“إنها الجريمة الكاملة”
هذا ما حدّث عزيز به نفسه، وهو يُخرج جثة زوجته من حقيبة تلك السيارة القديمة المسجّلة باسم زوج أمه الراحل، والتي أبلغ عن سرقتها منذ ثلاثة أشهر، وأخفاها في ذلك المنزل القديم وسط الصعيد..
لا أحد يمكنه ربطه بالمنزل أو السيارة..
وهذا جزء من خطة جريمته الكاملة..
ابتسم في زهو وحشي، وهو يجرّ جثة زوجته، عبر تلك المنطقة النائية، شبه الجبلية، في قلب الصعيد..
لقد أبلغ عن غياب زوجته بالأمس، وبكى كثيرا أمام ضابط المباحث، وهو يناشده العثور عليها، واثقا من أن الضابط المنهك بعشرات البلاغات، لن يبدأ في البحث عنها فعليا، قبل يومين على الأقل..
سيفترض كالمعتاد أن الزوجة قد فرّت من زوجها، لسبب أو آخر..
وحتى عندما يبدأ الاهتمام بالأمر، عندما يطول غياب الزوجة، ستكشف التحريات علاقتها بجارهم الشاب، والتي سيبدي هو دهشته واستنكاره لها، وسيصر على أن زوجته من أشرف نساء الأرض، ولا يمكنها أن تخونه..
ولا بأس عندها من وصلة بكاء ونحيب وانهيار..
وهو يجيد هذه اللعبة..
يجيدها جيدا..
والأهم أنه يمتلك قدرة مدهشة على ضبط النفس..
حتى عندما كشف أن زوجته تخونه منذ زمن، مع ذلك الجار المتحذلق، استطاع الحفاظ على هدوء أعصابه..
وبدأ في رسم خطته..
وبمنتهى الصبر..
والإحكام..
اختار السيارة، والمنزل الذي سيخفيها فيه..
والأهم أنه اختار البقعة التي سيترك فيها الجثة..
لن يقوم بدفنها، كما يفعل معظم القتلة..
إنه أبرع وأذكى من هذا بكثير..
لقد دسّ لها السم، وسقاها إياه بيديه، وهي تظنه شرابا طهورا أعده احتفالا بعيد زواجهما..
وكم شعر بالاستمتاع، وهو يشاهدها تتألم وتتلوى أمام عينيه، وتناشده أن يستدعي طبيبا لإسعافها..
في تلك اللحظة فقط واجهها بما عرف..
وبما رأى..
حتى وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، صرخت بأنه مخطئ..
حاولت أن تقنعه بأنها لم تكن تصعد إلى ذلك الشاب، وإنما إلى المريضة العاجزة، التي تحتاج إليها كممرضة محترفة..
أخبرته بأنها أخفت الأمر عنه؛ لأنها تعلم كم يغار..
خشيت أن يسيء الفهم..
ولكنه لم يصدّق حرفا واحدا مما قالته..
ولم يمد لها يد المساعدة..
ولا حتى أنملة واحدة من أنامله..
تركها أمامه تموت، وتلفظ أنفاسها الأخيرة رويدا رويدا..
وبعدها، وفي قلب الليل، والأمطار تنهمر في الخارج، وتدفع كل الناس إلى البقاء في بيوتها، نقلها إلى حقيبة السيارة، التي قادها طوال الليل، ليخفيها في ذلك المنزل القديم، ثم عاد ليبلغ الشرطة بغيابها..
يا لها من جريمة كاملة!
كتاب القصص البوليسية، ورجال الشرطة كلهم يؤكّدون دوما أنه ما من جريمة كاملة.. وأن القاتل يلقى عقابه دوما..
ومهما طال الزمن..
ولكن كل هذا بالنسبة إليه مجرد هراء..
خيال جامح، لا يضع اعتبارا للذكاء البشري..
حتى في ارتكاب الجرائم..
والأمور في الحياة تختلف، عنها في خيال الأدباء، وآمال رجال الشرطة..
