قضايا وأراءمن هنا وهناك

التجربة البيروفية || من الديكتاتورية لإقالة الرؤساء بسبب الفساد

بعيد عن المهزلة اللي بتحصل في مصر حالياً بيحصل في جمهورية بيرو بأمريكا اللاتينية حدث مهم جداً.
من أسبوعين رئيس الجمهورية بيدرو كوتشينسكي من السفر استقال من منصبه، وبعدها بأسبوع القضاء قرر منعه من السفر بسبب التحقيقات معاه في اتهامات فساد في “فضيحة أوديبرشت”. 
القصة ورحلة الوصول للنقطة دي مليانة بالتفاصيل المفيدة اللي نحب إن متابعي صفحتنا يعرفوها.

ايه هي “فضيحة أوديبرشت” ؟

– أوديبرشت دي شركة بناء ومقاولات برازيلية كبيرة جداً، نفذت مشاريع ضخمة للبنية التحتية في كل أمريكا اللاتينية زي طرق وكباري وجسور عملاقة، لكن في 2016 وزارة العدل الأمريكية عملت تحقيقات مع الشركة أدت لإقرارها بدفع أكثر من 800 مليون دولار رشاوي ل 12 حكومة في أمريكا الجنوبية، في مقابل منح الشركة عقود لتنفيذ الاستثمارات والمشاريع الكبرى. 

– في ديسمبر 2017 الشركة البرازيلية اعترفت بدفعها مبالغ تتراوح من 5 – 10 مليون دولار قبل سنوات لشركات استشارية كان يشرف عليها رئيس بيرو لما كان وزير للاقتصاد.
– حصلت محاولة تحقيق في البرلمان وتصويت على طلب جلسة تحقيق للرئيس كأول خطوة لعزله، لكن المعارضة منجحتش في الوصول لأغلبية الثلثين المطلوبة.
– لكن في 16 مارس الماضي، بعد شهور من الحشد السياسي والشعبي، المعارضة تمكنت من تمرير الطلب الثاني للتحقيق مع الرئيس واتهامه بالكذب وعدم صلاحيته الأخلاقية، وتم تشكيل لجنة من 6 برلمانيين للتحقيق مع رئيس الجمهورية.

– اللجنة عملت جلسة للتحقيق معاه في القصر الجمهوري استمرت لمدة 7 ساعات، الرئيس قال انه أجاب فيها على كل الاسئلة بمنتهى الوضوح والشفافية، لكن كان رأي أعضاء اللجنة انه موضحش نقط كتير في الاتهامات وفي علاقته بالشركة. 
– كان مفروض الحسم في اتهامه بالكذب والبدأ في إجراءات عزله هيكون في جلسة 22 مارس بالبرلمان.

– قبل جلسة التصويت بيوم واحد تقدم الرئيس باستقالته، وتولى نائبه السلطة وأقسم اليمين يوم 23 مارس.
– يوم 24 مارس أصدر القضاء قرار بمنع الرئيس كوتشينسكي من السفر لمدة 18 شهر لوجود شبهات قوية ضده، وستبدأ رحلة محاكمته.

بلد زي بيرو وصلت للمرحلة المتطورة من الديمقراطية دي إزاي؟ هل كانت طول عمرها كدة؟

– جمهورية بيرو بلد له تاريخ عريق في أمريكا اللاتينية متنوعة الديانات والأعراق، لكنها كانت بتشهد تقلبات سياسية بسبب الانقلابات العسكرية المستمرة، واللي اتسببت في احتراب أهلي وإخفاء وقتل عشرات آلاف المواطنين، جنب سوء الإدارة والفساد.

رائج :   ما بين سواقة العجل و البيزنس .. 3 دروس مستفادة

– من أشهر وقائع الفساد في بيرو عالمياً إنها باعت ماتش في كاس العالم سنة 1978! 
ااه والله خلو فريقهم يخسر من الأرجنتين ستة صفر في الدور قبل النهائي لأن الأرجنتين كانت محتاجة ستة عشان تصعد للنهائي، والمقابل كان شحنة قمح أرجنتينية 35 ألف طن ورشاوى مالية 50 مليون دولار، بالاضافة لجانب سياسي هو ان حكومة الأرجنتين العسكرية وقتها سلمت مجموعة من المعارضين البيروفيين لحكومتهم عشان تنكل بيهم.
ده غير اللي اتكشف بعد سنوات طويلة إن الصفقة دي تمت كمان برعاية كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي، لدعم الجنرال خورخي فيديلا اللي دعمت أمريكا انقلابه في الارجنتين قبل المونديال بسنتين بس.

