهم…
وسألت نفسي: هل هذه هي حالة قواتنا التي سنواجه بها جنود عدوتنا إسرائيل؟ وفي المقابل، هل عدوتنا إسرائيل عندما أعلنت التعبئة العامة عاملت شبابها بهذا الأسلوب غير الآدمي؟” (ص ٢٧٩)
ويضيف صلاح الحديدي في كتابه شاهد على حرب ٦٧ بعض الفاصيل المهمة عن عيوب هذا النظام الذي كان هدفه مجرد مضاعفة حجم الجيش دون الاعتناء بمستوى تدريب الجنود أو إعدادهم للقتال، فيقول: ” وهذه الطريقة قد تبدو وكأنها قد ضاعفت حجم الجيش عدة مرات….
ولكن من جهة أخرى فإن نوع الوحدات الجديدة كان دون المستوى القتالي اللازم بكثير، فالجنود المسرحون لم يتيسر لهم التدريب اللازم، أو حتى استدعاؤهم في ظروف مريحة لأحوالهم الاجتماعية، واكتُفي بالانسياق إلى خيال نظري مبني على أساس إمكان اندماجهم مع زملائهم أبناء القوات العاملة في الوحدات الصغرى.
هذا بالإضافة إلى أن مضاعفة حجم قوات الجيش فجأة وفي فترة قصيرة أدت إلى ظهور إحدى المشكلات المزمنة في الجيش المصري بشكل حاد، أعني بها مشكلة نقص الضباط. …
وهكذا فقدت القوات العاملة التي نالتها عملية الفتح التعبوي أصالتها وكيانها، بل ومقدرتها القتالية التي كانت تتمتع بها. وزاد الطين بلة أن مخازن المركبات في القوات المسلحة….
لم تكن قادرة على الاستجابة مع هذا التزايد الفجائي في حجم القوات، فأصبحت الوحدات والتشكيلات الجديدة دون خفة حركة…
وبذا صار تحرك هذه الوحدات إلى الجبهة تحركًا أشبه بنقل مهاجرين من مدينة إلى أخرى تخت ضغط الفزع والاضطراب، غايتهم الوصول إلى المحل الجديد وليفغل الله ما يشاء بعد الوصول.” (ص ١٥٥-١٥٦)
ويعلق الفريق مرتجي على وضع أفراد الاحتياط الذين وصل بعضهم “بملابس مدنية وبدون سلاح شخصي أو مهمات أو حملة أو تعيينات أو أدوات مطبخ” بالتساؤل “هل مثل هذه القوات يمكنها أن تحارب أو تصمد في قتال؟”
وإذا انتقلنا إلى التعديل الثاني فسنجد أنه ولدواعي “الأمن” أي الحيلولة دون قيام الجيش بانقلاب على نظام الحكم كانت تجري بصفة منتظمة حركة تنقلات بين الضباط، الأمر الذي أثر على التدريب تأثيرا بالغًا. وكان من أكبر تلك الحركات، حركة تنقلات صيف ١٩٦٦ التي شملت عددًا كبيرًا من الضباط من أكبر الرتب إلى أصغرها.
وكان مبدأ “الولاء قبل الكفاءة” هو الحاكم دائما في اختيار تنقلات الظباط ، وهو الأمر الذي أدى إلى تقلد عدد كبير من القادة غير الأكفاء مناصب قيادية عليا.
على أن ما أثر بشكل مباشر على الخطة “قاهر” هو الأمر الصادر بتغيير كل قادة الفرق الإثنى عشر مع أركان حربهم قبل الحرب بأسبوع أو أسبوعين. (George Gawrych, Key to the Sinai, 77)
وكان ثالث القرارات التي اتخذتها القيادة العليا في الأسابيع القليلة السابقة على الحرب والتي أثرت بشكل مباشر على الخطة الدفاعية “قاهر” هو ذلك القرار الغريب بإنشاء قيادة جديدة في سيناء.