فالقاتل يقع دوما في قبضة العدالة؛ لأنه غبي..
أو لأنه لم يخطط لجريمته جيدا..
أو بدقة..
أما معه، فالأمر يختلف تماما..
لقد ظل ثلاثة شهور كاملة، يخطط لجريمته..
بكل الصبر..
وكل الدقة..
اختار الوسيلة، والمكان، والزمان..
حتى ليلة ارتكاب الجريمة، اختارها مع تنبؤات الطقس..
كان يعلم أنها ستكون ليلة ممطرة، يختفي فيها الكل في بيوتهم، وخلف أبوابهم..
قام بمعاينة كل شيء..
بل وبأداء بروفة كاملة للجريمة..
سجادة قديمة، حملها في ليلة مشابهة، ووضعها في السيارة القديمة، وسط المنطقة التي يعيش فيها، فلا أحد رأى، ولا أحد اهتم..
وقاد السيارة إلى ذلك المنزل القديم..
ولم يستوقفه أحد..
حتى نوع السم اختاره بعناية عبر شبكة الانترنت، وحرص على أن يكون سما بطيء المفعول، حتى يراها تتعذب، قبل أن تلقى جزاءها..
كل شيء خططه بمنتهى الدقة..
منتهى منتهى الدقة..
لا مجال لخطأ واحد..
على الإطلاق..
وتلك المنطقة، التي يجر فيها جثتها اختارها أيضا في عناية..
منطقة مقفرة، مهجورة، يرتفع فيها عواء الذئاب طوال الوقت..
ولهذا لن يقوم بدفن الجثة..
سيتركها لهم..
للذئاب..
جرحان أو ثلاثة، في ساقيها وعنقها، وتجذب رائحة الدماء الذئاب، فتهرع إلى المكان، وتنهش الجثة نهشا..
وهكذا يختفي دليل الجريمة الوحيد..
الجثة..
تختفي في بطون ذئاب جائعة، ويضيع معها وسط الجبال..
إنها خطته العبقرية..
وجريمته الكاملة..
الجريمة التي تصوّر الكل أنها مستحيلة!
واصل جرّ الجثة، حتى وصل إلى منطقة لا يمكن أن يراه أو يسمعه فيها أحد..
وفي هدوء، تركها مسجّاة على الأرض، ونهض يتطلع إليها في تشفّ..
لقد انقلبت سحنتها وبدت مخيفة ورهيبة، بعد مرور ساعات طويلة على مصرعها..
وهي تستحق هذا..
وبكل تأكيد..
قلب شفتيه في اشمئزاز، وأخرج سكينا حادا من طيات ملابسه، ثم أخذ يمزق قطعا من جسدها..
ولكن الدماء لم تنهمر كما تصور..
وهنا انتبه إلى فجوة في خطته الكاملة..
الدماء لم تنزف من العروق؛ لأنه لم يعد هناك قلب ينبض، ليدفعه خارجها..
أو لأنها قد تجلّطت بالفعل داخل العروق..
شعر بالغضب من نفسه؛ لأنه لم يفكر في هذا..
ولكن حتى ذلك الغضب، لم ينتقص من شعوره بخطة جريمته الكاملة..
لو أن دماءها لا تنزف، وقلبها لا ينبض، فدماؤه هو مستعدة..
جرح باطن كفه جرحا صغيرا، أخفاه بين ثنايا راحة كفه، وأسقط نقطتين من دمه، على الرمال المجاورة للجثة..
إنه ليس من الغباء، ليسقطها فوق الجثة مباشرة..
صحيح أن الذئاب ستلتهمها كلها، ولكن لماذا يترك أي احتمال للظروف؟!
الأصح أن يحافظ على دقته..
وحتى اللحظة الأخيرة..
استدار يلقي نظرة على السيارة، التي تبعد عنه مائة متر فحسب، والتقط نفسا عميقا من هواء الجبل البارد، قبل أن يرمق الجثة بنظرة أخيرة، كلها ازدراء واحتقار، ثم يوليها ظهره، ويتجه للسيارة..
