تاريخ

الحرب العالمية الأولى .. الجزء السابع || النهاية

ألمانيا كانت تملك القوة العسكرية بلا أدنى شك .. تملك جيش جرار .. تملك الخطط الجيدة .. تملك القادة العسكريين الأفذاذ بول فون هندنبورج و إريش لودندورف .. لكنها مع إمتلاكها لكل هذا لم تكن تملك حلفاء جيدين ..

أكثر ما كان يخيف ألمانيا فى تلك الحرب هو أن لا يسعفها حلفاؤها فى الزود عن مناطقهم و بالتالى تجد ألمانيا نفسها محبوسة بين أعدائها من كل إتجاه .. ألمانيا وقتها كانت تصنف أنها أكبر قوة عسكرية فى العالم و بالتالى ما كانت تخشى أى جيش .. لكنها كانت تخشى من تكتل الجيوش عليها بالتأكيد ..

الآن بدأت جيوش الحلفاء تتكتل عليها فى الجهة الغربية .. فرنسا .. بريطانيا .. إيطاليا .. و جنوباً  رومانيا .. كل هؤلاء فى إنتظار إنضمام أمريكا لهم و هكذا توجب على ألمانيا التحرك و بسرعة لتحقيق نصر كاسح معتمدة على نقل معداتها من الجبهة الشرقية إلى الغربية .. و رفع شعار نكون أو لا نكون ..

تغذية ذلك الشعار فى عقول الجنود و الرأى العام الألمانى كان خطأ لأنه حتى فى حالة الهزيمة فى تلك المعركة كانت لدى ألمانيا أكثر من فرصة لصد جيوش كل تلك الدول و لكن تصوير تلك المعركة بالفاصلة جعلها بمثابة المعركة الأخيرة فى الحرب فى عقول الجنود و الشعب عموماً ..

فى بدايات عام 1918 كان الفقر و المجاعة قد نالوا من دول المركز بشكل أكبر من دول الحلفاء .. الإمبراطورية النمساوية المجرية كانت وصلت لدرجة مرعبة من الفقر .. أكثر من 100 مليون مواطن نمساوى مجرى يقفون طوابير بالساعات من أجل وجبة غذاء .. موقف إضطرها للقيام بالسطو على إحدى السفن الألمانية المحملة بالقمح .. كانت فيينا تئن تحت وطأة الجوع .. هنا كانت أول صدمة لألمانيا فى واحدة من حلفائها ..

فى المقابل حليفتها الإمبراطورية العثمانية كانت قد خسرت بغداد أولاً ثم خسرت مكة و تم حصار المدينة المنورة ثم خسرت القدس و هى كانت الضربة القاصمة و التى معها تهاوت دفاعاتها و إنهارت الروح المعنوية لجنودها و علموا علم اليقين أنهم خسروا إمبراطوريتهم .. أرادت ألمانيا من تركيا الصمود و حماية مناطق نفوذها لمنع القوات البريطانية من إحتلال المنطقة العربية ..

و لكن قائد الأتراك إنفر باشا كان له رأى أخر و بدأ يعمل وفق مخططه الخاص و هو ترك المنطقة العربية لبريطانيا و التوجه شرقاً أملاً فى بناء إمبراطورية جديدة و وضع عينه على منطقة باكوالغنية بالنفط .. خيبة أمل جديدة لألمانيا فى أحد حلفائها قررت بعدها سحب مستشاريها العسكريين من تركيا ..

الحال لم يختلف فى ألمانيا نفسها فالجوع و نقص السلع الأساسية قد وصل بالألمان إلى حافة الهاوية و ليس الغذاء وحده ما كان ينقص البلاد فألمانيا بعد 4 سنوات من الحرب قد فقدت كل مخزونها من المعادن تقريباً مما أوصلها إلى فك أجراس الكنائس و إستخدامها لصناعه الذخائر .. وضع إقتصادى صعب دعا أكثر من 400 ألف ألمانى فى يناير 1918 للنزول للساحات إعتراضاً على الفقر و الجوع مدفوعين بإحباطهم من عدم إنتهاء الحرب حتى تلك اللحظة .. إنذار هام للجيش و قادته أن صبر الألمان بدأ ينفذ و إما الإنتصار فى الحرب و إما السلام ..

