قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || القمر

ارتفعت أبواق سيارات الشرطة والإسعاف وهي تشق طريقها عبر شارع الهرم، أشهر شوارع محافظة الجيزة، في اتجاه منطقة الأهرامات..

وهناك عند منطقة أهرامات الجيزة كان أي شخص يمكنه أن يدرك أن هناك حدثا غير طبيعي دفع الشرطة إلى منع الجميع من دخول المنطقة، حتى السائحين الذين جاءوا من أقاصي الأرض لرؤية ذلك الأثر الفرعوني القديم..

ومع عبور سيارات الشرطة والإسعاف إلى تلك المنطقة استقبلها أحد رجال شرطة السياحة وهو يقول في انفعال:
– هناك.. لقد ظهر هناك.. نحن أحطنا منطقة ظهور، ومنعنا الاقتراب منها لحين وصولكم.
أجابه عميد الشرطة الذي صحب السيارات محاولا تهدئته:
– تمالك نفسك يا هذا، وقصَّ عليَّ ما حدث بالتفصيل.
بدأ الاثنان يتحركَّان بالفعل، وضابط شرطة يقول في انفعال:

– كل شيء كان يسير على ما يرام منذ الصباح، وكان هناك وفد سياحي يلتقط بعض الصور لمنطقة الأهرامات عندما سمعنا دويا مكتوما، ونشأ وسطهم ما يشبه إعصارا صغيرا فتفرَّقوا فزعين، وعندما هرعت إليهم لتفقد الأمر رأيته يظهر في الهواء فجأة كما لو أنه قد نشأ من العدم، على ارتفاع ستة أمتار من الرمال.
ارتفع حاجبا العميد، وهو يسأله في توتر:
– هل رأيت هذا بنفسك؟
كان ضابط شرطة السياحة يلهث من فرط الانفعال وهو يجيب:
– لو لم أرَه بنفسي لما صدَّقته يا سيادة العميد.

هزَّ العميد رأسه، في دهشة كبيرة، وهما يقتربان من منطقة الحدث، وسأله في توتر:
– وماذا حدث بعد ظهوره؟!
أجابه في سرعة:
– سقط على الرمال.
التفت إليه العميد في صرامة، فاستدرك على الفور:
– وفقد الوعي.

بدا فريق من رجال الشرطة من بعيد يصنعون ما يشبه الدائرة، ويصوبوَّن أسلحتهم نحو جسم ما في مركزها، فتساءل العميد وهو يحث الخطى:
– وكيف يبدو؟!
لوَّح ضابط شرطة السياحة بيديه وهو يجيب:
– مثلنا تماما.. رجل عادي في ثياب عادية.. لا يميزَّه سوى سقوطه من الهواء بلا مقدمات.

كانا قد بلغا منطقة الحدث بالفعل، فحَّدق العميد في رجل عادي يرتدي قميصا وسروالا بسيطين، سقط فاقدا للوعي على الرمال وعلى مقربة منه منظار طبي بسيط، من الواضح أنه سقط على وجهه مع ارتطامه بالأرض، واعتدل العميد وهو يلتقط نفسا عميقا قبل أن يقول:
– فلينقلوه إلى سيارة إسعاف فورا.

سأله الضابط بكل دهشته:
– بهذه البساطة؟!
أجابه بكل صرامة:
– نعم.. بهذه البساطة.
ولكن الأمر لم يكن بسيطا في الواقع، فهناك في إحدى قاعات مستشفى كبير يطل على نيل القاهرة، التفت فريق من العلماء والأطباء ورجال الأمن حول ذلك الشخص، يفحصونه بكل دقة واهتمام، قبل أن يقول كبير الأطباء:

– إنها غيبوبة عادية.. الرمال خففَّت كثيرا من صدمة السقوط، فلم يصب بأي كسور أو مضاعفات.
تساءل العميد في خشونة لم يتعمَّدها:
– وماذا عن ظهوره المفاجئ في الهواء؟
هزَّ كبير الأطباء كتفيه وأشار بيده إلى رئيس فريق العلماء، الذي غمغم في خفوت متوتر:
– ما أن يستعيد وعيه، حتى نسمع القصة من بين شفتيه..
ولم يستغرق هذا وقتا طويلا..

