أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

العربة الطائشة‏! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أنا سيدة تجاوزت الأربعين من العمر بقليل‏,‏ علي قدر من الجمال‏,‏ ومن أسرة ذات عراقة وإن لم تكن علي نفس القدر من الغني الذي يناسب عراقتها‏,‏ تعلمت في إحدي أرقي المدارس في القاهرة وكنت دائما من الأوائل وتربيت في أحد الأندية الكبري فكنت أمضي اليوم بكامله فيه خلال أجازة الصيف‏,‏ وبالرغم من ذلك فقد نشأت نشأة دينية وكنت دائما أتقي الله ولا أتذكر أنني ذات يوم لم أصل فروضي جميعها‏,‏ كما كنت دائما أفضل غيري عن نفسي وأري نفسي دائما الملومة عند أي خلاف مع أي طرف ولا أطيق أن يخاصمني أحد فأسارع بالصلح لأني لا أري إلا أخطائي وحدي‏.‏

ولست أكتب لك هذه الرسالة لأتغزل في نفسي واستعرض فضائلي‏..‏ إنما أقدم هذه المقدمة لأعرض لك الوجه الآخر من اللهب‏.‏ تعليقا علي الرسالة التي نشرت من قبل في هذا الباب بعنوان غليان اللهب للزوج الذي يشكو من عصبية زوجته الزائدة علي الحد‏.‏ فأنا هذا الوجه الآخر‏,‏ فلست زوجة صاحب الرسالة ـ إنما أنا نسخة تشبهها كثيرا ـ وأظنك تود أن تعرف أنت والقراء مشاعري الحقيقية أنا وأمثالي من المبتلين لتحمدوا الله جميعا علي ماأعفاكم منه‏!‏

فأنا من هؤلاء الأشخاص الذين لا يستطيعون التحكم في أنفسهم عند أي استثارة أو استفزاز‏,‏ وبالرغم من طيبتي وحبي لمساعدة الآخرين فإنني أفقد كل الصفات الطيبة في لحظات إذا اصطدمت بإنسان أو سيدة أو أي طرف آخر وتندلع الحرائق داخلي ‏..‏ وأشعر كأنني سيارة قد تلفت فراملها‏,‏ وتسير بأقصي سرعة للاصطدام بالحائط الذي ينتصب أمامها‏,‏ ومهما حاولت لإيقاف هذه السيارة الطائشة فإنها سوف تندفع إلي غايتها وتصطدم بالحائط فتدمر ‏..‏ وتتدمر

وتكون النتيجة جراحا غائرة في نفسي ولوما شديدا لها ووهنا في جسدي وآلاما في رأسي‏,‏ وبكاء بالساعات بعد ماحدث وأحاول بعد ذلك أن أنسي‏..‏ أو أتناسي وأعاهد نفسي ألا أكرر ذلك ثانية‏,‏ ولكن هيهات فهي نفس السيارة ونفس الفرامل التالفة‏,‏ وقد تكون الشرارة التي تشعل الحريق حركة بسيطة من الآخرين قد لا يستشعرها غيري أو كلمة إشارة أو ردا لم يعجبني‏,‏ فأبدأ بالاعتراض فلا يتقبله من هو أمامي ‏..‏ فيحدث الاشتباك ويتطاير اللهب‏.‏

وهذا هو مايحدث في معظم الأحوال‏..‏ وقليلون جدا هم من يوقفون اندفاع سيارتي بكلمة حانية أو ابتسامة مودة‏,‏ أما الأغلبية العظمي‏,‏ وهم عادة من الرجال‏,‏ فإنهم لا يتقبلون أن تخاطبهم سيدة علي هذا النحو فيكون الانفجار‏,‏ مع أني إذا ذهبت لقضاء مصلحة تعمدت الأدب التام فلا أجد إلا العجرفة‏.‏

لقد قيل لي إن شكلي وأسلوبي الارستقراطي مستفزان وان هذا السبب في أن الطرف الآخر لا يتحملني ويتعامل معي بحدة فحاولت تغيير أسلوبي قدر الإمكان فنجحت أحيانا وفشلت في معظم الأحيان‏,‏ ولاشك أنك قد عرفت أنني قد دفعت ثمن هذا اللهب الذي يغلي داخلي من سعادتي ومن حياتي الخاصة‏..‏ ففشل زواجي الأول‏..‏ وانتهي بالطلاق‏,‏ ثم تزوجت مرة أخري‏..‏ وتم الطلاق المعنوي وعشت وحيدة لا يؤنس وحدتي شيء‏,‏ تتأجج داخلي نيران الغضب الداخلي ويتضخم عندي الإحساس بالظلم‏..‏ وقد حاولت أن أجد علاجا لنفسي وترددت علي بعض الأطباء بلا فائدة‏..‏ فهل عندك حل آخر‏..‏؟‏!‏

رائج :   أحمد خالد توفيق : عن الفيروس الذي يهاجم مصر في فترات الانتخابات !!

