أجمل رسائل بريد الجمعة

النظرات اللائمة ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

انا رجل فى الخمسين من عمرى اعطتنى الحياة واخذت منى .. بدأت رحلتى مع الحياة حين توفى ابى تاركا وراءه اسرتين هما امى وانا وحيدها ، وزوجة ابى الاخرى واربعة اخوة غير اشقاء ،

وكانت لأمى السطوة فى حياة ابى لانها من اسرة عريقة ، فكاد ذلك يؤدى الى انفرادها بمعظم الميراث دون زوجة ابى واخوتى لولا ان تصدى لها رجل من اسرة ابى واصر على ان يقسم ميراث ابى حسب الشرع فنالت زوجة ابى وابناؤها حقوقهم ،

وانخفض بذلك نصيبنا من الميراث الى ادنى حد ممكن فأسخط ذلك امى عل كل افراد اسرة ابى وعلى هذا الرجل على وجه الخصوص ، وقاطعت الاسرة كلها واتجهت بى الى عالم اسرتها ، فنشأت بينهم لااعرف سواهم ، ولاأكاد اعرف احدا من اسرة ابى ، ولااسمع عنهم إلا ما يبغضنى فيهم وفى هذا الرجل الذى وقف ضد امى ، وظل الحال على هذا النحو حتى تخرجت فى كليتى العسكرية وتزوجت بدون ان يشهد زواجى احد من اسرة ابى الذين لم ندعهم للحضور والمشاركة ،

وكانت والدتى تذكرنى من حين لأخر بهذا الرجل الذى ضيع حقوقنا وجعل اسرة ابى تقاطعنا وفرق بينى وبين اخوتى ولم يكتف بذلك بل راح يساعدهم فى حياتهم ليصبحوا افضل منى !فعشنا وامى وزوجتى منعزلين عن اسرة ابى ، وحين مرضت امى مرضها الاخير رفضت ان يعودها احد منهم وأوصتنى وبألا يشارك أحدهم فى وداعها الاخير ، ورحلت امى _ يرحمها الله ويغفر لها _ عن الحياة وخلت الدنيا بعدها إلا من زوجتى التى عايشت موقفنا من عائلة ابى ومن ابنتى الوحيدة التى رزقت بها واصبحت محور حياتنا ،

وتفرغت لعملى وحياتى وابنتى وراقبتها وهى تكبر وتتقدم من مرحلة الى مرحلة من العمر حتى استوت أية فى الخلق والجمال .. ولأنها كانت تعتبرنى وامها صديقين لها فقد كانت تفتح قلبها وعقلها لنا بااستمراروتحدثنا عن كل شئ فى حياتها وعن زملائها فى كليتها ومن تستريح لهم ومن لاتستريح الخ ، حتى شعرت باهتمامها الخاص بأحد زملاءها بالكلية ، وجاء عيد ميلادها فأقمنا لها كعادتنا السنوية حفلا عائليا فى البيت دعت إليه صديقاتها وزملاءها ، وجاء معهم هذا الشاب وقدم نفسه الى فاذا به يفاجئنى بأنه يعرفنى من قبل جيدا لأنه فلان ابن فلان !

واذا به اصغر ابناء ذلك الرجل الذى اعتبرته امى المسئول الاول عن حرمانها مما رأته حقا لها فى ميراث ابى والذى افسد مابينها وبين الاسرة ، وفرق بينى وبين اخوتى لأبى ، وشعرت بالضيق والارتباك وكأن مخزون الكراهية الذى تجمع فى اعماقى طوال رحلة السنين يكاد ينفجر فى وجهه ، وهممت بطرده بالفعل من البيت ، لكنى تمالكت نفس لكيلا احرج ابنتى بين زملاءها ،وانتهى الحفل وأنا فى أسوأ حال ، وانفردت بزوجتى بعده فاذابى ألمس اعجابها وتعاطفها مع هذا الشاب ، فغضبت لذلك وطلبت منها ان تقنع ابنتى بالبعد عنه وتجنب الاشارة إليه أمامى.. ووعدتنى زوجتى بأن تحاول ذلك ..

