من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أكتب لأروي لك قصتي بعد تردد طويل فأنا سيدة في الثامنة والعشرين من عمري نشأت في أسرة طيبة لأب موظف كبير بإحدى الهيئات وأم ربة بيت فاضلة تزوجت أبي عن حب قديم مازال حيا ومتجددا حتى الآن وقد تخرجت في كليتي النظرية وتقدم لي منذ أربع سنوات طبيب شاب يكبرني بسبع سنوات, وتمت الخطبة وعقد القران, ثم تزوجنا وسافرنا بعد الزواج بشهر واحد إلي الولايات المتحدة الأمريكية ليدرس زوجي للدكتوراه,
وكان زوجي هو أول رجل في حياتي فأعطيته كل حبي وحناني ورعايتي وتركزت دنياي كلها حول محوره, ومضت الأيام بنا جميلة لا يعكر صفوها إلا الحنين لأهلي وبعض الخلافات العابرة التي قد تواجه أي زوجين في بداية حياتهما بسبب اختلاف الطباع لكن الغربة قربت بالرغم من آلامها بيني وبين زوجي حتى بلغنا درجة عالية من الحب والتفاهم والارتباط.
وخلال عامنا الأول من الزواج حملت لكن الله لم يشأ لحملي أن يكتمل وأجهضت في شهري الخامس, ومضت الأيام جميلة رغم ذلك, يحكي لي زوجي عن كل شئ في دراسته وعمله, وأجلس إلى جواره وهو يعد محاضرة سيلقيها في الغد إلي أن ينتهي منها ثم يقرأها علي وأنصت إليه بسعادة واهتمام رغم اختلاف نوع الدراسة, وأقف بالساعات في مكتبة الجامعة لأصور له ما يحتاج إليه من كتب في مجال تخصصه وأسعد بمشاركته كل شئ في حياته,
ونجح زوجي في دراسته واقترب موعد عودتنا لبلدنا فحملت مرة أخرى ولكن إرهاق الاستعداد للسفر وإجهاد الرحلة الطويلة من أمريكا أثرا علي حملي فما أن وصلنا إلي مصر حتى أجهضت للمرة الثانية وتألمت لإجهاضي هذه المرة كثيرا رغم استسلامي لقضاء ربي, ورجعنا إلي شقة الزوجية التي تسلمناها علي الطوب الأحمر وأعددناها قطعة قطعة حتى اكتملت وصارت عشا جميلاّ..
ومضي شهر واحد علي رجوعنا فبدأت مشكلة حياتي التي لم أكن أعي في البداية كل أبعادها وهي أم زوجي, فأم زوجي هي الزوجة الثانية لزوجها الذى تزوجته وهو يكبرها ب 25 سنة, وله من زوجته الأولىي 6 أبناء, وقد روت لي أن زوجها قد اشترط عليها عند الزواج ألا تنجب أكثر من طفل واحد, وبالفعل أنجبت ابنها-زوجي- واعتبرته ابنا وحيدا بالرغم من وجود 6 من الأخوة كلهم قمة في الأدب والأخلاق والمراكز الإجتماعية, ولأنه ابن “وحيد” في نظرها فهي شديدة اللهفة علي أن يكون له أبناء كثيرون يملأون حياته وحياتها ويعوضون عن نشأته “وحيدا” بلا إخوة.