فالخطة “قاهر” كانت تفترض وجود قيادة موحدة للجيش يكون مركزها الإسماعيلية، وسميت قيادة المنطقة الشرقية، أو قيادة الجيش الميداني، وعُهد للفريق صلاح محسن بها.
وكان من المُفترض أن تتلقى هذه القيادة تعليماتها من هيئة عمليات القوات المسلحة ورئاسة الأركان في القيادة العليا بالقاهرة.
ولكن فجأة وفي ١٧ مايو تقرر إنشاء قيادة جديدة اسمها قيادة الجبهة وكان مركزها بير تمادا، وعهد بها للفريق أول عبد المحسن مرتجي الذي يقول عنه الحديدي “أنه لم يسبق له الخدمة في سيناء إلا لمامًا ومنذ سنوات عديدة مضت قبل اعتداء ١٩٥٦.” (الحديدي، شاهد على حرب ٦٧، ص ١٥٨-١٥٩) وبالفعل وصل مرتجي لمقر قيادته وتسلم منصبه الجديد يوم ٢٩ مايو، أي قبل اندلاع القتال بأسبوع واحد.
ولا تخلو صفحة من كتاب مرتجي نفسه من التندر على وضعه، فقد اكتشف أنه أعطي هذا المنصب دون العدد الكافي من ضباط أركان الحرب، إذ نال عشرين ضابطا فقط والمفروض أن تتكون القيادة السليمة من ١٥٠ ضابطا على الأقل، كما يؤكد اللواء أحمد اسماعيل علي الذي كان وقتها رئيس أركان هذه القيادة (موسى صبري، وثائق حرب أكتوبر، ص ٣٥٩) .
كما اكتشف أن لا اتصال له بالقوات المُفترض أنه يقودها، لأن الأوامر التي تصل رأسا من القيادة العليا في القاهرة إلى الجيش الميداني والتشكيلات لم تكن تمر على قيادة الجبهة.
كما كان يصعب عليه التنسيق بين قيادته في بير تمادا الذي يُفترض أنه موقع قيادة متقدم، وقيادة الجيش الميداني في الإسماعيلية التي كان يقودها الفريق صلح محسن، والقيادة العليا في القاهرة التي يتولاها المشير عامر.
ومما زاد الطين بلة أن رئاسة الأركان نفسها لم تكن متناسقة داخليا، ولم يكن لها سلطة حقيقية على الأنواع المختلفة للقوات المسلحة، فالقوات الجوية كان تعتز باستقلاليتها، والقوات البحرية تحذو حذوها، وكذلك القوات البرية، ولا تنسيق أو تعاون بين هذه الأفرع المختلفة للقوات المسلحة (الحديدي، شاهد على حرب ٦٧، ص ٢٠-٢٤).
وإذا أخذنا في الاعتبار أن رئيس الأركان، محمد فوزي، لم يكن علي وئام مع المشير عامر، وأن الأخير رآه مقحما عليه من قِبل عبد الناصر، الأمر الذي حدا به أن يعين اللواء علي عبد الخبير في منصب جديد هو “مدير الأركان” حتى يحد من سلطة فوزي، لاكتشفنا مدى التخبط والارتباك الذي كان يشمل جميع أفرع وتشكيلات القوات المسلحة، فلا القيادات العليا متفقة مع بعضها البعض، ولا رئاسة الأركان متسقة مع نفسها، ولا الأفرع المختلفة تعمل بتناغم مع بعضها البعض.
والأخطر أن تعددت طرق تسلسل الأوامر، فعند استلامها أمرا ما لا تعلم الوحدة أو التشكيل الميداني إن كان هذا الأمر صادرا من القيادة العليا، أم رئاسة الأركان، أم من هيئة العمليات، أم من قيادة الجيش الميداني، أم من قيادة الجبهة.