لكن الشاب لم يخرج من حياتنا بعدها وتردد اسمه أمامى كثيرا على لسان إبنتى المعجبة بأخلاقه ورجولته وكفاحه فى الجمع بين الدراسة والعمل ، بل وعلى لسان زوجتى أيضا ، وكظمت غيظى الشديد من ذلك مؤملا أن يتغير كل شئ حين تتخرج ابنتى فى كليتها ويتفرق زملاء الكلية كل منهم فى طري،

لكنى فوجئت فى حفلة تخرج الابنة وزملائها بهذا الشاب يقترب منى ويطلب منى موعدا لزيارتى فى البيت ، وفوجئت اكثر باشارات زوجتى لى بألا ارفض ذلك فضربت له موعدا فجاء ليزورنى ويفاتحنى بنيته فى الارتباط بابنتى فلم استطع كبح جماح ثورتى وانفعلت انفعالا صاخبا .. وتوعدته بضياع مستقبله ان هو فكر فى ذلك ، وخرج الشاب طريدا كسير النفس ، وتحملت السخط الصامت من ابنتى على امل ان تنشغل بحياتها العملية وبمن يتقدمون لدم لطلب يدها ..

وتقدم إليها بالفعل اكثر من خاطب فقوبلوا جميعا منها بالرفض وأدركت ان هذا الشاب مازال يقف بينى وبينها فتقصيت اخباره وساعدنى منصبى الكبير على ذلك فعرفت أنه عمل بشركة فى مجال الإرشاد السياحى ، وان فرص اللقاء لن تكون منعدمة بينهما ، فاتصلت بصاحب الشركة التى يعمل بها سرا وطلبت منه فصل هذا الشاب ،

لا بعاده عن ابنتى وضحى به الرجل اكراما لى او قل لمركزى بالرغم من انه قد اثنى عليه وعلى أخلاقه وكفاءته ..واتصل احد زملاء الكلية بى وكنت اعرف اعجابه بابنتى ورغبته فى الارتباط بها فشجعته على التقدم لها وأغريته بأننى سأذلل كل الصعاب امامه ،ففوجئت بهذا الشاب يسألنى سؤالا محيرا هو : ألا يعتبر ذلك مؤامرة لا إنسانية ضد فلان ؟!

وشعرت اننى محاصر بهذا الشاب وبأصدقائه وزملائه المتعاطفين معه وزاد كرهى له ولاحقته فى أكثر من عمل التحق به وتسببت فى فصله أكثر من مرة ..وكلما تقدم خاطب لابنتى رفضته باصرار، إلى أن علمت بالصدفة أن هذا الشاب قد قرر السفر الى فرنسا واللحاق ببعض أقاربه الذين يعملون هناك ولاحظت خلال هذه الفترة انكسار ابنتى واكتئابها وفقدها للحماس للحياة ،

وفسرت ذلك بحزنها لانتهاء القصة ،وفى هذه الظروف تقدم إليها خاطب تتوافر فيه كل المقومات ومن اسرة عريقة ففوجئت بها تقبله بلا حماس ، وتم عقد قرانها عليه بالفعل وسافر الشاب اياه الى فرنسا واختفى من مسرح حياتنا واسترحت لذلك كثيرا ولمست عدم سعادة ابنتى بخطيبها لكنى هونت الامر على نفسى بأنها لن تلبث ان تندمج فى حياتها الزوجية المقبلة وتسعد بها وتنسى كل شئ اخر ،لكن الايام مضت وابنتى تزداد هزالا وذبولا إلى ان سقطت غائبة عن الوعى بين ايدينا ذات مرة فهلعنا لما أصابها ،

