القراءة الباردة هي عندما يقرأ لك العراف طالعك، فيبهرك. والحقيقة أنك أنت من يقدم له مفاتيح القراءة وأنت لا تدري. وهي تختلف عن القراءة الساخنة، حيث تكون هناك خدعة تمنح العراف معلومات مسبقة، أو يكون هناك وسيط مدسوس بين الجماهير في النوع الأخير، بينما القراءة الباردة تعتمد بالكامل على فطنة النصاب.
أولاً يعرف علماء النفس ما يدعى بتأثير بارنوم أو تأثير فوريه. هذه هي الطريقة التي يعمل بها المنجمون وكُتّاب أبراج الحظ. تأثير بارنوم يقول: “لدينا شيء لكل واحد من الجمهور”. أي أنه يرضي الجميع باعتباره صاحب سيرك يجيد عمله. في كلام العراف شيء يوحي لكل واحد من الجمهور أن الكلام عنه فقط. قرأت في الفيس بوك مقطعًا يتحدث عن (الشرفاء النبلاء الذين يحبون القهوة ويجدون صعوبة في النوم و يشعرون بالاغتراب، ويتساءلون عن معنى الحياة ويحبون القمر .. إلخ).
وجدت أن كل من علق كتب: “أنا بالضبط .. انت تتحدث عني!”. شعرت وقتها بأنني الوغد الزنديق الوحيد في العالم. هناك تجربة أخرى أجراها بن وتلر في واحدة من حلقات برنامجهما الرائع، حيث وزعوا على صف من الطلبة ورقة مغلقة لكل واحد، والورقة تصف شخصية الطالب. عليه أن يرفع يده لو وجد أن الوصف مطابق لشخصيته. رفع كل الطلبة أيديهم معربين عن انبهارهم بالوصف، وهنا أعلن بن وتلر أن الورقة كتب فيها نفس الكلام للجميع!
عام 1948 كتب العالم فوريه النص التالي الذي يناسب الجميع: “أنت بحاجة إلى الحب والتقدير، ولذلك تنتقد نفسك بنفسك. لديك بعض نقاط الضعف في شخصيتك، ولكنك تقوم بتعويضها. لديك إمكانات وقدرات لم تستثمرها بعد لصالحك. أنت منضبط ومتحكم في أمورك ظاهريًا، لكنك داخليًا قلق وغير واثق بنفسك. أحيانًا تتساءل بصدق إذا كنت قد اتخذت القرار الصحيح أو فعلت الشيء السليم.
تفضل التجديد والتنوع، ولا ترضى بأن تحيط بك القيود والحدود. تعتز بكونك مستقلاً، ولا تقبل آراء الآخرين العبثية. ولكنك وجدت أنه من غير الحكمة إطلاع الآخرين على أفكارك بسهولة. تكون أحيانا منفتحًا وكثير الكلام واجتماعيًا، بينما تكون منطويًا وحذرًا ومتحفظًًا في أوقات أخرى. وبعض طموحاتك تميل لأن تكون غير واقعية”
هذا الوصف وافق 95% من الناس على أنه يتحدث عنهم بدقة.
من الكتب فائقة الإمتاع التي قابلها المرء مؤخرًا، كتاب (العلم الزائف وادعاء الخوارق) تأليف جوناثان سي سميث وترجمة محمود الخيال، والصادر عن المركز القومي للترجمة (2016). كما قلت، كنت مولعًا بحلقات (بن وتلر) التي قدمها التلفزيون الأمريكي والتي تسعى لهدم الخرافات والتشكيك فيها.
اسم الحلقات عبارة بذيئة تصعب ترجمتها لكنها تستخدم بمعنى (هراء). يبدو لي كأن هذا الكتاب قد ذوّب كل حلقات بن وتلر في وعاء واحد، وقال الكثير مما كرره المرء – (شربة الحاج داود) مثلاً – حول العلم الزائف وطريقة التفكير غير العلمية التي ابتلينا بها.
كل فصول الكتاب ممتعة، لكن هناك فصلاً عن فن القراءة الباردة، تعلمت منه الكثير. معظم هذه الفنون يمارسه المشعوذون وشيوخ الجان إياهم عندنا، وكانت خالتي تمارسه عندما تقرأ لي فنجان القهوة المقلوب. يمارسونه بشكل فطري طبعًا، لكن من الممكن أن تلاحظ آثار هذا الفن في مجالات عديدة. قواعد هذا الفن بسيطة:
انحياز التأكيد وتأثير بارنوم: ذكر عبارات فضفاضة بشكل يتحمل العديد من التفسيرات، ورد فعل الشخص يقود للإسهاب. على غرار: أنت تمر بفترة تحولات مهمة في حياتك .. هناك قرار طبي مهم وأمور مالية. يوافق الشخص على دقة العبارة . فهو – مثلاً – يبحث عن زوجة مؤخرًا.