وهي التي أوقفت حياتها عليه وجاهدت معه حتى أصبح طبيبا موعودا بمستقبل مشرق! لهذا فقد صدمت صدمة عمرها كما قالت لي حين رجعنا من أمريكا بعد عامين من الزواج كما سافرنا زوجين بلا أبناء, وكانت تتوقع أن تستقبلنا ونحن أسرة من 4 أفراد زوجين وطفلين وليس طفلا واحدا, وقد كررت علي والدة زوجي ذلك مرارا وتكرارا ولابد أنها قد قالت أكثر منه لزوجي فبدأت تتغير معاملته لي,
وبدأت أشعر وكأني أتعامل مع إنسان آخر غير الزوج الذى عاشرته عامين خلال البعثة وأحببته وأعطيته كل حبي وعطائي لكني صبرت علي تغير زوجي آملة أن يرجع إلي طبيعته التي عرفته عليها مع الأيام, فتضاعفت متاعبي بتدخل أمه غير المباشر في حياتنا بصفة دائمة فكل ما يجري بيننا من خلافات صغيرة عابرة يحكيها لها فتنعكس علي معاملتها لي,
فإذا كنت في خصام بسيط معه لا يستغرق يوما أو يومين تجهمت في وجهي واختلفت معاملتها لي, وإذا رجعت المياه إلي مجاريها بيننا تبسطت معي وأحسنت معاملتي, وإن كان ذلك لا يمنع حديث الإنجاب في كل وقت ورواية الحكايات التي تجرح مشاعري عن “فلانة” التي احتفلت بعيد زواجها الأول وهي تحمل وليدها علي ذراعها, و”فلانة” التي أنجبت طفلين في عامين متتالين وهكذا, كأني أنا التي أردت لنفسي عدم اكتمال حملي مرتين وكلما سمعت شيئا من ذلك لم أملك ردا عليه سوى الدموع الغزيرة,
وهي من طبيعتي للأسف في أبسط المواقف إيلاما لنفسي ويسمع زوجي هذا الكلام أيضا من والدته فيرجع إلي البيت مكتئبا وشارد الذهن, ويضيق صدره فيمنعني من زيارة أية صديقة لي إذا كانت حاملا, ويطلب مني عدم استقبال أية صديقة لي منحها الله من فضله طفلا أو طفلة في بيتنا, لأن رؤية أطفال غيره تضايقه ولأنه لا يريد لأي طفل أن يحبو في بيتنا إلا إذا كان ابنه!
ووسط كل هذه الآلام النفسية حملت للمرة الثالثة وسعدت بحملي الثالث سعادة لا توصف وتعلق بإكتماله كل أملي في الحياة وأملت أن يتم الحمل والولادة فيسعد زوجي بطفله وتنشغل عني حماتي بحفيدها وتكف عن تنغيص حياتي, وبالفعل تحسنت معاملة زوجي لي بعد الحمل الثالث كثيرا, وكذلك حماتي التي بدأت كلما لاحظت أية سحابة كدر بيني وبين زوجي تتدخل للصلح بيني وبينه علي الفور حتى لا أحزن ويتأثر الجنين,
وانشغلت مع ابنها في اختيار اسم المولود الجديد بل واسم المدرسة التي سيلتحق بها أيضا ونوع الدراسة الجامعية التي سيدرسها حين يصل إلي سن الشباب بإذن الله وأنا أدعو الله خوفا وطمعا أن يتم نعمته علي ويكتمل نمو هذا الجنين لأحتفظ بزوجي وحبي وسعادتي, فإذا بالجنين يتوفي في أحشائي في منتصف شهره الرابع وتظلم الدنيا كلها أمام عيني, وبكيت بأنهار الدموع الغزيرة طوفانا, واستسلمت لحزن شديد, وأجرينا التحليلات اللازمة لمعرفة سبب وفاة الجنين ثلاث مرات قبل أن يكتمل في أحشائي ولم نصل إلي شئ محدد سوى احتمال أن تكون المشيمة لا توصل إليه الغذاء الكافي فيؤدى ذلك إلي وفاته,
وأجمع كبار الأطباء علي أن نعيش حياتنا بطريقة طبيعية وفي الحمل القادم بإذن الله يتم إعطائي جرعة بسيطة من الكورتيزون مع دواء آخر يساعد علي سيولة الدم لكي يصل الغذاء الكافي للجنين.