أما رابع القرارات التي اتخذت في الفترة التحضيرية السابقة على الحرب فكان تلك التعديلات التي أدخلت بشكل مباشر على الخطة “قاهر” وأفرغتها من محتواها. فكما رأينا، كانت هذه الخطة دفاعية بحتة، وكان منطقها مبنيا على الاعتقاد (السليم) بأن المحور الذي سيسلكه العدو في الأغلب هو المحور الأوسط. على أنه ومن بداية يوم ٢٠ مايو اتخُذت العديد من القرارات التي ستخل بهذا الاعتقاد الراسخ، وتجرى تعديلات جوهرية على أوضاع القوات التكتيتكي، الأمر الذي أدى في النهاية إلى خلخلة الخطة “قاهر” بشكل خطير.
كان أول هذه القرارات ذلك الذي اتخذته القيادة العليا بنقل كتائب من المظلات إلى شرم الشيخ. وكان هذا القرار صادما لقائد الجبهة، الفريق مرتجي، أولا لأن قيادات الجيش كانت قد اتفقت يوم ١٧ مايو على عدم إرسال قوات إلى شرم الشيخ إذ أنه كان هناك تخوف أن إرسال تلك القوات سيقطع خط الرجعة أمام السياسيين وأن الأمر يمكن أن يتطور إلي مواجهة عسكرية، وثانيا لأنه لم يُخطر به من القيادة العليا بل علمه صدفة من قيادة القوات الجوية. (مرتجي، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ٦٧-٧٧)
وما هي إلا ثلاثة أيام حتى صدر الأمر الثاني المعدل للخطة “قاهر”، ففي يوم ٢٠ مايو زار المشير عبد الحكيم عامر الجبهة؛ ويصف الفريق أول مرتجي كيف قال له المشير أثناء تلك الزيارة “إنا سندخل الحرب هذه المرة. وقد أدهشته إجابتي عندما أشرت إليه أنه بمثل هذه القوات وحالتها وتدريبها ونوعيتها لا يمكن أن ندخل حرباً.
وهنا اتجه المشير في حديثه بأنه يجب أن يفهم الجميع هذا الاتجاه [أي أن الموضوع ليس مظاهرة عسكرية] حتى يستعدوا ويأخذوا الموضوع مأخذ الجد…
وأثناء الجولة سأال المشير عن القوات التي خصصت للدفاع عن غزة.” وعندما أبلغه مرتجي أنه ليست هناك قوات مخصصة لهذا الغرض في الخطة “قاهر”، قرر المشير أن ينشئ مجموعة خفيفة وأن تتمركز في المنطقة ما بين رفح والعريش للدفاع عن قطاع غزة، وأطلق على هذه المجموعة “رقم ١” ، وتسلم قيادتها سعد الدين الشاذلي. (مرتجي، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ٧٠).
وطوال أيام ٢٢-٢٥ مايو أخذ عامر يفكر في القيام بأعمال تعرضية داخل إسرائيل وتحديدا في النقب بغرض احتلال إيلات وفصل النقب الجنوبي.
ولكن في يوم ٢٥ مايو عُقد مؤتمر عسكري كبير في القيادة العامة حضره الرئيس عبد الناصر، والمشير عامر ،ورئيس الأركان فوزي، وقادة أفرع القوات المسلحة – مرتجي وصدقي محمود وعزت، – ورئيس هيئة العمليات أنور القاضي، وقائد الجيش الميداني صلاح محسن، ومدير المخابرات الحربية، محمد صادق، بالإضافة لزكريا محيي الدين وأنور السادات.
وفي هذا المؤتمر اعترض عبد الناصر على الخطط التعرضية الرامية إلى الاستيلاء على إيلات وعزل النقب، وفضل وضع خطة بديلة للدفاع عن قطاع غزة. كما أضاف أنه يجب تقوية الدفاع عن شرم الشيخ.
