اليابان طوال تاريخها تواجه أزمة مستعصية و هى نقص الموارد الطبيعية فيها .. أراض مرتفعة و ذات طبيعة صخرية و معدل زلازل عالى جداً و أيضاً عدد سكان يعتبر كبير جداً مقارنة بمساحة الأرض القابلة للسكن .. هذا جعل هناك تحدى دائم أمام السلطة الحاكمة فى اليابان سواء الإمبراطور أو رئيس الوزراء بحكم أن النظام السياسى فى اليابان برلمانى .. مع الوقت أصبحت اليابان شديدة الاعتماد على غيرها فى سد احتياجاتها من البترول و المعادن الضروريان لصناعتها و لتغذية اقتصادها المتنامي ..
كان أمام اليابان حلان أولهما دبلوماسى و هو عن طريق التفاوض مع الدول المصدرة للمواد الخام وهو ما يجعل إرادة اليابان دائماً مكبلة و تحت رحمة غيرها من الدول .. و ثانيهما هو أخذ ما تريد بالقوة العسكرية و هو ما يضع اليابان فى مواجهة عسكرية مع دول أخرى وهو ما قد يتبعه خسائر بشرية ومادية كبيرة .. إختارت اليابان الحل الثانى ..
قبل ظهور نفط المنطقة العربية و إحتلالها صدارة قائمة المصدرين كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتصدر تلك القائمة و كانت اليابان تعتمد عليها فى توفير 85 % من احتياجاتها ذلك جعل الصلة وثيقة جداً بينهما و أى خطة مستقبلية ستقوم بها اليابان مرهون بعلاقتها بالولايات المتحدة .. و هو ما غفلت عنه اليابان فى بداية الأمر و حاولت تداركه مع الوقت .. كيف بدأ كل شيىء ؟
اليابان كانت تعي حجم إمكانياتها و تعلم أنها لن تستطيع محاربة العالم كله لذا وضعت عينها على مجالها الإقليمي .. إمبراطورية آسيوية تشمل الصين .. كوريا .. الهند الصينية .. الهند الشرقية .. ماليزيا .. الفلبين .. إندونيسيا .. و كل ما يمكن الاستيلاء عليه من جزر فى المحيط الهادى ..
إستهدف برنامج الغزو اليابانى تحويل تلك الدول إلى دول تابعة إقتصادياً لليابان و عزلها عن العالم الخارجى كأوروبا وأمريكا التى ضربهم الكساد وأضر بإقتصاداتهم .. مع تبعية تلك الدول إلى اليابان يتم تحويل مواردهم إلى اليابان لتحويلها إلى منتجات تامة الصنع ثم تصديرها إلى تلك الأسواق مرة أخرى فتضمن اليابان بهذا تحررها من الهيمنة الغربية على اقتصادها .. سميت منظومة السيطرة تلك بـمجال الرخاء المشترك لمنطقة شرق آسيا العظمى ..
سبتمبر عام 1931 أرادت اليابان تأمين المجال الحيوى لها و أرادت البدء بالصين لقرب المسافة أولاً و لسابق العداء بينهم و الذى تمثل فى الحرب اليابانية الصينية الأولى .. كان لابد من إيجاد ذريعة للحرب .. تم الترتيب لـحادثة موكدين حيث قام ملازم يابانى بزرع كمية بسيطة من الديناميت على خط سكة حديدية يمر عليه قطار يابانى .. كمية لم تؤثر فى القطار و لا حتى القضبان نفسها و لكنها كانت ذريعة كافية لإجتياح جيش كوانتونج لإقليم منشوريا .. جيش كوانتونج كان جيشاً تابعاً للجيش اليابانى و لكنه يمتاز ببعض الخصوصية و منه سيأتى مستقبلاً وزير الحرب المتشدد هيديكى توجو ..
لم تكتفى اليابان بمنشوريا فقط و استدعى الأمر لذريعة أخرى لزيادة النفوذ اليابانى فى آسيا .. فى يوليو عام 1937 كان هناك تواجد يابانى بالفعل على أراضي الصين كجزء من قوات دولية لقمع تمرد حدث فى الصين فى بداية القرن العشرين .. سمى التمرد ثورة الملاكمين .. على بعد 16 كيلو متر من بكين يقع جسر ماركو بولو حيث كان يتدرب جنود يابانيين .. اختفوا هؤلاء الجنود و اتهمت اليابان الصين بخطفهم و طالبوا بتفتيش البيوت إلا أن طلبهم قوبل بالرفض .. ذلك الرفض كان ذريعة كافية لإحتلال بكين و التوسع بعدها فى إجتياح مناطق أخرى من الصين .. آلة الحرب اليابانية دارت و النوايا أصبحت فى غاية الوضوح الآن ..
