كلما تلقيت مكالمة من (سلمى) عرفت ما سوف تقوله على الفور.. لابد من العبارة التالية:
“آه يا ربي.. أنا مرهفة رقيقة وسط كون لا يفهمني.. لا أحد يفهم كم أنت حساس رقيق..”.
هذه نقطة مهمة لدى هذه النوعية من الفتيات: الكون ينقسم إلى من لا يفهمون، وهؤلاء الذين لم تلقهم بعد.. الذين لم تلقهم بعدُ ينتظرون دورهم كي يصيروا ممن لا يفهمون..
ـ “الصداع يوشك أن يقتلني”.
الصداع وآلام المعدة جزء من أسلوب حياة تلك الفتيات.. من خبرتي الطبية أعرف أنهن يصبن بالصداع قبل أن يعرفن أن لديهن رأسًا..
تمشي معي (سلمى) في الشارع فيجري وراءنا ذلك الطفل الحافي ممزق الثياب ويطلب منها بعض المال، فتشخط فيه وتحمر عينها حتى ليوشك الشرر أن يخرج منها.. ثم تواصل كلامها معي:
ـ “الناس قد تغيرت، والنفوس لم تعد كما كانت. لي صديقة كنت أحبها وتحبني، ثم تغيرت، ونقلت عني كلامًا كاذبًا لواحدة أخرى، وهذه الأخرى كانت قد نقلت عني كلامًا لواحدة أخرى غير الواحدة الثانية.. قالت عني كلامًا سيئًا لكنه وصلني عن طريق صديق”.
نقف على باب كافتيريا، هنا نرى قطة صغيرة تموء من الجوع ويبدو أن سيارة يقودها وغد ما قد هشمت ساقها الأمامية.. تقول (سلمى) وهي تفتح باب المطعم:
ـ “أنا أحب القطط الصغيرة؛ لأنني مرهفة الحس.. كنت أحكي لك عن صديقتي.. لا أعرف كيف سمح لها ضميرها بذلك، ولا كيف استباحته لنفسها. قطعت علاقتي بها لكن الجرح مازال ينزف…”
نجلس إلى مائدة في الكافتيريا وأطلب الساقي.. نرفع رأسينا للتلفزيون المعلّق هناك والذي يعرض مشاهد من نشرات الأخبار. هناك من يبكون ويصرخون والدم ينزف من جراحهم في حرب غزة.. ثم تنتقل الكاميرا إلى ضحايا حادث قطار ممزقين في روسيا.. ثم نرى مشاهد من اضطرابات كينيا.. يقول التقرير إن القتل والاغتصاب في كل مكان هناك..
أطلب من الساقي أن يحوّل القناة.. لو كنا قد جئنا هنا كي نتعذب فمن الأسهل أن نفعل ذلك مجانًا في بيوتنا، لكن (سلمى) تواصل الكلام وهي ترمق الشاشة:
ـ “لقد تخلى عني أعز إنسان عندي وهو من وثقت به جدًا، فنقل عني كلامًا محرّفـًا لطرف ثالث لا يهمك أن تعرفه.. وما أندهش له هو كون النفوس تتغير من لحظة لأخرى..”
ثم بدأ الدمع يتجمد في عينيها.. وهمست:
ـ “مشكلتي هي أنهم لا يعرفون كم أنا حساسة.. أبي لا يفهم هذا.. أخي لا يفهم هذا.. أنت لا تفهم هذا..”
عندما خرجنا أخيرًا بعد نصف ساعة كان رأسي يرتج من الداخل من فرط ما سمعته، وشعرت بأنه يَزِن طِنّيْن وأن ساقيَّ لا تتحملان وزن رأسي..
كانت القطة الصغيرة الجائعة تنتظرنا على الباب فركلتها (سلمى) ركلة قوية بطرف حذائها لتبعدها وقالت:
ـ “أنا أحب القطط والأطفال فعلاً.. أحيانًا أشعر بأنني ملاك مرهف جاء من عالم آخر إلى هذا العالم الذي يعج بالشياطين.. ألا ترى هذا معي؟”
(هذا المقطع من قصة قديمة لي ولا علاقة له بالواقع على فكرة!)
ثمة مقولة لأوسكار وايلد على لسان بطل من أبطال قصصه: “الإنسان الحساس هو الشخص الذي لأنه يشعر بألم في قدمه، لا يكف عن وطء أقدام الآخرين”. كالعادة هذا الرجل عبقري. لقد قدّر لي الحظ أن أتعامل مع عدد هائل من الحساسين في حياتي، وكنت أعتبر نفسي منهم في فترة من الفترات، لكني وجدت أن معظم الحساسين الذين نقابلهم هم أولئك الأشخاص المنغلقون على ذواتهم.. يلتهمون أنفسهم طيلة الوقت ويرونها محور الكون.
