قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || ابني

بكت (سمر) طويلا في تلك الليلة، كما لم تبكِ في حياتها من قبل..
ولم تتصوّر حتى أنها قد تفعل..
فمنذ زواجها، وهي تحلم بأن تنجب، وبأن تصير أمّا، كما تحلم كل زوجة في الوجود كله..
وعلى الرغم من أن زواجها يعدّ من كل الوجوه التقليدية ناجحًا، ومع أنها تعشق زوجها (نجيب)، الذي ربطته بها علاقة حب طاهرة شريفة، طوال سنوات الكلية، وجمعهما رباط الزواج المقدس عقب تخرجهما معا، في كلية العلوم، إلا أن ذلك الزواج كان ينقصه أهم ما فيه..
الإنجاب..

ست سنوات مضت على زواجهما، دون أن تنجب..
والعمر يمضي..
ومع مضيّ العمر، كانت تصاب بالذعر أكثر وأكثر..

وبعد عامهما الثاني من الزواج، بدأ كلاهما في استشارة الأطباء..
ولكن حتى هذا لم يسفر عن شيء..
الفحوص والتحليلات كلها، أثبتت أن كليهما سليم مائة في المائة..
لا توجد عقبة واحدة تمنعهما من الإنجاب..

كل ما قالته لها طبيبة، تثق بها كثيرا، أن المشكلة ليست في أيهما، ولكن فيهما معا..
أنها لن تستطيع الإنجاب إلا باحتمالات ضئيلة للغاية، لو أنها ظلت متزوّجة من (نجيب)؟!
وهو لن يستطيع الإنجاب لو أنه ظلّ متزوّجا بها..

كلاهما قادر على الإنجاب لو انفصلا، وارتبط كل منهما بآخر..
وكانت صدمة عنيفة..
صدمة لها..
وله..

لقد ظلا صامتين، بعد عودتهما من زيارة تلك الطبيبة، لا يتبادلان الحديث طوال نصف يوم كامل..
وعندما استيقظت في الصباح لم تجد (نجيب) إلى جوارها..
لقد كان يجلس وحده في الشرفة، حزينا، مهموما، شاردا، حتى إنه لم يشعر بها وهي تقترب منه، وتلقي عليه تحية الصباح، حتى جلست إلى جواره، تسأله:
– هل أعدّ لك طعام الإفطار؟!

التفت إليها بتلك النظرة الحزينة البائسة، وهو يغمغم:
– اجلسي يا (سمر).
غمغمت في إشفاق:
– أنا جالسة بالفعل.

حاول أن يبتسم، إلا أن الحزن العميق، الذي يملأ ملامحه، أعجزه عن هذا، ثم ما لبثت تلك المحاولة أن تلاشت، وهو يسألها:
– ما رأيك فيما قالته الطبيبة أمس؟!
ازدردت لعابها في صعوبة، مغمغمة:
– قالت: إنه هناك احتمال.

ربّت على يدها، وكأنه يشكرها على محاولتها، وأشاح بوجهه عنها، وهو يقول:
– كلانا خريج قسم الرياضيات بكلية العلوم، وتعلم أن واحدا في المائة ليس احتمالا يُذكر.
قالت في صعوبة:
– ولكنه لا يعني الصفر.

تنهّد في مرارة:
– إنني أذكر ما قالته جيدا.. كل منا يمكن أن ينجب لو تزوج بآخر.
لم تحاول التعليق، فتابع في مرارة أكثر:
– وأنا أعلم كم تتوقين إلى الإنجاب.
ازدردت لعابها في صعوبة، وهي تسأله:
– ماذا تريد أن تقول يا (نجيب)؟!

بدت ابتسامته أشدّ حزنا، من أن توصف حتى بهذا، وهو يقول:
– أنت تعرفينني جيدا يا (سمر)، وتعرفين مفهومي للحب الحقيقي؛ فالمحب؛ إذا كان فعلا يحب، لا بد أن يضع سعادة من يحب فوق سعادته هو، وعليه أن يفعل ما يسعد من يحب، حتى ولو كانت سعادته هي الثمن.
شعرت بقلق، جعلها تسأله:
– ماذا تريد أن تقول يا (نجيب)؟!