ورضيت-رغم حزني الشديد- بأقدارى وسلمت بإرادة ربي لكن المشكلة كانت في زوجي.. وفي حماتي بالرغم من بكائها معي وهي تحتضني عقب وفاة الجنين الثالث إذ بعد هذا العطف الذى أبدته نحوي في قمة محنتي, قاطعتني تماما وأصرت علي طلاقي من زوجي لأنها تتعجل الإنجاب, وطريقي إليه كما قالت لا يبشر بسرعة تحقيق هذا الأمل!
ورأيت زوجي ممزقا بين رغبة أمه أو تأثيرها عليه وبينى. وقررت أن أكافح لإنقاذ زواجي وحبي لزوجي مع ما في ذلك من إيلام لمشاعري, وذهبت إلي بيت حماتي وواجهتها بهدوء وسألتها لماذا تريد أن تحرمني من زوجي ومن حياتي, فأجابتني بجمود بأن ابنها لابد له أن يتزوج ليكون له أبناء, وتحملت الطعنة صابرة وقلت لها أنني قد حملت ثلاث مرات ولم يأذن الله بعد فلماذا لا تصبرين علي بعض الوقت حتى يرزقني الله بالولد,
فأجابتني بنفس الجمود بأن العمر يجري وانه يحتاج لأن ينجب وهو في سن الشباب لكي يستطيع تربية أبنائه وتحاملت علي نفسي وسألتها وماذا لو تزوج من أخري ولم ينجب أيضا فأجابتني بلا تردد بأنه لو حدث ذلك فسوف تطلقه من زوجته الجديدة وتزوجه من ثالثة ورابعة حتى يتحقق لها أملها في الإنجاب!
ولم أجد ما أقول لها ردا علي ما سمعته منها سوى أن الله لا يرضى بالظلم وأنها وابنها يظلمانني .. وحسبي الله ونعم الوكيل.
ثم نهضت من أمامها منكسرة وشاعرة بكل هوان الدنيا وكنت قد عرفت منها أنها قد طلبت منه أن يستشير في أمر طلاقي رجال الدين لكي يستريح إلي قراره ويتشجع عليه فطلبت منه أن يصطحبني معه إلي دار الإفتاء لكي أسمع معه رأي الدين في أمري,
وتردد زوجي في القبول قائلا لي أن ذلك سوف يجرح مشاعري, لكني ألححت عليه في القبول, فأي إيلام ينتظرني أكثر مما شعرت به خلال حديثي مع والدته واصطحبني زوجي إلي دار الإفتاء, واستقبلنا هناك شيخ فاضل, استمع بإهتمام إلي مشكلة زوجي الذى رواها أمامي بأمانة, ثم أجابه: “يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما” صدق الله العظيم وصمت برهة تأملنا خلالها معا ثم قال لزوجي انه لو كان في موضع زوجي وأنعم الله عليه بزوجة طيبة وعلي دين وخلق مثلي ومتمسكة بزوجها إلي هذا الحد لسعد بها ورضي بحياته معها حتى ولو لم تنجب نهائيا.