استعمال مقولات ذات وجهين: “أنت خجول .. وبرغم هذا تندهش أحيانًا من نفسك ومن قدرتك على المبادرة”. العبارة فيها الادعاء ونقيضه ولابد لأحدهما أن يكون صحيحًا فلن تخسر أبدًا.
أسلوب الخرطوش: هنا تنهال بالمزاعم على الزبون .. لابد أن يصح بعض العبارات. تكلم بسرعة حتى لا يلاحظ الزبون مقولاتك الخاطئة.
دع العميل يغذك بالمعلومات: “نحن نجاهد جميعًا في الحياة .. أرى أنك تعاني ضغوط الحياة مثلنا.. أليس كذلك؟”. هنا قد يقول العميل إن التعامل مع ثلاثة أطفال أمر صعب. قل له مثلاً: “أشعر بنوع من التوتر بينك وبين شخص له مكانته” .. هنا يقول الزبون: أنوي الانفصال عن شريكي .. هذا صحيح.
شجّع التعاون: مثلاً اطلب منه معاونتك في رؤيا مبهمة، على غرار: “هناك شيء في طالعك أراه ولا أفهمه .. شيء يبدو كوحش أسطوري .. لا أعرف ما هو”. هنا يرد الزبون: “أنا أدرس في الكلية .. أشعر أنني أواجه وحشًا”. بعض الإسقاطات يفيد .. يمكن توقع أن أي طالب مهموم بالدراسة وكل تاجر مهموم بالمال.
الأمر على العموم قريب من لعبة تخمين كنه الشيء من خلال عشرين سؤالاً.
قراءة لغة الجسد طريقة مهمة – على غرار فيلم الفيل الأزرق – وكذلك الثياب. لكن لا تقدم رأيك بشكل مباشر. لو كان الزبون يحمل كتبًا وأوراقًا فلا تكن مندفعًا ساذجًا وتقول إنه طالب .. قل له إنه يشعر بالإرهاق في نهاية اليوم ويستخدم دماغه كثيرًا.
هناك تخمينات عالية الاحتمال لا حصر لها ذكرها باحث اسمه رولاند:
معظم البيوت فيها: صور فوتوغرافية قديمة غير مرتبة – لعبة من الطفولة – حلية لقريب متوفى – أوراق لعب تنقصها ورقتان – مفكرة قديمة – درج محشور لا يفتح ولا ينغلق – مفتاح ليس له قفل.
معظم الرجال: حاولوا تعلم عزف آلة موسيقية وفشلوا – كان لهم شارب أو لحية مرة واحدة – لديهم بذلة قديمة لا تناسبهم.
معظم النساء: لديهن قطعة ملابس لم تلبس قط – لديهن أحذية اكثر من اللازم – لديهن قرط واحد مفقود – كان شعرهن في الطفولة أطول.
معظم الناس: لديهم ندبة على الركبة اليسرى – مروا بحادث في الطفولة له علاقة بالماء !
سياسة لبيسة الحذاء: دفع الحقائق وضغطها لتتناسب مع ادعائك. يقول نوستراداموس: “البهائم التي سيدفعها الجوع ستعبر الأنهار .. الجزء الأعظم من المعركة سيكون ضد هستر. سيُجرّ القائد ابن ألمانيا في قفص حديدي”. مثلاً قال مريدو نوستراداموس إن هذا يشير للنازية . وهستر هو هتلر. هذا نموذج ممتاز للبيسة الحذاء لأن هستر هو الاسم القديم لنهر الدانوب، بينما لم تكن هناك ألمانيا في عصر نوستراداموس وإنما هي تشير لمنطقة قديمة في الامبراطورية الرومانية.
حوّل التنويهات الخاطئة لانتصارات: مثلا يقول المنجم إن الزبون حازم. يقول الزبون إن هذا خطأ فهو خجول انطوائي. هنا يقول المنجم: أتكلم عنك في هذه اللحظة .. أنت حازم الآن لدرجة أنك تتحدى كلامي. أو: لديك أصدقاء كثيرون. فإذا قال الزبون إنه بلا أصدقاء، قال المنجم: أتكلم عن المستقبل.
ألق اللوم على العميل دائمًا: نحن نحتاج للعمل معًا لكنك لا تساعدني .. هناك موجات سلبية تخرج منك وتعرقل قراءاتي.
أسعد الزبون: لديك موهبة إبداعية أكثر مما تظن. أصدقاؤك يحبونك ويثقون فيك.
تعمد الخطأ من وقت لآخر ليشعر الزبون بأن هذه الهبة التي تملكها تذهب وتجيء.
يمكنك أن تفكر في عشرات الأمثلة التي نمر بها يوميًا لتدرك أننا جميعًا نمر بحالة قراءة باردة مزمنة
نُشر في 7 سبتمبر 2016