– سنة 1979 كانت البلد وصلت لوضع اقتصادي كارثي، سياساتهم اللي كانت تشمل التأميم ومصادرة الأملاك لم تنجح في تدارك الوضع، الديون والتضخم ارتفعوا جداً، مفيش انتاج، الفلاحين افتقروا وجاعوا، ارتفاع رهيب بمعدل الجريمة .. توازى مع ده ضغوطات من الأحزاب السياسية اللي دفعت أثمان غالية، وضغوط من الدول الخارجية.

عشان الأسباب دي قرر الجنرالات عمل جمعية لصياغة دستور وتسليم السلطة للمدنيين في انتخابات سنة 1980، مع عمل صيغة تضمن استمرار نفوذهم.
– لكن النهاية السعيدة مجاتش برضه، بعض الحركات الشيوعية “الماوية” شكلت تنظيمات مسلحة للاستيلاء على السلطة، وحصلت معارك وهجمات كتير بين الجيش والشيوعيين اتقتل فيها عشرات آلاف المواطنين، واستمر النزاع المسلح وعدم الاستقرار والديموقراطية المشوهة لحد سنة 2000.

– خلال الفترة دي حصلت أحد أهم وقائع التاريخ الحديث لبيرو،في 1990 كسب الانتخابات الرئاسية مواطن من أصول يابانية اسمه “البرتو فوجيموري” قدر يكسب الانتخابات بشكل ديمقراطي على طريقة “التصويت العقابي” لمنافسيه، وكانت مفاجئة كبيرة لكونه حديث عهد بالسياسة، وقدم نفسه باعتباره مش من الاحزاب التقليدية لكنه قادر يعمل شيء مختلف، وكان شعار عهد فوجيموري هو محاربة الإرهاب وفعلياً قضى على التمرد المسلح، وحقق نمو اقتصادي وصل ل 13% رغم ان الاستفادة لم تشمل كل فئات الشعب.

– لكن سنة 1992 فوجيموري عمل انقلاب دستوري رجع فيه دكتاتورية زي أيام الانقلابات وأسوأ! 
قرر حل البرلمان، واستبعاد مجموعة كبيرة من القضاة، وغير الدستور عشان تعديل النص اللي بيحدد فترة رئيس الجمهورية، تحت مبررات انه البرلمان بيعطل مواجهة الإرهاب، والتصديق على المحاكمات العسكرية للمتمردين.
– تم تشكيل ميليشيا عسكرية إسمها “فرقة كولينا”، كان هدفها مواجهة المتمردين الشيوعيين، لكنها امتدت لاخفاء واغتيال الاف النشطاء السياسيين على مستوى البلاد، وفوجوموري رشح نفسه في انتخابات 1995 وكسب بنسبة الثلثين، وكمل مشوار الاستبداد والاجرام اللي وصل لتعقيم الستات إجبارياً عشان يمنعهم من الإنجاب ويمنع الزيادة السكانية!

رائج :   تباين وجهات النظر حول سلسلة (الديكتاتورية .. نماذج من الطغاة)

– في انتخابات 2000 اترشح لفترة تالتة، وانتهت الجولة الأولى بتقدم فوجيموري أمام توليدو المرشح اللي المعارضة اتجمعت حواليه بنسبة 48% حسب النتائج الأولية، لكن حصل تلاعب بإضافة أصوات لفوجيموري عشان يعدي نسبة 50% ويحسم الانتخابات من الجولة الأولى، وفي اللحظة ده أعلنت المنظمات الحقوقية “الدولية” اللي بتراقب الانتخابات احتجاجها وانسحابها من العملية الانتخابية، وده خلى النتيجة المعلنة تتراجع ل 49% واقرار بوجود جولة إعادة لكن ده كان معناه إنه التزوير واضح ومفيش شيء يمنعه.

– المرادي المعارضة عملت حملة غريبة ومبتكرة، طلبوا من كل الناس يبطلوا أصواتهم في انتخابات الإعادة وبالفعل تم إعلان فوز فوجيموري لكن جت نسبة الأصوات الباطلة أكتر من 31%!
– المجتمع الدولي رفض الاعتراف بالنتيجة، والمعارضة دعت الشعب للتظاهر فدأت مظاهرات يومية ضخمة قدام القصر الرئاسي، ورغم ان قواته قتلت آلاف سابقاً لكن مقدرتش في الأوضاع دي تتدخل، وهوا حاول تهدئة الأجواء باختيار رئيس حكومة معارض لكن ملقاش حد يوافق، وفجر أحد النواب فضيحة بتسجيل لرئيس المخابرات بيحاول يقدمله رشوة في مقابل الانضمام للحكومة لشرعنة الانتخابات المزورة. في النهاية أعلن الرئيس الغاء نتيجة الانتخابات والدعوة لانتخابات جديدة بعد 3 شهور، وفجأة راح سافر اليابان وبعت استقالته بالفاكس.