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

أحسب أن جوهر مشكلتك يكمن في هاتين العبارتين اللتين جاءتا في ختام رسالتك وهما نيران الغضب الداخلي وتضخم الإحساس بالظلم‏,‏ فهذا الغضب الذي يتأجج داخلك دائما وهذا الإحساس المتضخم بظلم الغير أو الحياة لك من سمات الشخصية البارانوية التي تسيطر عليها عادة أفكار ضلالية تشعرها بأنها هدف لاضطهاد الآخرين وظلمهم علي الدوام‏..‏

ولأن الأمر كذلك فان صاحب مثل هذه الشخصية يتعامل مع الآخرين غالبا من موقع التحفز الدائم للدفاع عن النفس والكرامة ضد مايتصوره عدوانا عليهما فيكون كمن يضع يده باستمرار فوق زناد البندقية مترقبا أية حركة من العدو لكي يبادره بإطلاق النار‏,‏ ولشدة الترقب وتوتر الأعصاب فإنه قد يعتبر أي لفحة هواء عابرة نذيرا بخطر داهم فتضغط أصابعه تلقائيا علي الزناد‏ ..‏

وتتوالي الطلقات ويمضي وقت ثمين قبل أن يكتشف أنه يسدد طلقاته في الهواء‏!‏ وهذا هو غالبا حال من يعانون مثل هذا العجز عن ضبط النفس وكبح جماحها في الوقت المناسب‏,‏ ولأن من يعانون هذه الأفكار الضلالية يتسمون دائما بالاعتداد المغالي فيه بالنفس وبالإحساس الزائد بالتميز والتفرد والعظمة‏,‏ فإن مايبدو للآخرين سلوكا عاديا قد يبدو لهم وحدهم إهانة بالغة‏,‏ ومايعتبره الغير أسلوبا طبيعيا في الحديث قد يبدو لهم دون غيرهم وقاحة واجتراء علي الحرمات والأقدار‏,‏ فيأتي الرد عليه عنيفا‏..‏ وتشتعل النيران‏..‏ ويغلي اللهب‏!‏

لهذا يقول لنا علماء النفس إن أصحاب الضلالات الاضطهادية غالبا عدوانيون وسريعو الغضب‏,‏ ولهذا أيضا لا تفلح أية كوابح في كبح جماح سيارتك الطائشة حين تتلقي أية إشارة تشعرك بالإهانة أو الجفاء أو الاضطهاد‏..‏ ثم يكون الندم دائما بعد الانفجار‏..‏ والبكاء‏..‏ والعزم الصادق علي تجنب تكرار مثل هذه الاندفاعات المهلكة‏..‏ فلا يمضي وقت طويل حتي تتكرر المأساة من جديد‏.‏

ولأن ضبط النفس وكبح القلب من أتم وأكمل مايبلغه الإنسان كما يقول لنا الأديب الراحل إبراهيم عبد القادر المازني‏,‏ كما أن من يسيطر علي نفسه يصبح حرا كملك الغابة كما يقول حكيم الهند المهاتما غاندي‏,‏ فإني أدرك عمق معاناتك‏..‏ وحجم مشكلتك وماتخلفه لك من عناء دائم في التعامل مع الآخرين وفي حياتك العائلية‏..

‏ ونصيحتي الختامية لك هو أنك تستطيعين إعانة نفسك علي تجنب كل هذا العذاب بالاقتناع بأهمية العلاج النفسي المنتظم لفترة كافية ‏..‏ ثم بالاستبصار الذاتي لأسباب المشكلة وتحليلها وفهمها ومحاولة تدريب النفس علي كبح جماح الغضب وعدم الاستسلام لوساوس الاضطهاد والشعور بالظلم ومع التدرب أيضا علي افتراض حسن النية في الآخرين إلي أن يثبت العكس وليس افتراض سوء النية فيهم إلي أن تقع الواقعة‏!‏

فضلا عن التسامح بل والتجاهل المتعمد أحيانا لبعض الإساءات العابرة أو غير المقصودة من الآخرين طلبا للسلام معهم أو مع النفس‏,‏ لأن الحياة لا تحتمل حين يكون المرء في حالة تحفز دائم للآخرين كأنه محارب يضع كل دروعه فوق جسمه ليل نهار‏..‏ ويتوثب لصد ضربة مفاجئة أو طعنة غادرة‏..‏

وقديما كان أحد الصالحين يقول كلما غادر بيته في الصباح‏:‏ اللهم إني قد تصدقت بعرضي علي عبادك‏,‏ بمعني أنه يغفر مقدما لكل من سوف يسيء إليه في عرضه أو كرامته أو يغتابه أو يتقول عليه‏..,‏ فيكون كل ماافتروا به عليه زورا في ميزان حسناته‏..‏ فكأنما قد تصدق بعرضه علي هؤلاء الخطاء فحاولي من جديد‏..‏ وابدئي صفحة جديدة من حياتك بإعلان السلام العام مع الحياة والآخرين‏..‏ ولسوف تتغير أشياء كثيرة في حياتك إلي الأفضل بإذن الله‏.‏

 

مقالات ذات صلة