فكر و ثقافةقضايا وأراءوعي

الاستعمار الاوروبي للقارة السمراء و المحاولات الفاشلة لاثبات تفوق الجنس الأبيض

مع الصعود الصاروخي للحضارة الأوروبية ومنجزاتها في أخر 700 سنة بدأت تتكون نظريات عنصرية تقول أن الجنس الأبيض هم أرقى الأجناس البشرية وأن الأجناس البشرية لا تنحدر من أصل واحد بل من أصول متعددة Polygenism وبدأت تلك النظريات تستند للعلم (كل النظريات اللي هي مستندة ليها بتصنف حاليًا كعلم زائف pseudoscience) وأبرزها “علم” قياس الجمجمة وفروق حجم الجماجم بين الأجناس المختلفة (وبالتالي معرفة حجم الدماغ وبالتالي إستنتاج الذكاء) ويسمى Phrenology أو Craniometry (في فيلم Django Unchained في ردح ليوناردو ديكابريو لچانجو ودكتور شولتز مثال على الأبيض العنصري المؤمن بتلك النظرية) وحتى بدأ يتم تصنيف هروب العبيد من أسيادهم كأمراض عقلية (Drapetomania) وجميع تلك النظريات العنصرية والسيادية تم وضعها تحت المسمى الكبير Scientific Racism

وفي القرن الـ19 ومع سيطرة الأوروبين على أغلب الكوكب بدأت تتصاعد وتتفاقم تلك النظريات لدرجة كبيرة جدًا وتصبح واسعة الإنتشار والقبول وبدأ بعض العلماء (أشهرهم Francis Galton ابن عم دارون) في صياغة نظريات عن وجوب الفصل ما بين الأجناس البشرية وتسيد الأجناس الأسمى للكوكب كله وجالتون عمل مصطلح “اليوچينيا” Eugenics لوصف علم “تحسين النسل البشري” والنظافة والطهارة العِرقية Racial Hygiene/Racial Purity

ولكن أكثر من أي شخص آخر في ذلك المجال، كان الدكتور والبرفيسور الألماني “أويجن فيشر” Eugen Fischer يعمل بلا كلل ولا ملل لإثبات نظرية تفوق العرق الأبيض (وخاصة أن ألمانيا في وقتها كانت حققت تفوق رهيب يفوق كل التخيلات وبدأت تتخطى بريطانيا نفسها في التعليم والصناعة وكل شيء.) نظرياته أصبحت فيما بعد دوجما لكل دعاة العنصرية والتفوق الأبيض.

فـهتلر مثلا قرأ كتابه وأستشهد بيه في كتاب “كفاحي” وأحد تلاميذه المباشرة “يوزف مينجيلي” أصبح أكتر دكتور مجرم في التاريخ وقام بأبشع التجارب على البشر في معسكرات الإعتقال والإبادة النازية، وأصبحت أفكار فيشر هي نواة وأكبر عماد للنازية ونظرتها للأعراق البشرية وصياغة قوانينها في تحجيم حقوق وحياة الأجناس الأخرى في ألمانيا (وبالأخص اليهود) فيما يعرف بـ Nuremberg Laws (نيورمبرج كانت المدينة اللي النازيين بيعملوا فيها حشدهم السنوي ولذلك كانت رمز لقوتهم وفيما بعد الحلفاء حاكموا فيها قيادة النازية كإجراء رمزي على نهاية النازيين في نفس مكان قوتهم وعزهم.)

بدأت العنصرية العلمية (الابن المشوه للطب والبيولوجي الحديثة) تستخدم في تبرير الإمبريالية وإحتلال البيض للعالم كله وعملوا هرم مدرج قمته هو البيض وبعدهم تأتي باقي الأجناس تدريجيًا وينتهي بالسود في أقصى الأسفل. قارة إفريقيا (أو القارة السوداء كما كانت تعرف) أصبحت ملعب ووليمة للدول الأوروبية وبدأوا يتسابقوا على إحتلال أكبر قدر ممكن فيها (Scramble for Africa) ولكن مهم جدًا التفرقة ما بين معاملة الدول الأوروبية المختلفة للدول الإفريقية، فرنسا كانت معاملتها الأكثر إنسانية بين الدول الأوروبية.

رائج :   من كتاب هادم الأساطير || المومياء التي أغرقت التيتانيك !!