مهمتهم أن يُشعروا الآخرين أنهم أوغاد وأن يمنحوهم الشعور بالذنب وعدم الراحة طيلة الوقت.. يمكنهم أن يسهروا عدة أيام يبكون من أجل كلمة غليظة قيلت لهم، وفي هذا نوع عارم من التلذذ الماسوشي المريض.. لكني تعلمت كذلك أنهم قد يرون طفلاً يموت جوعًا في نشرة أخبار فلا يهتزون شعرة، بينما كنت أحسب الشخص الحساس هو الذي لا ينام بسبب آلام الآخرين..
ها هو ذا الواحد منهم يجلس وحده حزينًا دامع العينين يتذكر في استمتاع مرعب كل الإساءات التي سببها الناس له.. كم هو رائع شفاف.. لا يوجد شيء جيد في العالم.. لا يوجد شيء جميل.. السعادة لا وجود لها على الإطلاق.. كم أن هذا رائع!.. كم أن هذا ممتع!
عندما أراجع المدونات التي تكتبها الفتيات أو الأسماء اللاتي يستعملنها في المنتديات وبرامج الثرثرة (الشات)، فإنني أندهش من الصورة التي ترسمها الفتاة لنفسها عندما تتخذ اسمًا.. الملاك الحساس.. بسكويتة.. القطة الشقية.. الحلوة..
نرجسية لا توصف.. وإعجاب بالنفس لا حد له. من الصعب أن تقنع نفسك بأن هذه الفتاة تخاطب نفسها وإنما تحسبها عاشقًا يغازل فتاة.. فقط العاشق هو من يطلق على حبيبته اسم (القطة الشقية) أما أن يطلق الشخص على نفسه هذا الاسم، فتصرف غريب يدل على أنه يعاني حالة عشق للنفس مفرطة.. والسبب معروف هو أن كل تلك الفتيات حساسات كذلك!، لهذا أحمل احترامًا شديدًا للبنات اللاتي يطلقن على أنفسهن أسماء مثل (بنت عبيطة) و(مصاصة الدماء) و(النبات السام).. إلخ..
ثمة صديقة أرسلت لي خطابًا مهذبًا تطلب فيه أن أكون لها صديقًا وأبًا، فرددت عليها بأنني أرحّب طبعًا.. هل يمكنك قول شيء آخر؟.. هنا جاء ردها: “هل فهمت ما أعنيه؟.. أنت كنت مهذبًا وبرغم هذا واضح أنني لا أمثل لديك أية أهمية!”.
رددت عليها في شيء من الحدة قائلاً: “أرجو أن تكوني مكاني.. لم نتبادل سوى خطاب واحد فصارت هناك مشاكل سوء فهم و (قعدات صلح).. إلخ. فعلا أنا مررت بهذا الموقف ألف مرة من قبل. قلت إنني سأكون أبًا لك وهذا يشرفني، لكنك تردّين بأنني لا أهتم.. طيب.. ماذا أفعل؟.. وفي النهاية أنا أعرف ما سينتهي له الأمر: كنت أحسبك تختلف عن الأغبياء الآخرين، لكن للأسف أنت مثلهم أو ألعن..
نفس الرسالة تلقيتها ألف مرة من قبل ونتيجتها واحدة حتمية. يذكر د. (عادل صادق) في كتابه الرائع (ألعاب نفسية) نفس اللعبة، ويقول إن نهايتها أن تشعر بأنك غبي لا تفهم والطرف الآخر يستمتع بشعور أنه حساس لا يفهمه أحد! بصراحة الحياة أبسط من هذا.. أنا تحت أمرك في أي شيء. فقط أتمنى من الشخص الحساس أن يرفق بالآخرين كذلك وأن يحاول أن يفهمهم ولو مرة كما يطالبهم بفهمه..”
الإنسان الحساس يدوس بلا توقف على أقدام الآخرين.. “لا أحد يفهمني.. كلهم أوغاد.. إن ما حدث لي هو شيء فريد لم يحدث مثله من قبل ولا من بعد”.. باختصار هؤلاء القوم مرهفو الحس هم زبانية الحياة الدنيا.. يعذِّبون المحيطين بهم بلا توقف..
ما سيحدث لك يا صديقي الشاب هو أنك ستبحث عن فتاة حساسة، وأنت تشعر بأنك الفارس الشجاع الذي سينقذها من كل هؤلاء الأوغاد.. بعد أعوام ستكتشف أنك قد صرت من هؤلاء الأوغاد!. لا تصدقني؟.. إذن نلتقي بعد عشر سنوات لتخبرني أو تخبر قبري بما حدث لك!