وحملناها إلى الطبيب فلم يقطع بتشخيص محدد وطلب منا اجراء فحوصات عديدة وتنقلنا بها بعد ذلك بين عدد كبير من الاطباء فاذا بأخرهم يصدمنا صدمة العمر الهائلة بأن ابنتنا الحبيبة مصابة بورم خبيث فى المخ .. ثم يشير علينا بعرضها على أطباء مستشفى متخصص فى فرنسا ،واستسلمنا لأقدارنا مذهولين ،وبدأنا نعد عدتنا للسفر الى هناك وقبل ان نبدأ رحلتنا بأيام فوجئت بأخر ماكنت اتوقعه ونحن فى هذه الظروف المؤلمة .. وهو ورقة طلاق ابنتى ممن كنت أظن أنه سيكون ابنى الذى لم انجبه من صلبى والذى سوف يقف إلى جوارها ويرعاها فى محنتها الصحية..

وكتمت الخبر عن ابنتى وزفرت هاتفا : حسبى الله ونعم الوكيل وأكملنا استعدادنا للسفر ، وانا وزوجتى كالسكارى نتطوح من الحزن والذهول ،وكنت قد كلفت صديقا لى يعيش فى بباريس بأن يؤجر لنا مكانا نقيم فيه هناك ، فاستاجر لنا (ستوديو) صغيرا اى غرفة بمرافقها فى حى بأطراف باريس اسمه (بورت لاشابل) وسافرنا الى العاصمة الفرنسية مع بداية الصيف الماضى وغادرنا المطار ففوجئنا بالشاب الذى اراد الارتباط بابنتى وعاملته من قبل أسوأ معاملة يقف خارج الدائرة الجمركية فى انتظارنا ، وعرفت انه قد علم من صديقى بمجيئنا وبما اعده لنا من سكن فى أطراف باريس ،

وتقدم منا يرحب بنا فى ادب ويبلغنا بأنه قد حجز لنا مكانا افضل واقرب الى المستشفى فى الحى السادس عشر وقادنا اليه وأشرف على راحتنا حتى استقررنا فيه ، وغادرنا فى المساءعائدا الى المكان الذى يعمل ويقيم فيه خارج المدينة ثم تفرغ لنا بعد ذلك تاركا عمله وراح يأتى الينا كل صباح حاملا معه الافطار ثم يصحبنا الى المستشفى ويقضى معنا معظم اليوم ويصحبنا الى المزارات المختلفة دون ان يشير اية اشارة الى ماجرى بينى وبينه ، اما ابنتى فقد تحسنت حالتها النفسية بعض الشئ لكنى لاحظت انه يتفادى الانفراد بها او الحديث معها بشكل شخصى ،

كما لاحظت ايضا على ابنتى انها عاتبة على هذا الشاب عتابا صامتا لأمر لااعرفه وتمنيت لو عرفته لأ اجد تفسيرا لنظراتها اللائمة له والتى يتفاداها دائما . وجاء موعد دخولها المستشفى فاذا بابنتى تصارحنى امامه بأنها قبلت بالزواج من الاخر احتجاجا على هذا الشاب لانه رفض ما عرضته عليه هى من ان يتزوجها سرا لكى يضعنى امام الامر الواقع ، لكنه اشفق عليها من ان يعرضها لهذا الموقف معى .

وأكد انه لها انه يريدها ولا يقبل بها الا فى النور وبرضا الجميع . ثم قرر السفر الى فرنسا لهذا السبب !! وأدركت فى هذه اللحظة معنى نظراتها اللائمة له وشعرت بالخجل منه وبالاحترام الشديد له ودخلت ابنتى المستشفى واجريت لها الجراحة المقررة وخرج الينا الاطباء وعلى وجوههم النتيجة المفجعة . وانهرت انا وزوجتى انهيارا كاملا .وفقدت الا حساس بالمكان والزمان حتى خيل الى اننى اشاهد احداث قصة غريبة لست طرفا فيها ..