كانت تدرك جوابه، حتى قبل أن ينطقه، بكل مرارة الدنيا:
– أريد أن أقول: إن زواجي بك هو ما يقف عقبة أمام تحقيق حلمك الأكبر يا (سمر).. حلمك بأن تكوني أمّا.
أصابها شعور عجيب، جعلها تغمغم، في تخاذل لم تتوقعه من نفسها:
– ولكنني أحبك.

داعب شعرها في حنان، مغمغما:
– وأنا أيضا أحبك، ولا أستطيع تصوّر حياتي بدونك، ولكنني أعلم أنه، ومع مرور الوقت، ستتهمينني في أعماقك، بأنني المسئول عن تحطيم حلمك، ودون حتى أن تدركي سيتلاشى حبي من قلبك، وستحل محله كراهية دفينة، لا يمكنني احتمال مجرد تصورها من الآن.

بكت في صمت، فداعب شعرها مرة أخرى، وحاول أن يبتسم، مضيفا:
– أما لو انفصلنا الآن، فربما يبقى حبي في أعماق قلبك، حتى وأنتِ زوجة لرجل آخر.. وسرعان ما سينسيك طفلك منه هذا الحب، الذي سيذوب في حبك لأمومتك.
كررت باكية:
– ولكنني أحبك.

رفعت عينيها وهي تقولها، وهالها أن تشاهد دموعه، لأول مرة في حياتها، وهي تغرق وجهه، قبل أن يغلق عينيه، مغمغما في صعوبة:
– (سمر).. أنت..
وضعت يدها على فمه في فزع:
– أرجوك، لا تنطقها.

بكى، وبكت، ثم أمسك كتفيها، قائلا:
– ولكن هذا هو..
قاطعته في انفعال:
– ليس الآن على الأقل.. ليس في لحظة انفعال.. امنح نفسك وامنحني فرصة للتفكير..

استغرقت محادثتهما عشر دقائق فحسب، اتفقا بعدها على أن يبتعدا عن بعضهما لأسبوع واحد، قبل اتخاذ مثل هذا القرار..
ولأول مرة منذ زواجها، تقضي (سمر) ليلتها في فراشها وحيدة..
ولهذا بكت..

يا له من قدر!!
كيف يخيرها بين حبها وأمومتها؟!
كيف؟!

ظلت تبكي، وتبكي، حتى سقطت نائمة..
أو أنها قد فقدت الوعي..
إنها حتى لا تدري..
ولكنها استيقظت قرب الفجر، على ملمس يد لكفّها، فغمغمت ناعسة:
– (نجيب).. هل عدت؟!

فتحت عينيها في صعوبة، ثم طرف الفراش إلى جوارها، وكادت تطلق صرخة قوية، لولا أن هتف ذلك الشاب في خفوت:
– لا تخافي يا أمى.. إنه أنا.

شهقت مذعورة، وهي تستر جسدها:
– أمك؟!
مال الشاب نحوها بابتسامة عذبة، وهو يجيب:
– نعم يا أمي.. أنا ابنك.. (نادر نجيب علي).

اتسعت عيناها عن آخرهما، وهي تحدّق فيه مذعورة، مغمغمة:
– أأنت مجنون؟! أم إنك لص؟!
هزّ رأسه في بطء، دون أن يفقد ابتسامته، وقال في هدوء:
– لا هذا ولا ذاك.. أنت وأبي خريجا كلية العلوم.. أخبريني إذن، هل رأيت مثل هذه التكنولوجيا من قبل.

مدّ يده إليها، بمكعب من الكريستال النقي، فتراجعت مذعورة، إلا أنه قال بنفس الهدوء:
– حسنا يا أمي.. لا تلمسيه، إذا كان هذا يخيفك.. ولكن شاهدي ما يفعله.
مسّ بسبابته جزءا من المكعب، فارتفع من أعلاه شعاع من الليزر، جعلها تُطلق شهقة فزع، قبل أن ترتسم فوقه صورة هولوجرامية، ثلاثية الأبعاد، لحفل عيد ميلاد، يضمّها وزوجها نجيب، مع طفل في عامه الأول، يتعلّق بها في حب..