بالطبع خطوة مثل تلك جعلت الولايات المتحدة تتشكك فى نوايا اليابان و بدأت تنظر لمنظومة السيطرة اليابانية على آسيا نظرة تشكك لأنها فى النهاية ستضر بالمصالح الأمريكية فيها خاصة مع توجه اليابان لزيادة قدراتها العسكرية و بناء أسطول بحرى مهيب يستطيع تحدى الأسطول الأمريكى فى المحيط الهادىء .. هذا القلق لم يترجم لأفعال لأن الإهتمام الأكبر كان متوجه إلى هتلر و إستفزازاته المتتالية فى أوروبا حتى قامت الحرب فعلياً و صار التعامل مع اليابان على كونها حليفاً لألمانيا ..
فى يوليو عام 1940 تم تمرير قانون مراقبة الصادرات و هو ما منح الرئيس روزفلت مزيداً من الحرية للتضييق على اليابان التي اجتاحت شمال الهند الصينية دون إظهار أمريكا فى موقف المتحيز لأنها كانت لاتزال على الحياد فتم منع تصدير الخردة و الفولاذ ثم تبعتها بمنع تصدير وقود الطائرات و زيوت التشحيم مع تخفيض صادرات النفط لها إلى 23 بدلاً 26 مليون برميل سنوياً .. كل شيء يمكن احتماله طالما إمدادات النفط لم تمس .. هكذا كان لسان حال الساسة فى اليابان ..
فى يوليو 1941 و مع التضييق على الصادرات الأمريكية لليابان صار أوضح لكل أصحاب القرار أنه يجب البحث عن مصادر أخرى للنفط فاقترحت قيادة الجيش على الإمبراطور خطة لغزو ماليزيا و الفلبين و جزر الهند الهولندية و هونج كونج بل وصل الأمر للإستعداد لحرب مع الولايات المتحدة الأمريكية .. صار العداء واضحاً الآن .. المعركة معركة بقاء و ليست مجرد ضغوط تنتهى بالتفاوض ..
فى 24 يوليو توغلت اليابان أكثر فى الهند الصينية و بعدها بيومين إتخذ روزفلت أكثر قراراته تهوراً وقتها .. تجميد الأصول اليابانية فى أمريكا و وقف إمداد اليابان بالنفط .. قرار أصاب اليابانيين بالصدمة و اضطروا معه للسحب من مخزونهم من النفط و مع كل يوم يمضى و مع كل إنخفاض يحدث لمنسوب النفط يصير القرار اليابانى أقرب .. ضغطت أمريكا بشدة على دولة قوية لها طموح آسيوى و لها حلفاء و الأهم أن لديها أسطولاً فى المحيط الهادىء يفوق الأسطول الأمريكى فى قوته .. أخطأ روزفلت فى توقيت إتخاذه للقرار ..
فى أكتوبر 1941 تولى الجنرال هيديكى توجو رئاسة الوزراء و مع توليه وضع كل ثقته فى إيسوروكو ياماموتو القائد العام للبحرية الإمبراطورية اليابانية و وضعوا معاً خطة التوسع الآسيوى .. علم الرئيس الأمريكى روزفلت بنوايا اليابان عن طريق قدرة خبراء الشفرة الأمريكيين من فك شفرة الرسائل اليابانية .. علموا بنواياهم التوسعية و لكنهم لم يعلموا مكان الضربة القادمة .. قد تكون الفلبين أو ماليزيا .. لم يجل بخاطرهم أبداً أن تكون أرضاً أمريكية .. ميناء بيرل هاربور فى هاواى ..
فى السابع من ديسمبر 1941 قامت القوات البحرية اليابانية بقصف بيرل هاربور مكبدة البحرية الأمريكية خسائر كبيرة 4 بوارج حربية و مدمرتين و 188 طائرة و قتل 2345 جندى و 57 مدنى بخلاف إصابة 2200 جندى و تضرر 3 بوارج و مدمرة و 6 سفن مختلفة و 155 طائرة .. خسائر أجبرت أمريكا على إعلان الحرب على اليابان فى 8 ديسمبر و بعدها بثلاث أيام أعلنت ألمانيا و إيطاليا الحرب على أمريكا .. صارت الآن حرباً عالمية بحق و أكبر حتى من سابقتها التى انتهت فى 1918 .. تغيرت موازين القوى الآن على الأرض ..
خلال 5 أشهر من تلك المعركة احتلت القوات اليابانية هونج كونج و الفلبين و سنغافورة و الهند الصينية التى تضم الآن جمهوريات كمبوديا و لاوس و فيتنام و معها ماليزيا و بورما و تايلاند و أيضاً جزر الهند الشرقية إندونيسيا الآن .. تقدم كبير كان يلزمه وقفه من قوات الحلفاء فإستمرار التقدم اليابانى معناه إحتلال كل جزر المحيط الهادئ و الأهم إحتمالية تهديد استراليا ..