وبالفعل بدأ تنفيذ تقوية منطقة رفح ابتاء من يوم ٢٦ مايو. وكلفت بهذه المهمة فرقة شكلت حديثا تشمل لواءات من تشكيلات أخرى انتزعت من مواقعها المخصصة لها في الخطة الدفاعية.
ومنها أحد الألوية المدرعة الذي كانوا يسمونه تهكما “باللواء الحيران” لكثرة التحركات التي قام بها سيرا على جنازير الدبابات، والتي تزيد على الألف كيلومتر قبل أن يدخل في قتال، أي أنه فقد الصلاحية الفنية قبل أن يطلق طلقة واحدة.
وبتنفيذ تقوية منطقة رفح تعدل الحد الأساسي للدفاع عن سيناء في المحور الشمالي عدة كيلومترات شرقًا، الأمر الذي تطلب تغيير المهام للقوات والقيام بسلسلة جديدة من الإجراءات للمعركة في المواقع الجديدة.
ثم صدرت أوامر القيادة العامة بدفع الفرقة الرابعة المدرعة – وهي الاحتياطي الاستراتيجي للدولة — إلى سيناء لتتمركز شرق خط المضايق.
وعلى عكس عبد الناصر الذي كان يرى ضرورة تعزيز الدفاعات في الشمال عند رفح، أخذ المشير عامر يفكر في القيام بأعمال هجومية في الجنوب، وعندما أخبره قائد الجيش الميداني، الفريق صلاح محسن، أن الجنود غير مدربين على الهجوم (الجمسي، مذكرات، ص ٦٨) أخذ يفكر في إقامة ما أسماه ستارة مضادة للدبابات في الجنوب في المنطقة الواقعة بين الكونتيللا ونخل.
عندها أشار عليه ضباطه بأن تحريك قوات إلى هذه المنطقة سيضعف الدفاعات على المحور الأوسط، وأن لا منطق مطلقا من وراء فكرته المبنية على توقع هجوم العدو على المحور الجنوبي.
ولكنه أبى أن يتخلى عن فكرته “التي تضخمت بصورة جعلته لا يرى خلافها، حتى أنه وهو يدافع عن وجهة نظره أخذه الحماس وقال “إنه بينه وبين موشى ديان ثأر قديم منذ العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦ وأنه لن يترك هذه الفرصة حتى يلقنه درسا لا ينساه ويقضي على أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.”” (مرتجي، ، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ٩٥)
وكان من نتاج سيطرة فكرة الثأر تلك أن أمرت القيادة العامة أحد اللواءات الاحتياطية (ل ١٢٥ احتسياط) إلى منطقة “مطلة خرم” غرب الكونتيللا. ويصف اللواء كمال حسن علي أحوال هذا اللواء وصفا بليغا فيقول:
“للأسف كان هذا اللواء مثالا لما عليه الوحدات الاحتياطية من نقص في التدريب وعجز في الأسلحة والحملة الميكانيكية، بل في ملابس الجنود وتعييناتهم الميدانية ، بل أن قائده، العميد توفيق عبد النبي، مرّ عليّ في مركز رئاستي ليطلب مني أن أزوده ببعض التعيينات والملابس اللازمة لجنوده.
ولم يكن يعرف هذا القائد شيئا عن هذا اللواء وجنوده وضباطه، فقد تولاه مصادفة منذ بضعة أيام فقط إذ كان يعمل ملحقًا عسكريا في باكستان وتصادف وجوده في القاهرة في إجازة قبل الحرب فاستدعته القيادة ليتولى قيادة اللواء ويندفع إلى سيناء مباشرة.” (كمال حسن على، مشاوير العمر، ص ٢١٥).