رائج :   قصة نجاح: براند كشري أبو طارق

فى 21 مارس بدأ الجيش أكبر عملية حربية ضد قوات الحلفاء و أسماها عملية مايكل .. حشد الجيش لتلك العملية أغلب مدفعيته و طائراته و قادته و كل أسلحته تقريباً بداية من أكبر مدافع العالم و أطولها مدى إلى جيش جرار من المشاة و قوات النخبة المسماه بقوات العاصفة .. ألمانيا بإرادتها وضعت ثقلها فى تلك المعركة و ألزمت نفسها بالنجاح فيها و إلا إعتبر ذلك فشلاً فى الحرب ..

أمام جبهة كومبراى و على مقربة من قرية بيرون إختارت ألمانيا أضعف خطوط الحلفاء تحصيناً و قامت بهجومها الكاسح منه .. قصف حاد و سريع و متتالى وصل لأكثر من مليون قذيفة مدفعية خلال 5 ساعات فقط .. ثم هجوم برى من قوات العاصفة مع طليعتهم حاملى قواذف اللهب و القنابل اليدوية .. النتيجة الطبيعية كانت اكتساح ألمانى تام و أسر أكثر من 21 ألف جندى بريطانى ذلك اليوم ..

ألمانيا كانت متسرعة بحكم الضغوط الداخلية عليها و بحكم أن أمريكا قادمة من الجهة الأخرى فأصبح كل همها هو إكتساب أكبر مساحة من الأرض و تكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة .. هم فعلوا ذلك بالفعل و استولوا على أسلحة و معدات إنجليزية و كبدوا بريطانيا و فرنسا خسائر بالجملة و لكنهم لم يتعلموا من دروس الماضى .. كانت المساحة المكتسبة كلها أراض واسعة و مكشوفة ما كان يعتبر تهديد كبير لقواتهم فى حالة رد الهجوم .. و أيضاً كان هناك أكبر سبب لتوقف اقتحامهم .. بُعد خطوط الإمداد ..

بُعد خطوط الإمداد أجبرهم على خوض معركة فى مدينة أميانز للإستيلاء عليها و الحصول على المؤن اللازمة للجيش و لكن أميانز تعتبر نقطة تلاقى السكك الحديدية بين شمال فرنسا و باريس و هو ما يعنى إحتلال الشمال بالكامل .. هنا إستجمع الحلفاء قوتهم و عزمهم للدفاع عن المدينة الهامة إستراتيجياً لفرنسا ..

أمريكا وصلت بقواتها إلى فرنسا ما رفع من الروح المعنوية للحلفاء و مع وصولها تألفت قوة إنجليزية أسترالية مشتركة و واجهوا الألمان فى 4 إبريل و أستطاعوا وقف تقدمهم .. لم يحدث النصر الحاسم .. إنجلترا و باقى جيوش الحلفاء لازالت تحارب و لم تستسلم و أضيفت إليهم أمريكا كحليف جديد .. الإجهاد نال من الألمان و الإحباط كذلك .. زاد من جرعة الإحباط وفاة الطيار الألمانى الأسطورى فون ريختهوفين أعظم طيارى ألمانيا فى الحرب .. كل ذلك كان إعتراف رسمى بالفشل فرضته ألمانيا على نفسها و مع هذا الفشل سحب لودندورف قواته و أنهى عملية مايكل ..