فى حين راح هذا الشاب الذى لم يبكى ولم يتهاو على الارض كأنما خلق لمواجهة الشدائد ، يتحرك هنا وهناك ويرتب لعودة الجثمان لمصر.. ويستدين من اصدقائه لتغطية النفقات ويتصل بأهلنا بمصر ليكونوا فى انتظارنا ويحجز لنا أماكن العودة ، ويقوم عنا بكل شئ ثم يرجع معنا على نفس الطائرة لأجد فى مطار القاهرة زحاما من الاهل الذين اتصل بهم ونسوا سنوات القطيعة والجفاء وجاءوا لاستقبالنا وشد ازرنا والتخفيف عنا بكل شئ .. ومضت الامور فى طريقها المرسوم ..

ولم يكن يخفف عنى وزوجتى بعض مايعتصرنا من الم سوى وجود هذا الشاب معنا ، وسوى مااحسسنا به من صدق تعاطف هؤلاء الاهل وصدق مشاركتهم لنا فى مصابنا. وتوالت الايام بعد ذلك ثقيلة وحزينة ، ورحت ذات يوم اقلب اوراق ابنتى لأجمع تذكاراتها واحتفظ بها فوجدتنى أقرأ ماكتبته عن احلامها مع هذا الشاب وكيف يحلمان بأن يعملا معا فى مجال الارشاد السياحى ويتزوجا ويتمتعا بالحب والحياة واعتصر الالم قلبى لما حرمتها منه بموقفى من هذا الشاب وقتلت نفسى لوما وتعذيبا وتمنيت لو كنت قد حققت لها احلامها الموؤدة هذه . وجاء هذا الشاب لزيارتى فوجدتنى اعترف له بكل مافعلته معه وتسببت له فيه من متاعب فى جهات عمله .

واطلب منه ان يسامحنى فيما فعلت ، فأكد لى ذلك ثم استأذننى فى الانقطاع عن زيارتى لانه سيسافر الى قريته ويقضى بها بعض الوقت وصافحته مودعا وشاكرا وعلمت من بعض الاهل انه قد اعتذر عن العودة لعمله السابق كمرشد سياحى ومضت اسابيع لم يتصل بى خلالها .

وفى ثالث ايام عيد الاضحى الماضى شعرت برغبة قوية فى زيارة مثوى ابنتى الاخير . فتوجهت اليه ففوجئت بهذا الشاب يجلس امامه واجما وعاتبته لانقطاعه عنى خلال الفترة الماضية وانا من اعتبره الان ابنى الذى عوضنى الله به عن فقيدتى كما لمته على زهده فى العمل وجلوسه فى قريته بلا عمل فبكى لاول مرة امامى منذ وقعت الواقعة وقال لى انه قد فقد ثقته فى الحياة ولم يعد يستطيع جمع شتات نفسه .ولايقدر الان على ممارسة عمل المرشد السياحى الذى يتطلب منه ان يكون حاضر الذهن وبشوشا ومبتسما فى وجوه السياح .

ووجدتنى انا الذى فقد وحيدته وكل حياته أخفف عنه واطالبه بالتجلد ثم اصررت على ان يصحبنى الى البيت وجاء معى وقضى معنا بعض الوقت ثم ودعنى شاكرا ومعتذرا عن عدم قبول اى مساعدة من جانبى له فى العودة لعمله واختفى منذ ذلك اليوم عنى ولم اعد اراه . ولقد سمعت انه انه يفكر فى استكمال دراسته العليا فى الكلية كما سمعت ايضا انه قد استخرج جواز سفر بحريا ويفكر بالعمل فى البحر .ولاننى فقدت الاتصال به منذ ذلك اليوم فلقد فكرت ان اتصل به من خلالك ، وان ارجوك ان تكتب له مناشدا اياه ان يتقبل امر الله وان يصفح بقلب صافى عما فعلت معه .