ونتيجة لكثرة التعديلات التي أدخلت على الخطة “قاهر” تهتكت تلك الخطة “وتمزقت وفقدت فاعليتها وقدرتها الدفاعية، وانهارت فكرتها الأساسية، فوحدات ترسل إلى سيناء بمهام لا تلبث وهي في طريقها لتنفيذها أن تأخذ مهام أخرى مختلفة؛ ووحدات ترسل بدون مرتبات الحرب بأمل أن تصلها هذه المرتبات في أماكن تمركزها الجديدة ولكنها لا تصل؛ وأخرى ينزع من صلب تنظيمها وحدات صغرى على وجه السرعة ثم تستكمل بوحدات صغرى أخرى من قوات أخرى لا تعرف عنها شيئا؛… وعمليات تعرضية توضع ثم تدخل عليها التعديلات التي تبعدها عن هدفها الأصلي…
وهكذا أصبح الضعف موجودا في كل مكان، في الأفكار، في الاستعداد، في كفاءة الوحدات المقاتلة، في سلامة الدفاعات، في هضم المهام المكلفة بها القيادات على مختلف المستويات.” (مرتجي، ، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ٨٧).
وبالتالي فإن الخطة “قاهر” قد فقدت معناها أثناء مرحلة الحشد التعبوي التي امتدت من يوم ١٤ مايو ، تاريخ بداية الأزمة، وحتي يوم ٥ يونيو، تاريخ اندلاع الحرب. قد تكون الخطة في بدايتها منطقية ومتسقة مع نفسها، إلا أن القرارات الأربعة التي اتخذت في شهر مايو — أي قرار الاعتماد على الاحتياط، وقرار تغيير قادة الفرق والتشكيلات، وقرار إضافة قيادة جديدة، والقرارات العديدة التي أدخلت تغييرات على أوضاع القوات ومهامها في الخطة — كل هذه القرارات قتلت الخطة “قاهر” حتى قبل أن يبدأ القتال، وأصبحت مثل غراب البين، أضاعت المشيتين، كما يذهب المثل الشائع.
ولنترك الكلمات الأخيرة لكمال حسن علي الذي كان وقتها يقود اللواء المدرع التابع للفرقة الرابعة المدرعة التي شكلت الاحتياطي الاستراتيجي، والذي يقول إنه “خلال الفترة من ٢٥ مايو حتى ٥ يونيو لم يتوقف فيها اللواء المدرع عن استطلاع المهام والتحضير للعمليات العسكرية….
وبلغ عدد المهام الذي كلف بها هذا اللواء حوالي ١٤ مهمة حتي ٥ يونيو….إلا أن أكثر ما كان يقلقنا في الميدان هو كثرة التصريحات والبيانات السياسية المتضاربة التي كنا نستمع إليها في الميدان فتصيبنا بأقصى درجات القلق والتشتت.
أذكر في يوم ٢٧ مايو أن الرئيس جمال عبد الناصر عقد مؤتمرا صحفيًا، وقد استمعنا إلي هذا المؤتمر الذي لم يكن مبعث طمأنينه لي، بل ولا أريد أن أقول إنه كان مبعثًا لانزعاجي خاصة عندما ذكر عبد الناصر في كلمته عبارة “إنني لست خرِع زي إيدن”.
وفي ٢٩ مايو نقلت إلينا الإذاعة خطاب عبد الناصر الذي قال فيه “قلت قبل الآن إننا سنقرر الوقت وسنقرر المكان ولن نتركهم ليقرروا الوقت والمكان. وقد تمت الاستعدادات ، ونحن على استعداد لمواجهة إسرائيل.”…
إن أشد ما كان يملؤني بالإثارة أنا وبقية المقاتلين في سيناء هو هذه الشحنة الإعلامية المكثفة التي كانت تصل إلينا في الميدان كدقات طبول تصم الآذان عبر الإذاعة والصحف، وكنا لا نتبين منها إلا خليطا من التشنجات والمغالطات، ونحن ندرك حقيقة ما يفصل الصورة عن الواقع حتى صباح يوم ٥ يونيو.” (كمال حسن علي، مشاوير العمر، ص٢١٥-٢١٨)