فلم تمضِ نصف الساعة حتى كان ذلك الرجل يستعيد وعيه ويحدَّق في المحيطين به، متسائلا في اضطراب:
– أين أنا؟!
أجابه عميد الشرطة في خشونة تعمَّدها هذه المرة:
– في مستشفى قصر العيني.
اعتدل الرجل جالسا على فراشه، وتساءل بكل الاهتمام:
– في أي عام؟!
انعقد حاجبا رئيس فريق العلماء، في حين قال العميد في حدة:
– أهذا وقت للمزاح يا هذا؟!
حمل صوت الرجل ضراعته، وهو يقول:
– أرجوك أخبرني.. في أي عام نحن؟!

تبادل الرجال نظرة دهشة، في حين اندفع رئيس فريق العلماء يجيب:
– عام ألفان وثلاثة عشر يا رجل.
تهلَّلت أسارير الرجل فجأة، وهو يهتف:
– عام ألفان وثلاثة عشر؟! حقا؟!
ثم انفجر ضاحكا في سعادة غامرة قبل أن يضيف:
– إذن فقد فعلتها.. لقد فعلتها.

تبادل العلماء والأطباء نظرة حائرة متوترة، في حين بدا صوت العميد أكثر خشونة وهو يقول في حدة:
– فعلت ماذا يا رجل؟!
هتف الرجل بكل سعادته:
– أثبت نظرية أينشتين.. سافرت عبر الزمن.
تفجَّرت الدهشة في وجوه الجميع، فيما عدا رئيس فريق العلماء الذي ازداد انعقاد حاجبيه في شدة، والعميد الذي قال في غضب عصبي:
– أي سخافة هذه؟!

كان الرجل شديد الانفعال والسعادة معا، وهو يقول:
– سخافة؟! هل تصف أعظم إنجاز في التاريخ بأنه سخافة.. لقد نجحت فيما أكَّد الجميع أنه مستحيل! قهرت حاجز الزمن وعبرته.. وإلى الاتجاه الذي رفض الكل الإيمان به.
همّ العميد بقول آخر غاضب، لولا أن اندفع رئيس فريق العلماء يسأل الرجل في انفعال:
– من أي عام أتيت يا هذا؟!
بدا السؤال سخيفا لمعظم الموجودين، إلا أن الرجل أجاب في سرعة:
– من عام ألفين وتسعة وعشرين..

مرة أخرى تفجَّرت الدهشة في وجوه الجميع على نحو أكثر عنفا، وتراجع عميد الشرطة في حركة حادة، في حين واصل الرجل بكل انفعاله وحماسه:
– لقد ابتكرت أوَّل آلة زمن حقيقية تستطيع نقل البشر إلى الماضي، وليس إلى المستقبل وحده مثل الآلة القديمة.
غمغم رئيس فريق العلماء مبهورا:
– أهنالك آلة قديمة؟!
هتف الرجل في حماس:
– بالتأكيد.
ثم استدرك في سرعة:
– بالنسبة إلى زمني بالطبع.
هتف عميد الشرطة في حدة:
– هل تصدَّق هذه السخافة؟!

التفت إليه رئيس فريق العلماء قائلا في صرامة:
– ألديك تفسير آخر لظهوره على ارتفاع عشرة أمتار في الهواء يا سيادة العميد.
انعقد حاجبا العميد وهو يقول في عصبية:
– هذا لا يعني أن أصدَّق روايته.

رمقه رئيس فريق العلماء بنظرة قاسية، ثم التفت إلى الموجودين قائلا في حزم:
– أقترح أن يتم إخلاء الحجرة مؤقتا أيها السادة، إلا مني ومن سيادة العميد؛ فبعض ما يدور هنا قد يندرج تحت بند الأمن القومي.

لم يكن أحدهم يرغب في قطع القصة عند هذه النقطة بالغة التشويق، إلا أن عميد الشرطة لم يعترض، فخرجوا يجرّون أقدامهم جرا، وأغلق رئيس فريق العلماء الباب خلفهم قبل أن يلتفت إلى الرجل، قائلا:
– ما موقعك في زمنك بالضبط يا هذا؟!
أشار بيده، مجيبا في حماس:
– أنا الدكتور أشرف عوض، أستاذ الفيزياء التجريبية في جامعة القاهرة، والحاصل على أرفع وسام علمي في مصر عن أبحاثي في مجال الطاقة الموَّحدة.
بقي عميد الشرطة صامتا معقود الحاجبين في شدة، في حين جذب رئيس فريق العلماء مقعدا، وجلس على مقربة من الدكتور أشرف وهو يسأله في اهتمام:
– هل تطوَّرت العلوم في مصر إلى هذا الحد في زمنك؟!