حاولت القوات الأمريكية إحداث تغيير نسبى عن طريق هجوم دوليتل على طوكيو سمى هكذا نسبة إلى الطيار الأمريكي الشهير جيمى دوليتل قائد العملية .. كانت الغارة أكبر دليل على وجوب الإستيلاء على بيرل هاربور .. أخطأ ياماموتو بعدم احتلاله مسبقاً .. .. تم التجهيز لمعركة ميدواى فى طريقهم إلى إحتلال بيرل هاربور .. كانت خطة ياماموتو ممتازة و لكن شفرة مراسلاتهم قد تم فكها من قبل خبراء الشفرة الأمريكيين .. الآن خطة ياماموتو كلها فى يد البحرية الأمريكية ..
الأمريكيين كانوا يملكون أسطولاً مكون من 3 حاملات للطائرات منهم واحدة كانت فى مرحلة الصيانة و تم إبحارها قبل إستكمال صيانتها مع 25 سفينة و حوالى 360 طائرة فى المقابل كان الأسطول اليابانى هو ثانى أقوى أسطول بحرى فى العالم فى ذلك الوقت .. واجههم ياماموتو ب 8 حاملات طائرات و 200 سفينة حربية و حوالى 600 طائرة و لكن خطته كانت تقضى بتقسيمهم إلى جزئين بينهم حوالى 700 ميل لإنهاك الأمريكيين بالفوج الأول ثم القضاء عليهم بالفوج الثانى فى حالة إستبسالهم .. خطته بالكامل كانت فى يد الأدميرال الأمريكى تشيستر نيمتز و بالتالى نصب له كميناً .. فك الشفرة اليابانية كان له عامل الحسم ..
خسر اليابانيين 4 حاملات طائرات و دمر ما يزيد عن 300 طائرة إضافة إلى مقتل 3057 جندى مقابل حاملة طائرات للأمريكيين و سفينة حربية و 307 جندى .. فشل إحتلال بيرل هاربور و اختار اليابانيين المضى جنوباً فسيطروا على غينيا الجديدة ودارت معارك طاحنة على مدار 4 أشهر فى جزيرة جوادال كانال مع صراعهم المرير على جزيرة سايبان فى المحيط الهادىء هذا بخلاف إنزال جديد للأمريكيين فى الفلبين ..
استمرت المناوشات فى المحيط الهادىء و معها تأكد الأمريكيين من أن الحرب ستطول .. ألمانيا استسلمت و إيطاليا حررت من قبضة موسولينى فلم لا تستسلم اليابان و ينتهى كل شيىء .. فى عقيدة اليابانيين الإستسلام يعنى الخزى و العار و هو ما حول حياة الجنود الأمريكيين فى جزر المحيط الهادئ إلى جحيم لأن عقلية اليابانيين كانت مبرمجة على الإنتحار فى سبيل القضاء على العدو فصاروا يفجرون أنفسهم فى الأمريكيين على الأرض و بالنسبة للطيارين فقد كانوا يفجرون طائراتهم فى السفن الحربية لقوات الحلفاء لمنعهم من الإنزال على أراضي اليابان و إستمرار الحرب بتلك الطريقة سيطيل الوقت و سيضاعف الخسائر حتى بعد استيلائهم على جزيرتى إيوجيما و أوكيناوا .. لابد من إنهاء الحرب بأى شكل كان .. لابد من إجبارهم على الاستسلام ..
تلك الظروف جعلت الأمريكيين يتوجهوا لسلاحهم السرى الذى طالما عملوا على تطويره .. القنبلة النووية فقاموا بإلقاء قنبلتهم الأولى المصنوعة من اليورانيوم على هيروشيما فى 6 أغسطس 1945 و قاموا بإلقاء الثانية المصنوعة من البلوتونيوم فى 9 أغسطس .. الأولى خسائرها قدرت ب 140 ألف قتيل بخلاف المصابين و الثانية قدرت بـ 70 ألفاً بخلاف المصابين .. سلاح فتاك لم ير له اليابانيين مثيلاً من قبل ما أجبر الإمبراطور هيروهيتو على الإستسلام حقناً لدماء الشعب اليابانى .. تم توقيع وثيقة استسلام اليابان فى 2 سبتمبر 1945 عن طريق وزير الخارجية اليابانى مامورو شيجيمتسو نيابة عن الإمبراطور ..
طويت صفحة الحرب العالمية الثانية مخلفة دماراً كبيراً فى دولاً كثيرة من العالم و خسائر مادية لا تحصى و خسائر بشرية قدرت بين 55 مليون إلى 60 مليون نسمة بخلاف المصابين أغلبهم من المدنيين .. كل هذا الدمار بسبب حب السلطة و شهوة السيطرة على الآخر .. حرب عرفت العالم كله بمدى وحشية الحروب و قسوتها فحاولوا من وقتها و لا زالوا يحاولون تلافى تكرارها .. محاولات نجحت حتى الآن و لكن غير معلوم هل ستنجح لاحقاً أم أن الطبيعة البشرية و حب السيطرة سيطغوا على أحد الزعماء و بالتالى يجر معه باقى دول العالم إلى ذلك الآتون مرة أخرى ..