“إنه أنا، في عيد ميلادي الأول.. بعد ثلاث سنوات من الآن..”.
قالها الشاب الوسيم في هدوء باسم، فحدقت في المشهد الهولوجرامي، مغمغمة، في مزيج من الخوف والشك والذهول:
– مستحيل!

تعاقبت المشاهد، وهو يقول، محاولا بث الهدوء في نفسها:
– وهذا يوم تخرجي من المرحلة الابتدائية، وهذه صورتي وأنا أتسلم شهادة تخرجي الجامعية.
سألته في عصبية:
– ولماذا لا أرى نفسي، أو أرى (نجيب)، في المشاهد الأخرى.

اتسعت ابتسامة الشاب، وهو يقول:
– لا أريدك أن تري كيف تتقدمين في العمر.. أنت أخبرتِني أن هذا لن يروق لك.
اتسعت عيناها أكثر، وهي تقول:
– لست أفهم.

تنهّد في عمق، قائلا:
– ليت لدي الوقت لأشرح لك، ولكنني سأعود إلى زمني خلال ثوان.. هذه أطول فترة يمكنني أن أقضيها في الماضي.
رددت ذاهلة مذعورة:
– زمنك؟! ماضٍ؟!

بدا متعجلا، وهو يقول:
– المهم يا أمي أن تدركي أن العلم يتطور في سرعة، وأن نسبة الواحد في المائة الآن يمكن أن تزيد إلى…
توقف فجأة، وبدا منزعجا بشدة، فهتفت:
– ماذا أصابك؟!

ولكنه اختفى فجأة من أمامها..
تلاشى..
تبخّر..
وكانت المفاجأة أقوى من أن تحتملها، فسقطت فاقدة الوعي..

كان (نجيب) يغادر مقر عمله، في ذلك اليوم، عندما وجدها أمامه، تبتسم ابتسامة كبيرة، وهي تقول:
– (نجيب) بك، هل يمكنني أن أدعوك إلى الغداء؟!
ثم مالت على أذنه، تهمس في حب:
– في منزلنا.

هتف في دهشة:
– ولكننا اتفقنا على..
قاطعته في حزم:
– لم نتفق على شيء.. القرار احتاج مني إلى سبع ثوان، وليس سبعة أيام.
حدق فيها بدهشة أكبر، وهو يسألها في قلق:
– هل فكرت في الأمر جيدا؟!

أومأت برأسها إيجابا، وهي تجيب:
– بل حلمت.
ردد في دهشة:
– حلمت؟!
تأبطت ذراعه، قائلة في حب:
– نعم.. حلمت.. حلمت أنني لم أعد زوجتك، وكان هذا أسوأ كابوس راودني في حياتي كلها..

بدا قلقا مترددا، فتقمصت الصرامة مرة أخرى، قائلة:
– لماذا لا نكمل هذا الحديث ونحن نتناول الغداء في منزلنا؟! لقد أعددت لك الدجاج، بالوسيلة التي تعشقها.
غمغم، وهو يسير معها نحو سيارته:
– لست أعشق سواك.

وفي منزلهما، وعندما استعدا للنوم، في نهاية اليوم، انحنى (نجيب) يلتقط شيئا ملقى إلى جوار الفراش، وهو يسألها:
– ما هذا بالضبط؟!

حدقت ذاهلة في ذلك المكعب الكريستالي النقي الذي يحمله..
إنه لم يكن حلما إذن..
ولا حتى كابوس..

 

رائج :   الحلقات الستة كاملة من رفقاء الليل (ج3) || د : أحمد خالد توفيق

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || خبير

وبمنتهى السعادة، التقطت منه ذلك المكعب، وهي تستعيد ملامح ابنها المستقبلي الوسيمة، مجيبة في حب:
– إنه الأمل.
وعانقته بكل الحب..
وكل الأمل..
معًا.
***
(تمت بحمد الله)
بقلم : د. نبيل فاروق

Related Articles