ثم توقف فجأة، وهو يطرح على نفسه سؤالا أقلقه..
وماذا لو عثر أحدهم على الجثة، ولو من قبيل المصادفة، وكانت قطرتا دمه فوق الرمال، على بعد خطوة واحدة منها؟!
ألن يثبت هذا أنه كان هنا؟!
ألن يقودهم إليه؟!
عاد أدراجه في سرعة، وضمّ كفيه، يرفع حفنة الرمال، التي حوت قطرتي دمه، ثم ابتعد عن الجثة، بضعة أمتار، ونثرها في الهواء..
وبعدها شعر بالارتياح..
الآن صارت الجريمة كاملة، لا مجال للخطأ فيها..
ولا حتى بالمصادفة..
أطلق تنهيدة ارتياح واثقة، واستدار يعود إلى السيارة، و..
وسمع عواء الذئاب..
وارتجف جسده ارتجافة خفيفة، تمتزج بشيء من الارتياح؛ لأن هذا يعني أنهم قادمون..
وأن خطته قد بلغت مرحلتها الأخيرة..
أسرع الخطى، متجها نحو السيارة، قبل أن تصل الذئاب..
وفي طريق عودته، مرّ إلى جوار جثة زوجته، و..
وفجأة، علق شيء ما في طرف سرواله..
ومع السرعة التي كان يندفع بها، اختلّ توازنه..
وسقط..
لم يكن قد ترك السكين من يده بعد، عندما سقط على وجهه على الرمال، فشعر بألم شديد في فخذه، ليدرك تلك الحقيقة السخيفة..
نصل السكين انغرس في فخذه مع سقوطه..
استدار؛ ليرى ما الذي علق بطرف سرواله، وانتفض جسده في عنف..
لقد كانت يد جثة زوجته..
الأصابع أصابها ذلك التخشّب الرمّي، فعلقت في تلك الثنية الصغيرة، في نهاية سرواله، وأعاقت حركته على نحو مباغت..
ولهذا سقط..
اعتدل في حنق؛ ليخلّص طرف سرواله من بين أصابعها..
ثم ارتجف مرة أخرى..
وفي عنف أكبر..
كان عواء الذئاب يعلو ويقترب، عندما خيّل إليه أن وجه الجثة يحمل ابتسامة..
وبسرعة استنكر ما يراه..
إنها تغيرات رمّية في الجثة حتما..
الموتى لا يبتسمون..
ولا يشعرون..
والأهم، أنهم لا ينتقمون..
تجاهل هذا، وحاول تخليص طرف سرواله من الأصابع المتخشبة، قبل وصول الذئاب، إلا أن تلك الأصابع المتيبسة بدت وكأنها متشبثة بطرف السروال في إصرار..
وعواء الذئاب يقترب..
ويقترب..
ويقترب..
وفي عصبية، قرر أن يقطع تلك الأصابع، المتشبثة بطرف سرواله، فمال أكثر ليصل إليها بسكينه، و…
وفجأة، تجمّدت كل مشاعره..
فهناك، على قيد أمتار قليلة من الجثة، كانت هناك عيون صغيرة تحدق فيه في وحشية، وأنياب حادة تنفرج عن زمجرات متصلة..
ثم وبسرعة، انضمّت إليها عيون وأنياب أخرى..
وأخرى..
وأخرى..
والدماء تنزف من إصابة فخذه في شدة..
ومع الذئاب التي أحاطت به من كل جانب، راح عزيز يصرخ..
ويصرخ..
ولكنه اختار المكان بدقة شديدة في الواقع..
فهنا لا يمكن لأحد أن يراه..
أو يسمعه..
وهنا، وقبل أن تنقضّ عليه الذئاب من كل صوب بلحظة واحدة، أدرك عزيز أنه ما من جريمة كاملة..
حتى لو عجزت عنها عدالة القانون..
فهناك عدالة أخرى، لا يفلت منها مجرم بجرمه أبدا..
تلك العدالة، التي أرسلت إليه عقابها عبرهم..