فقد عملت فرنسا على ادخال جميع المؤسسات والممارسات الحديثة للدول الإفريقية التي أحتلهتا (بشكل أساسي في غرب إفريقيا وبالأخص في السنغال بدءًا من العاصمة وقتها والقلب النابض للتواجد الفرنسي في إفريقيا “سان لوي” Saint Louis) وأسسوا تأمين صحي قومي هناك وحملات تطعيمية وكانت السنغال تمثل لهم حقل تجارب ومعمل كبير يصارعوا فيه الأمراض ويتغلبوا عليها بالطب الحديث في النصف الثاني من القرن الـ19 وأيضًا عرضوا الجنسية الفرنسية على قطاع كبير من الناس هناك ودربوهم تدريبات الجيش الحديث وعملوا كتائب عسكرية سنغالية بتدريبة ورعاية فرنسية أسمها التيرايور Tirailleurs وأدخلوا التقنيات الحديثة ومنعوا الممارسات الطبية الخرافية التقليدية للأفارقة وأي “دكتور” إفريقي تقليدي بينصب على الناس بأسم الطب التقليدي كان عرضة للسجن أو الإعدام.

بالنسبة للفرنسيين كان تواجدهم في السنغال أقرب ما يكون فعلًا لإدخال الحضارة وتحديث حياة الناس هناك (مع مصلحة شخصية لهم طبعًا) لدرجة أن التواجد الفرنسي هناك بالفعل أتخذ الأسم الرسمي “ميسيون سيفيلزاتريس” Mission Civilisatrice أو جلب الحضارة لإفريقيا ومن صراع الأطباء الفرنسيين البطولي مع المرض، مات عدد كبير جدًا منهم واصبحت إفريقيا تعرف بأسم “قبر الرجل الأبيض” ومدينة سان لوي في السنغال وغيرها مازالت حتى يومًا هذا تحمل نصبًا تذكارية لأسماء الدكاترة الفرنسيين اللي ضحوا بأرواحهم في حملاتهم للتغلب على المرض هناك. 

الأمراض في إفريقيا كانت حادة الوطأة وشديدة الفتك لدرجة أن من بين 6 حملات إنجليزية لغرب إفريقيا، كان معدل الوفات أكثر من 50 % !! أيضــًا فرنسا كانت من الأول الدول في تجنيس الأفارقة وجعلهم مواطنين فرنسيين كاملي الحقوق والواجبات وفي حركة غير مسبوقة، أدخلوا الرجال الأفارقة حتى في مجلس الشعب والحكومة ومن أبرزهم كان السنغالي “بليــز ديانيا” Blaise Diagne، الذي أيضًا ساعد فرنسا في تجنيد الأفارقة في الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا (بروسيا) بعدما مات أكثر من 1.5 مليون جندي فرنسي في جحيم Verdun وغيرها من المعارك الكبرى، مقابل منح الأفارقة الجنسية الفرنسية …

رائج :   العفو عن محسن السكري .. ليه الرئيس يعفو عن قاتل؟

وهناك أمثلة كثيرة على التزاوج بين الرجال الفرنسيين، سواء عاديين أو أرستقراطيين، والنساء الأفارقة، ومن أبرز الأمثلة على أحد هذه الزيجات بين أرستقراطي فرنسي وإمرأة إفريقية، هي الزيجة التي نتج عنها أبو واحد من أعظم أدباء وكتاب وسياسيين فرنسا على الإطلاق “ألكساندر دوما” Alexandre Dumas, père صاحب روايات عالمية وشهيرة جدًا أبرزهم “كونت دي مونت كريستو” والـThree Musketeers (مرة أخرى، الشخصية اللي كان بيستخدمها كريستوف فالتز في فيلم Django Unchained لإبراز جهل العنصري كالفن كاندي Leonardo DiCaprio في أخر الفيلم قبل قتله بقليل!) ولذلك نقدر نقول أن فرنسا كانت على الجانب الإيجابي جدًا من طيف الحملات الإستعمارية في إفريقيا.

على العكس تام بقى من فرنسا وعلى الجانب السلبي جدًا من الحملات الإستعمارية كانت ألمانيا وممارساتها في مستعمراتها في جنوب غرب إفريقيا (وخاصة ناميبيا) من سخرية القدر أن موحد ألمانيا وصانع هيئتها الحديثة “بسمارك” Otto von Bismarck كان كاره جدًا لموضوع الإستعمار ولكنه أضطر له لكي يستطيع مجاراة فرنسا وبريطانيا وغيرهم من الدول العظمى، لأن ألمانيا كانت بالفعل بدأت يشتد عودها تتفوق عليهم في جميع المجالات تقريبًا وتصبح القوة الأولى المهيمنة في أوروبا، وبالتالي من الإكسسوارات والضرورات اللازمة لأي قوة عظمى أن يكون لها مستعمرات، ولكن حينما فعلت ألمانيا الإستعمار كانت من الأكثر وحشية وبشاعة.