وسالت دموعي الغزيرة وأنا أسمع هذا الكلام الرحيم من رجل الدين الفاضل, وأستأذنا في الإنصراف وخرجنا وركبنا سيارة زوجي وهو مازال شاردا وساهما كأنما كان يأمل أن يلتمس له رجل الدين العذر في طلاقي ويعطيه الضوء الأخضر ليقدم عليه, ورغم إدراكي لما يدور في ذهنه فلقد سألته ونحن في السيارة عما ينوى أن يفعل فطلب مني مهلة يومين ليفكر في أمره خلالهما,
فأجبته بأنني عملت كل ما في وسعي للحفاظ عليه والأمر مرجعه إليه الآن, ثم رجعنا إلي بيتنا وتدخل أخوته الفضلاء والأقارب بيننا وحاولوا تهدئة الأمور ومنع الطلاق, وبعد جلسة مداولات طويلة وجارحة جرت كلها أمامي وفي حضور والدة زوجي وزوجي وافقت حماتي علي أن تعطينا فرصة أخري للحمل,
ورجعنا إلي بيتنا وأنا راضية بذلك ووعدت زوجي بأن أبدأ معه صفحة جديدة أتناسي فيها كل شئ وسافرت مع والدي ووالدتي لأداء العمرة وطفت بالبيت الحرام وأنا أدعو الله أن يحقق لي أملي في الإنجاب وإنقاذ بيتي وزوجي وتعلقت بأستار الكعبة عند الملتزم وبكيت بالدمع الغزير وأنا أسترجع مشاهد مواجهتي لأم زوجي وسؤالها عما تريد أن تفعل بي وجلستي أمام رجل الدين انتظر كلمته في أمري.. وجلستي بين جمع من الأهل انتظر نتيجة المداولة بشأني, وافرغت كل أحزاني وآلامي,
ثم عدت إلي القاهرة وقد تحسنت حالتي النفسية بالفعل وعشت مع زوجي شهرين سعيدين ثم رجعت المنغصات مرة أخرى من جانب حماتي, وبدأت أشعر بإبتعاد زوجي عني.. ومضت ثلاثة شهور أخري لم يحدث خلالها حمل رغم متابعتي بإستمرار مع الطبيب, وفي صباح أحد أيام الجمعة اصطحبني زوجي بسيارته إلي بيت والدي لنتناول معا طعام الغذاء بدعوة منه وقد رتبنا معا أن نقضي فترة الظهيرة في بيت أبي ثم نخرج في الأصيل أنا وزوجي لزيارة بعض أصدقائنا في بيتهم,
وأوصلني زوجي إلي بيت أبي ثم أستأذن في الخروج لنصف ساعة لأداء صلاة الجمعة, وخرج وانتظرت عودته بعد الصلاة فطال غيابه.. ورفضت تناول الغذاء قبل رجوعه.. وانتظرت فلم يرجع ثم رن جرس التليفون فجأة ورفع أبي السماعة فإذا به يسمع صوت حماتي تطلب منه أن يذهب إلي شقتي لإنزال أثاثي منها لأن زوجي سيطلقني وسوف يتزوج في نفس الشقة خلال وقت قصير!
ووضع أبي السماعة ثم أبلغنا بما سمعه فانهرت باكية لقسوة الغدر بعد كل ما فعلت وقدمت, وتم الطلاق بعد أسبوع وتهدم البيت الذى فعلت المستحيل للحفاظ عليه.
أنني لا أكتب إليك الآن لكي تجد لي حلا لمشكلتي فقد تولاني الله سبحانه وتعالي برحمته وهيأ لي من أمري رشدا, وإنما أكتب إليك لكي أسألك لماذا يظلم الإنسان أحيانا من أخلصت له واعطته الكثير والكثير وتحملت منه الكثير والكثير؟ ولماذا يلجأ الإنسان إلي الغدر بمن أحبته حبا صادقا وأخلصت له العطاء بدلا من المواجهة بشرف كما ينبغي أن يفعل من يحترم آدمية من شاركته الحياة.
أنني الآن لست حزينة علي زوجي فقد اهتزت الصورة المثالية التي رسمتها له في خيالي وتهاوت أمام الغدر القاتل وتكشف لي من حقائق الأمور والحياة ما لم أكن أراه بعين الحب التي لا تري للأسف فيمن تحب إلا كل جميل لكن بداخلي سؤالا كبيرا يبحث عن إجابة هو لماذا يظلم الإنسان.. أحيانا أو يقسو.. ويتحجر قلبه إلي هذا الحد؟
لقد فقدت ثقتي في الأشياء والأشخاص حتي كدت أشك في أصابع يدي في الأيام الأولي, لكني قد استرددت الآن والحمد لله وبعد أسابيع قليلة هدوء نفسي, وأعانني إيماني العميق علي تقبل أقدارى كما تقبلتها من قبل, واعتبرت ما حدث صفحة وانطوت من عمرى بخيرها وشرها, وقررت أن أبدأ حياتي من جديد وأردت أن أرجع إلي عملي السابق الذى انقطعت عنه فإذا بمن لا ينسي عباده في الملمات يهديني عملا أفضل منه وبمرتب يزيد علي مرتبي السابق أضعافا مضاعفة,
وفي وسط إجتماعي راق بين زملاء وزميلات أفاضل وجدت بينهم راحتي وسلامي النفسي, وفضلا عن كل ذلك فهو قريب من بيت أسرتي أذهب إليه بسيارتي خلال دقائق وقد اعطيت العمل كل إخلاصي, وأصبحت أمضي فيه كل نهاري من الصباح وحتي الساعة السادسة أو السابعة مساء كل يوم..