هنا جاء دور الحلفاء فقاموا بتجميع قواتهم فى سرية كبيرة 100 ألف جندى أسترالى و كندى و 400 دبابة و 1900 طائرة و 2000 مدفع و ثلاث فرق من سلاح الفرسان بخلاف قوات إنجليزية و فرنسية .. و مع أول أيام الهجوم كسب الحلفاء 8 أميال و بعده استمر التوغل حتى تراجعت القوات الألمانية عن كل فرنسا و أغلب أراضى بلجيكا و عندها لم يجد لودندورف مفراً من إبلاغ الحقيقة لكبار موظفيه بأن بلغاريا قد هزمت و تركيا و النمسا فى أخر أيامهم كإمبراطوريات و جبهة ألمانيا الغربية من الممكن إختراقها فى أى لحظة الآن .. يجب علينا التفاوض حول السلام فى أسرع وقت ممكن ..

( ألمانيا تراجعت بالفعل و لكنها لم تهزم لأن برلين لم تحتل و إن لم نحتل برلين فإننا فقط نؤجل المشكلة للمستقبل دون حلها و هى غلطة ستدفع فرنسا ثمنها يوماً ما )

قالها الجنرال الفرنسى تشارلز مانجان عندما رأى أن بريطانيا لا تريد غزو ألمانيا لأن حينها قد تنقلب الطاولة عليهم و تكون الخسائر البشرية أضعاف ما خسروه .. الحلفاء كانوا خائفين من ألمانيا حتى و هى وحيدة و محبطة ..

رائج :   الطقوس العجيبة لقدماء المصريين (الفراعنة) مع الحيوانات

الحلفاء رغبوا فى الحصول على توقيع ألمانى يؤكد إستسلامهم الغير مشروط و عليه إختار المشير فيردناند فوش قائد قوات الحلفاء عربة قطاره التى كانت فى غابة معزولة فى منطقة كومبيان 45 ميل شمال شرق باريس لتسليم شروط الهدنة إلى السياسى ماتياس إرثبرجر زعيم الوفد الألمانى و من شروط الهدنة مغادرة الأراضى الفرنسية و البلجيكية و إستسلام الأسطول و دفع تعويضاً و إستمرار حصار الحلفاء حتى نزع السلاح الألمانى و إحتلال الضفة اليسرى لنهر الراين ..

الشعب الألمانى كان قد وصل إلى قمة غضبه و طالب بالديموقراطية و ثار فى وجه القيصر فيلهلم الثانى .. طالب القيصر جنرالات الجيش بالتصدى للشعب و لكنهم رفضوا فلم يجد أمامه مفراً من التنازل عن العرش و قبول إقامته فى منفاه فى هولندا .. بعدها تم قبول شروط الهدنة و تم التوقيع عليها بالفعل فى 11 نوفمبر 1918 ..

عاد الجيش الألمانى إلى أراضيه و تم تغذيه الشعور بالفخر و أن ألمانيا لم تهزم فرغم كل ما حدث لم تحتل برلين و تم تكبيد العدو خسائر أكبر من خسائرنا بكثير و كنا نحارب وحدنا و رغم ذلك لم يتفوقوا علينا .. كان هناك شعوراً بالمرارة لإقتطاع أجزاء من أطراف الدولة و لكن فى النهاية الكيان الألمانى موجود .. إستقلت بولندا و تفككت الإمبراطورية النمساوية إلى النمسا و المجر و تشيكسلوفاكيا و يوجوسلافيا و أجزاء منها إنضمت إلى رومانيا و أيضاً تفككت الإمبراطورية العثمانية إلى حاميات بريطانية و فرنسية نالت إستقلالها بعد ذلك بفترة ..

إجتمعت 27 دولة فى باريس لتوزيع الغنائم لكن القرارات الكبرى كانت تؤخذ من قبل 4 دول فقط .. بريطانيا .. فرنسا .. إيطاليا .. و الولايات المتحدة .. كل منهم له رؤية مختلفة عن الأخر و بالطبع أمريكا التى ترى الموقف برؤية وردية تماماً و كل ما كانت تريده تطبيق قيم العدالة و المساواة دون ظلم لأى طرف ..