فقد بدأ المستعمرين الألمان يتحرشوا بالقبائل الناميبية الساكنة في المنطقة (القبائل أسمها الهيريرو والناما والسان) إفتراضــًا منهم، وعلى خلفية النظريات العنصرية، أن تلك القبائل مجرد كائنات أشبه بالقردة وغالبًا لن يظهروا أي مقاومة ولابد من إقتلاعهم من المكان وإحلالهم بالمزارعين والحرفيين الألمان. 

وبعد العديد من التحرشات والإستفزازت، وعلى عكس توقعات الألمان ونظريات العلم الزائف، ثارت القبائل وعملت عصيان مسلح قتلت فيه أكتر من 100 رجل ألماني (ولكن لم يقتلوا أي من النساء أو الأطفال أو العجائز) عام 1904 وكانوا ينتظروا معاهدة سلام أو مفاوضات، ولكنها بدلًا كانت فاتحة ظهور الوجه القبيح جدًا للتواجد الألماني والشرارة التي أشعلت أول إبادة عرقية جماعية بالحديد والنار في القرن الـ20 .

رائج :   الحل الصعب ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

فردًا على إنتفاضة القبائل، قامت الحكومة الألمانية بارسال الطاغية الغشيم، الجنرال “لوتار فون تروتا” Lothar von Trotha وكان عنده أوامر بإخماد الثورة بأي وسيلة، صالحة كانت أم طالحة، ولكنه أختار اللجوء لأبشع الوسائل وأكثر تطرفــًا. فور وصوله لناميبيا أعلن عن نواياه الحقيقية للقبائل هناك وهي بإختصار أن هذه أراضي ألمانية وواجب على تلك القبائل إخلائها في الحال ووضح لهم النظرية الألمانية لهم بأنهم لا يختلفوا كثيرًا عن القرود ولن يتوانى لحظة عن إبادتهم إن لجأوا للمماطلة. 

ووفاءًا بوعده وإثباتــًا إنه مش بيهدد أو بيهوش، بعدها بأيام طوق مناطق تجمعات القبائل وأمطر عليهم سيول من قذائف المدفعية تحولهم لنثائر وأشلاء، واي شخص حاول الهرب رحب به الجنود الألمان بوابل من الرصاص الفتاك من الرشاشات الآلية الغاشمة حديثة الإختراع والصنع Maxim guns،

وأجبر غالبيتهم على الهرب إلى صحراء أوماهيكي الجافة حيث هلكو من الجوع والعطش (كما كان يعرف تمامًا فون تروتا) وأسر من تبقى ووضعهم في 5 معسكرات إعتقال حيث أقيمت عليهم تجارب من الدكاترة الألمان وفي مقدمتهم أويجن فيشر وتم إرسال مئات الجماجم لألمانيا لإجراء الأبحاث عليها من العلماء هناك لمعاضدة وتأكيد نظريات التفوق العنصري، وظروف العمل والمعاملة في المعسكرات كانت من الأقسى في التاريخ، العمال كانوا يعملوا في ظروف بشعة وصعبة جدًا وأدنى خطأ أو تهاون منهم يعرضهم للتعذيب والجَلْد المبرح من الحراس (بكرباج أسمه شامبوك sjambok) أو حتى القتل وقد هلك أكثر من %78 ممن كانوا بتلك المعسكرات.

في نهاية حملة الإبادة والتطهير العرقي الضروس أبيد أكثر من 78,000 من الهيريرو (من أصل 100,000) و10,000 من الناما (من أصل 20,000!) ولكنها كانت مجرد الفصل الأول في مسرحية الإبادات الجماعية الألمانية إستنادًا للنظريات للعنصرية التي تصاعدت وتزايدت شدتها مع الوقت ووصلت لأوجها وأكبر درجة محمومة إبان الحرب العالمية التانية وتتوجت بمعسكرات الإبادة الجماعية، الهولوكوست!!

وأكثر تطرفــًا على الجانب السلبي والقذر من الطيف الإستعماري، أكثر من ألمانيا نفسها، كان ملك بلجيكا ليوبولد الثاني وما فعله في وسط إفريقيا (منطقة الكونغو) شيء يندى له الجبين وينكدر قدر وحجم جميع الكلمات في وصفه. الملك ليوبولد والقائد فون تروتا نالوا نصيب الأسد من إداناتهم وفضح كوارثهم من الغربيين قبل أي جماعة أخرى!

مقالات ذات صلة