وزالت غشاوات كثيرة عن عيني فرأيت بعض ما لم أكن أراه من قبل بعين المحب العمياء, فإذا كنت نادمة الآن علي شئ فعلي إني قد اضعت فترة ثمينة من العمر في حياة كان محكوما عليها بالفشل منذ البداية, لكن رغبتي في الحفاظ عليها قد اعمتني عن هذه الحقيقة, ورجائي الأخير هو أن توجه كلمة لكل أم تسعي في خراب بيت ابنها وكل ابن يستجيب لها في ذلك إلي ان يتقيا الله في بنات العائلات وأعراض البشر, والسلام عليكم ورحمة الله.
ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
كثيرا ما تواجهنا محن الحياة واختباراتها القاسية.. فنظن ونحن في ذروة معاناتنا لها أننا لن نستطيع مهما حاولنا ان نتحمل الحياة بعدها ثم ما تلبث إرادة الحياة في داخلنا أن تثبت لنا كل مرة أننا قادرون علي تخطي أقصي الآلام بعد حين وعلي مواصلة الرحلة في طريقها المرسوم رغم كل الصعوبات, وما أكثر ما تجرف الحياة من أحزان وآلام كانت في قمة أوارها تكوينا بلسع النار, ثم اخمدها الزمن شيئا فشيئا.. حتى أصبحت كآثار الجراح القديمة لا تؤلمنا.. وإن تركت بعض ندوبها في روحنا.
والرضا بأقدارنا هو وسيلتنا الوحيدة لمكافحة الآلام وإعانة عامل الزمن علي إخماد لهيبها.. والحوار العاقل الهادئ مع النفس هو الذى يقنعنا في النهاية بأن مالا حيلة لنا في منعه لم يكن بأيدينا مهما أجهدنا أنفسنا ان ندفعه عنا, وأن كل ألم في الحياة مصيره إلي زوال بعد حين.. ومن واجبنا أن نساعد أنفسنا علي البرء منه بألا نتوقف طويلا أما الأطلال..
وألا نهدر العمر الثمين في اجترار الأحزان.. وبأن نتبع نصيحة ذلك الشاعر الأمريكي الذى ينصح كل مهموم قائلا: استمر.. استمر واصل طريقك في الحياة سواء أكان مفروشا بالورود أو بالأشواك.. استمر.. استمر فسوف تجد حلا لكل المتاعب والصعاب ولن تجده أبدا إذا توقفت أمام أحزانك أو تجمدت في موقعك.
فإذا كنت ألومك في شئ ففي امتهانك لنفسك مع زوجك ووالدته إلي حد استجدائهما الإبقاء عليك.. وكأنما لن تكون لك حياة بعد زوجك هذا أو كأنما قد خلت الدنيا من كل الرجال بعده.. نعم نحن نحترم الحب الحقيقي المخلص ونلتمس العذر لصاحبه فيما تمليه عليه عاطفته من تصرفات..