وان يرجع لزيارتى من حين لاخر لاننى ارى في وجهه ملامح صورة ابنتى الغائبة واتسمع فى حديثه صدى حديثها معى ، كما ارجو ان تشجعه على استكمال دراسته العليا واستعادة رغبته فى العمل وحبذا لو استطعت عن طريق قرائك مساعدته فى العمل بالبحر كما يفكر .وحبذا ايضا لو دعوته لمقابلتك وتفرغت له ساعة من وقتك لتخفف عنه وتشد من ازره وتعيد اليه ايمانه بالحياة فالحق اننى لم اعد املك له شيئا الان لكنك تملك له انت الكثير ، اما اخر رجائى لك فهو ان تبلغه اننى قد تعلمت منه . رغم صغر سنه كيف يكون الرجال وانه رجل حقيقى يفخر به اى اب واى صهر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

رائج :   الأشواق الحبيسة ! .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

قد يعلمنا الابناء بعض ماغاب عنا وظننا نحن بغرور العمر انه لايغيب والحق ان هذا الشاب النبيل لم يعلمك وحدك كيف يكون الرجال ، وانما علمنا نحن ايضا ذلك كما علمنا كذلك كيف يكون حب الرجال شريفا وامينا ، وعفيفا .. ومتعاليا عن اهواء النفس واكثر حرصا على صالح الطرف الاخر وكرامته حتى من نفسه !

فلا عجب اذن فى ان يكون هذا الشاب الامين من سلالة ذلك الرجل العادل الذى اصر على تقسيم ميراث ابيك بالحق والعدل بين زوجتيه وابنائه حتى ولو اسخط عليه بعض من لم يكن يرضيهم ذلك ، ولاشك فى ان للعوامل الوراثية اثرها فى انتقال بعض الفضائل والسمات النفسية والخلقية من جيل لاخر ، فان لم يكن ذلك بفضل هذه العوامل الوراثية وحدها ، فعلى الاقل بفضل التنشئة الاخلاقية والقيم المثالية التى تسود البيئة العائلية لمن يتسمون بهذه المثاليات والاخلاقيات ،

حتى لقد حار بعض بنى امية فى تفسير شدة خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز فى الحق والعدل ولو اسخط عليه ذوو قرباه ، فلم يجدوا تفسيرا له سوى انتسابه من جهة الام الى الخليفة العادل عمر بن الخطاب فسخطوا على ابن الخطاب على بعد المدى كما سخطوا على حفيده العادل الذى اصر على رد المظالم من اموال بنى امية ، والتزم العدل بين الرعية .

ولو تاملت ياسيدى ماجرى بين هذا الشاب الامين وبين ابنتك الراحلة يرحمها الله ، للاحظت تشابها واضحا فى السمات النفسية والاخلاقية بين الاب وابنه حين يتصل الامر بما يؤمن احدهما انه الحق والعدل ، فلقد تصدى الاب لرغبة والدتك فى الاستئثار بمعظم الميراث دون غيرها من الورثة ، وتحمل راضيا سخطها عليه ومقاطعتها له وللاسرة ، وتصدى الابن ـ مع اختلاف الظروف ـ لرغبة ابنتك المحبة فى الارتباط به سرا لوضعك امام الامر الواقع ، وتحمل غضبها عليه راضيا او كارها لانه راى فى موقفه انه على حق فى الا يعرض فتاته لما يكرهه لها حتى ولو اغضبها ذلك ،

وهذه هى الشجاعة النفسية التى تملى على صاحبها تحمل تبعات مايؤمن بانه الحق ولو لم يرض عنه احب الناس اليه .. فاما كرهك لهذا الشاب حين ظهر فى افق حياة ابنتك بعد كل هذه السنين فلقد كان ايضا امتدادا لمخزون الكراهية الذى اودعته والدتك فى صدرك تجاه اسرة ابيك وتجاه اسرة ذلك الرجل العادل على وجه الخصوص . ولقد عاهدت نفسى بعد ان قرات رسالتك هذه وتاثرت بفجيعتك المؤلمة فى ابنتك الوحيدة ، الايجرى قلمى بأية كلمة لوم او عتاب لك على سابق موقفك من رغبة ابنتك فى هذا الشاب ، او موقفك السابق منه ، ليس لاننى لاارى فيهما مايستوجب اللوم وانما لان من الام الحياة مايعفى من يكابدها من كل لوم او عتاب على سابق مواقفه ورؤاه .