أجابه في حماس:
– مصر كلها تطوَّرت بعد الثورة، والعلم صارت له قيمة كبيرة فيها، وساعد على تطوير اقتصادها وإنشاء صناعات جديدة.. لدينا ثلاثة علماء فازوا بجائزة نوبل..
وابتسم ابتسامة عريضة وهو يجيب:
– وأظنني سأصبح رابعهم.
مال رئيس فريق العلماء عليه يسأله:

– أتعني أنه لديك وسيلة للعودة إلى زمنك؟
امتقع وجه الدكتور أشرف وهو يتراجع مغمغما في اضطراب:
– وسيلة للعودة؟!
بدا مذعورا للحظات، ثم لم يلبث أن قال في حزم:
– ولكنني أستطيع صنعها بالتأكيد.
ثم أمسك ذراع رئيس فريق العلماء مستطردا في انفعال:
– أنت عالم مثلي وتستطيع معاونتي على هذا.
هزَّ رئيس فريق العلماء كتفيه مجيبا في خفوت:
– لو أنه لدينا في عصرنا هذا التكنولوجيا التي تسمح بذلك.
عاد وجه الدكتور أشرف يمتقع وغمغم في مرارة:
– لا.. أمامكم سنوات قبل بلوغها.

ثم استعاد تماسكه وهو يضيف في توتر:
– ولكن هذا لا يهم.. زمنكم سيسَّجل وصولي، وهذا سيثبت في زمني أنني قد نجحت.
انعقد حاجبا رئيس فريق العلماء لحظات قبل أن يقول في بطء:
– ولكن هذا يتعارض تماما مع فلسفة السفر عبر الزمن.
تراجع الدكتور أشرف ووجهه يمتقع ثانية، في حين تابع رئيس فريق العلماء بنفس البطء والاهتمام:
– فلو سجَّل زمننا وصولك ستعلم به الأجيال القادمة قبل حتى أن تبدأ تجاربك، وسيعني هذا أنك لن تقوم برحلتك إلى الماضي ولن تعود إلى زمننا، وستدور دائرة من المستحيلات، هي التي جعلت العلماء يوقنون من أن السفر عبر الزمن إلى الماضي مستحيل.
شحب وجه الدكتور أشرف وهو يغمغم:
– ولكنني فعلتها.

عاد رئيس فريق العلماء يهزَّ كتفيه قائلا:
– وهذا ما يدهشني حقا!
تحَّرك عميد الشرطة حتى صار أمام النافذة وهو يقول في صرامة:
– معذرة أيها السيدان، ولكنني لا أفهم ولا أصدق حرفا واحدا مما تقولاه!
التفت إليه الدكتور أشرف، وهو يقول في ضيق عصبي:
– هذا لأنك رجل شرطة، ومن الطبيعي ألاَّ…
بتر عبارته بغتة وهو يحدّق في شيء ما خلف العميد، فاستدار هذا الأخير مع رئيس فريق العلماء يبحثان عما يحدّق فيه، ولكنهما لم يريا سوى القمر الذي بدا بدرا من خلف زجاج النافذة، فعادا يلتفتان إلى الدكتور أشرف الذي سأله رئيس فريق العلماء في حيرة:
– ماذا هناك؟!
أشار الدكتور أشرف إلى القمر بيد مرتجفة، وهو يغمغم في صوت مختنق:
– القمر.
سأله العميد في عصبية:
– ماذا عنه؟!
لم يجِب الدكتور أشرف سؤاله، وإنما استدار إلى رئيس فريق العلماء قائلا في شحوب ينافس شحوب وجهه:
– النظرية سليمة تماما.. السفر إلى الماضي مستحيل!
ارتفع حاجبا الرجلان في دهشة، وهتف رئيس فريق العلماء مستنكرا:
– ولكنك أكَّدت أن..
قاطعه في عصبية:
– كنت مخطئا.

ثم بدا أقرب أن هذا غير صحيح.. ولن يعلم زمني الحقيقي أي شيء مما فعلته.
لم ينبس أحد الرجلين ببنت شفة، فتابع في يأس:
– فآلتي لم تنقلني إلى زمن آخر.. بل إلى عالم آخر.. عالم موازٍ.
قبل أن ينطق أحدهما بكلمة انهار مكملا:
– ففي عالمي لدينا دوما قمران توأمان وليس قمرا واحدا.
وانحدرت من عينيه دمعة ساخنة..
دمعة يائسة بائسة..
للغاية.

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || أعلى أم أسفل

مقالات ذات صلة