لكن لكل شئ حدودا يا سيدتي, ولست في النهاية تضحين بكرامتك حرصا علي مصلحة أبناء من أن يتعرضوا للضياع بينك وبين زوجك لكي تقبلي لنفسك ما قبلت, أو حتي لكي تقبلي مجرد محاسبتك علي تأخر الإنجاب ثلاث سنوات فقط حملت خلالها ثلاث مرات ولم يشأ لك ربك أن يكتمل الحمل, كأنما قد اخترت لنفسك ما تعرضت له من محن أو كأنما قد عاشرت زوجك خمسة عشر عاما, ويئس نهائيا من تحقيق أمله في الإنجاب منك فاستأذنك علي استحياء في ان تسمحي له بالزواج من أخري من أجل الإنجاب وخيرك بين الإنفصال عنه أو الإستمرار معه كما يفعل الآخرون في مثل ظروفه,
لكنك رغم ذلك قد قبلت أن تقفي موقف الدفاع عن نفسك ضد الإتهام القاسي بالفشل في الإنجاب, وصاحبت زوجك طائعة إلي لقاء رجل الدين الفاضل لكي يستشيره أمامك في أمر طلاقك, ويغادره مهموما شاردا لأنه لم يوافقه علي نيته ففيم كل هذا الإيلام, وكل هذا الهوان الذى رضيت به لنفسك يا سيدتي لقد قال الإمام علي بن أبي طالب “إذا رفعت أحدا فوق قدره فتوقع منه أن يضعك دون قدرك” والمؤكد أنك قد رفعت بعض الأشخاص بعين الحب فوق قدرهم.. فلا عجب أن رضوا لك بمثل هذا الإيلام.
أما اسئلتك الحائرة عن “الغدر” بدلا من المواجهة الشجاعة وتحمل تبعاتها.. وعن لماذا يظلم الإنسان لهذا فلابد ان نستمر وان نحيا.. ونعمل ونواصل الطريق ونتفتح للحياة من جديد عقب كل محنة لنستقبل مؤثراتها الجديدة.. ونتناسي معها أحزاننا السابقة.. والأديب الايرلندى العظيم برنارد شو يميز بين الإنسان العاقل وبين غير العاقل بمدى قدرته علي أن يتواءم مع الواقع المحيط به مهما كانت قسوته, فيقول أن العاقل هو الذى يتواءم مع الواقع أما غير العاقل فينتظر من الواقع أن يتواءم معه.. ولهذا فأن أعظم إنجازاته لن تزيد مهما فعل علي مجرد الإنتظار!
وأنت لم “تنتظري” والحمد لله وإنما خرجت للعمل وللحياة وأعدت النظر في تجربتك المؤلمة فرأيت فيها عن بعد مالم يكن متاحا لك أن تبصريه وأنت في بؤرة آلامها, ولا بأس بمحاسبة النفس ومراجعة التجارب التي نعيشها ثم تنتهي صفحتها ولكن بشرط ألا تستغرقنا إلي مالا نهاية وتستحوذ علي تفكيرنا كل الوقت فتقضي علينا بالحياة في سجنها بدلا من أن تعيننا المراجعة علي الإستفادة بدروسها.
وقمة شفاؤنا من آثارها الكئيبة هي ان تعبر ذكرى “أبطالها” في مخيلتنا فلا تثير فينا الحنين إليهم.. ولا الحنق عليهم, فحتي الكراهية التي قد تتحول إليها مشاعر الحب في بعض المحن ليست سوى شكل آخر من أشكال “الإهتمام” بمن غدروا بنا ولم يرعوا عهدنا, في حين انهم لا يستحقون منا في الحقيقة بعض هذا الإهتمام حبا كان أم كراهية, وهم “يموتون” حقا بالنسبة إلينا حين ننساهم تماما فلا تثير ذكراهم في نفوسنا سوى ما تثيره ذكرى آحاد الناس ممن لا نحبهم ولا نكرههم ولا يعنينا من أمرهم شيئا, وسوف تصلين إلي هذه المرحلة قريبا بإذن الله.
- من أرشيف جريدة الأهرام
- نشرت سنة 1995