ولانك ايضا قد عدلت عن موقفك السابق من هذا الشاب حتى من قبل ان تتردد فى الافق انغام الرحيل الحزينة ، فعرفت له فضله وشهامته واكبرت فيه رجولته وتعففه عن الاستجابة لنداء العاطفة وحده اشفاقا على ابنتك من غضبك عليها واشفاقا عليك انت من معاناة هذه المحنة المؤلمة لك كأب وكأنما قد استشف بإلهام قدرى غريب ان الاقدار الحزينة تدخر لك حزنا كبيرا يعلو فوق كل الاحزان واشفق من ان يتعجلها ويضاعف منها قبل حلول الاوان !!

فاذا كنت ياسيدى قد احترقت بلسع الالم والندم وانت تقرأ فى اوراق ابنتك القديمة عن احلامها فى الارتباط بهذا الشاب وتمنيت لو كنت قد حققتها لها فى الوقت المناسب ، فلقد شعرت فى ذلك بما يشعر به الانسان دائما بعد رحيل الاحباء وما يتمناه مما لو كان قد استطاع ان يحقق لهم كل ماارادوا لانفسهم قبل ان تنطوى صفحتهم القصيرة من كتاب الايام ، ولكى يرحلوا الى السماء سعداء غير محرومين ،

اما الرحيل فلم يكن يتاخر لحظة عن موعده المقدور وماكان لاحد من سلطان عليه ، فخفف عن نفسك ياسيدى ماتشعر به من الم لذلك ، وثق من ان ابنتك لم يغب عنها رغم احزانها انك فعلت مافعلت الا طلبا لمصلحتها كما تصورتها انت ، وثق ايضا انها قد لمست تغير موقفك تجاه هذا الشاب خلال رحلة العلاج المريرة فى فرنسا وادركت قبولك له واعجابك به وبأخلاقياته ، ورضيت عن ذلك كثيرا فاذا كانت قصتها معه لم تشهد ختامها السعيد فلآن الاقدار كانت اسبق اليها منك ومما اردته لها من سعادة ولان الحياة للاسف لاترد الينا الاحباء لكى نحقق لهم ماتعلمنا بدرس الالم ان نسلم لهم به بعد فوات الاوان .. ولانه كما قال المتنبى قديما :

أبى خلق الدنيا حبيبا تديمه فما طلبى منها حبيبا ترده !

ولان الامر كذلك فلا عجب ايضا فى ان تجد بعض العزاء فى قرب هذا الشاب الذى احبته ابنتك منك وفى مشاعرك الابوية تجاهه .. وبعد ان كنت تلاحقه بالأذى فى كل عمل يلتحق به ، اصبح يحزنك الان زهده فى العمل وفقده للايمان بالحياة واستسلامه للاكتئاب واصبحت ترجو له ان يواصل دراساته العليا ، ويحقق رغبته فى العمل بالبحر والحق ان هذا الشاب يستحق ذلك منك واكثر .. فهو ممن عناهم الاديب الراحل مصطفى صادق الرافعى حين تحدث عن انواع البشر فقال ان منهم من تنقص بهم الاحزان .. و من تتم به الاحزان ! ولاشك ان هذا الشاب ممن تنقص بهم الاحزان ولاتزيد وارجو ان يتفضل بزيارتى مساء الاثنين القادم لأتعرف به واتحدث اليه واسمع منه .. وارجو الله ان يوفقنى الى مافيه خيره وصلاح امره ..

مقالات ذات صلة