– بعد رحيل فوجيموري تم تعديل الدستور واعادته للصيغة الأولى، ومنع حكم الرئيس لأكثر من فترة، وكمان تم عمل لجنة للمصالحة الوطنية منهجها الرئيسي كانت الاعتراف بالجرائم والتصالح. 
– انتهى تقرير اللجنة في 2003 بادانة فوجيموري ورئيس مخابراته، وتم تسليمه لبيرو ومحاكمته بتهم الفساد والاشراف على جرائم قتل وانتهاكات حقوق الانسان، واتحكم عليه ب 25 سنة سجن.

– القصة مخلصتش هنا، الديمقراطية وسيادة القانون اللي حصلت في بيرو خلتهم يحاسبو 3 رؤساء ورا بعض بتهم الفساد، زي توليدو وهومالا ومؤخراً كوتشينسكي، بعد ما عرفوا قيمة الديمقراطية وأهمية سيادة القانون والعدالة اللي حمتهم من الرجوع لفترة دموية طويلة جداً كانت نتيجتها إخفاء وقتل أكثر من 69 ألف مواطن من 1980 – 2000.

رائج :   مقتل على عبد الله صالح وخلفية الصراع في اليمن حاضره ومستقبله

طيب احنا كمصريين نستفيد من القصة ده ؟

– نستفيد ان مفيش دول أو شعوب كانت طول عمرها وستظل للأبد في وضع واحد، حركة التاريخ مستمرة دايماً.
لكن التغيير الايجابي ممكن ياخد مسار طويل جداً، ويتعرض لانتكاسات، ومش بيحصل فجأة من السما أو هدية مجانية، لكن بجهود سياسية وبوجود مشاركة شعبية.. وبرضه كل الجهود دي تتطلب وجود فرصة مناسبة من العوامل الداخلية والخارجية عشان تنجح. خلال عشرات السنين من الاستبداد قبل التحول الديموقراطي حصلت محاولات كتير اتدفعت فيها اثمان غالية وفشلت، لكن لولا استمرارها مكانوش وصلوا لنقطة النهاردة.

– نفهم اهمية وقيمة وجود برلمان بيمارس صلاحياته الحقيقية زي ماهي موجودة في الدستور، وانه صميم عمل السلطة التشريعية هي الرقابة على السلطة التنفيذية ومواجهة أي شبهات فساد بالتحقيق اللازم، والعزل إذا ثبتت الشبهات، وتحويلهم للمحاكمة قدام القضاء العادل. 
– وده معناه إنه مفيش مواضيع ممنوع مناقشتها بحجج الحفاظ على الاستقرار والأمن القومي، وانه محاسبة المسؤولين مش خيانة لأنهم بشر زي أي بشر، ممكن جدا يغلطوا أو يفسدوا، أو حتى بدون قصد وبحسن نية يديروا الموارد بشكل غلط.

– كمان مهم جداً نعرف أهمية وجود الأحزاب والمعارضة ووجهات النظر المختلفة لأي مجتمع، وإنها بتمنع وبتحجم الاستبداد السياسي اللي بيضيع دول كثير ويأخرها، عشان شخص أو مجموعة تتحكم في مصير بلد وتنهب موارده وتستمتع بثرواته المسروقة.

– مصر فيها مسؤولين أفلتوا من العقاب بملفات فساد كتيرة بإنه محدش جاب سيرتهم، أو انه مناصبهم بتحميهم، أو انهم اخفوا الأدلة قبل ما يغادروا المناصب، وحتى المحاكمات اللي تمت كان ناقصها كثير من الحقايق والأوراق نتيجة عدم وجود شفافية، وتدخل السلطة في الشؤون القضائية، وغياب قوانين حرية تداول المعلومات، أو تفعيل قوانين موجودة زي منع تضارب المصالح اللي هنتكلم عنه قريباً.
– وهنفضل نحلم لبلدنا وأقل جهد يتقدم هو نشر الوعي بثقافة الديموقراطية ومكافحة الفساد.

****
– الصورة لرئيس بيرو المستقيل بيدرو كوتشنيسكي

مقالات ذات صلة