تلك الرؤية إنهارت تماماً حين تم التعرف على خسائر الحرب و أن دولة مثل فرنسا إستدانت من بريطانيا و أن بريطانيا نفسها إستدانت من أمريكا و إن لم يتم تحميل ألمانيا تلك الخسائر فلن يستطيعوا دفعها و هو ما لن تقبل به أمريكا .. و عليه إنهارت قيم العدالة و المساواة الأمريكية و قررت مع حلفائها تحميل ألمانيا تكاليف الحرب و أعدوا مذكرة من 440 بنداً و تم دعوة ألمانيا لا لمناقشتها و لكن للقبول بها ..

رائج :   الحاج مصطفى البشتيلي والحملة الفرنسية ..

سميت تلك المعاهدة بمعاهدة فرساى و تم توقيعها فى 28 يونيو 1919 .. إعترضت ألمانيا على بند الإعتراف بذنب الحرب و تعويض المتضررين فتم تمرير الإعتراض و لكن فى 10 يناير 1920 تم تعديل الإتفاقية و تم تحميلهم المسئولية عن الحرب و إقرار التعويضات و حددت بمبلغ 269 مليار مارك ثم تم تخفيضها لاحقاً إلى 132 مليار مارك بالإضافة إلى تقويض قدرات ألمانيا العسكرية و تحديدها ب 100 ألف جندى فقط و إلغاء التجنيد الإلزامى و عدم إنشاء قوة جوية و تحديد القوات البحرية ب 15 ألف جندى و تقليل الأسطول لعدد ضئيل من السفن و بدون غواصات و تحديد الحد الأقصى للتجنيد ب 12 عام للجنود و 25 عام للضباط حتى يفتقد الجيش الألمانى للخبرات ..

شروط معاهدة فرساى كانت مجحفة و قاسية و ظالمة إلى أبعد الحدود جعلت كل ألمانى يشعر بالغيظ و الكره لهؤلاء المتغطرسين الذين أرادوا إذلال ألمانيا عمداً .. كل الشعب الألمانى شعر برغبة فى الإنتقام .. كلهم أرادوا ذلك و لكن واحد فقط منهم أراد ذلك أكثر من أى ألمانى أخر .. جندى كان مغموراً خلال الحرب العالمية الأولى لم يسمع به أحداً فى ألمانيا و لكنه إستطاع لاحقاً أن يجبر أوروبا كلها بالإنصياع له و لو لفترة من الزمن ..  إدولف هتلر

انتهت الحرب العالمية الأولى بخسائر بشرية قدرت بـ 17 مليون قتيل و 20 مليون إصابة بين عسكرى و مدنى و هى بذلك كانت أكبر حروب التاريخ حتى إنتهائها .. بسببها تم تأسيس دول و تم إنهيار إمبراطوريات .. تم الإعتراف بالولايات المتحدة كقطب عالمى جديد .. و تم قيام أول دولة شيوعية فى روسيا .. تم تغيير جذرى فى جغرافيا أوروبا وقتها و هو ما تنبأ به جندى بريطانى فى رسالة أرسلها لإبنه فى أشهر الحرب الأولى يقول له فيها ..

أعرف أنى تركت رجلاً مكانى و أعرف أنك تستطيع آداء تلك المسئولية ..

بالمناسبة .. كيف حال الدراسة ؟

يا بنى .. لا تتعجل فى دراسة جغرافيا أوروبا .. فقد يتغير الكثير منها فى الفترة القادمة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

– فى الصورة :

عربة القطار التى تم فيها توقيع شروط الهدنة بين ألمانيا و قوات الحلفاء .

المصادر :

1 – أكثر من 50 % مقتبس من الوثائقى الرائع الحرب العالمية الأولى للبروفيسور هيو شتراخان :

رابط فيديو & رابط الكتاب

2 – فيديو :  أبوكاليبس الحرب العالمية الأولى :

3 – الحرب العالمية الأولى
4 – بحث عن الحرب العالمية الأولى 
5 – موضوع شامل عن الحرب 
6 – حقائق عن الحرب
7 – عقود و تعويضات 
8 – أشهر تكتيكات الحروب

مقالات ذات صلة