فكر و ثقافةقضايا وأراء

الديكتاتورية .. نماذج من الطغاه (الجزء 1)

بالطبع لا يولد المرء ديكتاتورا فهناك عوامل و ظروف محيطة تساهم فى وصوله لمرحلة الإستبداد بالرأى و الطغيان و تشجعه على القيام بأفعال إجرامية أو مستبدة أو مجنونة فى أحياناً أخرى .. فالديكتاتور من وجهة نظر نفسية هو رجل يرى فى نفسه سمات الصلاح و أن كل أفعاله هى فى الواقع فى صالح الناس و المجتمع حتى و إن رأى غالبية الشعب عكس ذلك .. و بالطبع كل من يحاول تنبيهه إلى خطورة أفعاله ما هو إلا مغرض أو معادى لمسيرة النهضة التى يقودها الزعيم ..

ألقاب ؟

بالطبع هناك ألقاب و لا شك و لا أظن أن ديكتاتوراً واحداً لم يتخذ لقباً لنفسه .. فألقاب من نوعية بانى سوريا الحديثة أو بانى العراق العظيم أو صانع ليبيا المستقبل ألقاباً عادية و طبيعية على الرغم من سوء الأوضاع فى تلك البلدان و لا يحسب أحدكم أن هذا الأمر مقتصر على الطغاة فى البلاد العربية .. 

  •  فيديل كاسترو كان لقبه هو  ليدر ماسيمو أو القائد الأكبر .. 
  • ماو تسى تونج كان هو الموجه الأكبر ..
  • أما رفائيل تروخييو ديكتاتور الدومينكان فتخطى حدوداً كثيرة حين أطلق على نفسه ألقاباً من نوعية المُنعم و المعظّم و أبو الوطن ..

و بالطبع فالديكتاتور هو المعلم الأول و الرياضى الأول و القانونى الأول و السياسى و الفدائى و الجندى و الطبيب و المهندس و حتى الفلاح الأول .. هذا أمر مفروغ منه و كنت أظنكم تدركونه ..

يعيش الديكتاتور فى ضغوط رهيبة فهو يجب أن يظهر بصورة المسيطر دائماً .. القوى دائماً .. لذا يجب عليه أن يصنع رأى عام حتى لو كذباً ليرضى به غروره فتتحول كل وسائل الإعلام تدريجياً لتلميع صورة الرجل الذى عادة ما تكون قدراته أقل كثيراً مما يشاع عنه .. كل وسائل الدعاية تشكر الزعيم البطل على أفكاره اللامعة التى لم تخطر على قلب بشر و لذلك فإنه يجب على الشعب التلاحم مع قيادته حتى يكملوا مسيرة النمو .. دعاية كاذبة تكررت كثيراً فى أكثر من مكان ..

فى ألمانيا الشرقية مثلاً كانت وسائل الإعلام تتغنى دائماً بالرفاهية التى يعيش فيها الألمانى الشرقى مقارنة بنظيره الغربى فى الوقت الذى كان يحاول فيه مئات الألمان الشرقيين القفز من على سور برلين تجاه ألمانيا الغربية هرباً من الواقع المتهالك الذى تعيشه الدولة على يد الديكتاتور إيريش هونيكر معرضين أنفسهم للقتل بالرصاص .. القتل بالنسبة لهم كان أفضل من رفاهية لم يسمعوا عنها سوى فى وسائل الإعلام ..

قد يبدأ الديكتاتور فترة حكمه بشكل معقول ثم ينقلب تدريجياً مع أول تهديد يؤثر على أركان حكمه .. فى قرغيزيا مثلاً قاد قربان بك أكاييف ثورة التيوليب ضد نظام حكم عسكر أكاييف عام 2005 ليحكم بعدها البلاد لمدة تقارب الخمس سنوات حتى إنتفض الشعب ضده بعد سياساته السلطوية ليهرب إلى بيلاروسيا هارباً من سخط الشعب ..

رائج :   معلومات لاول مره سوف تعرفها عن الحملة الفرنسية على مصر و عبقرية نابليون

وقد يرفض الطاغية فكرة الثورة عليه من الأساس .. يقال أن شاه إيران محمد رضا بهلوى كان يطير بطائرته فوق الحشود فى ميادين طهران للتأكد بنفسه أن هذا كله ليس إشاعات .. الطغاة دائماً لا يسمعون أنين شعوبهم و عادة ما يكونون مفصولون عن الواقع ..

العدو قادم

ولكى يستطيع الديكتاتور أن يبقى فى منصبه يجب أن يخترع عدواً للأمة يحمله كافة أنواع الفشل التى يعانيها وطنه فإن كان الديكتاتور شيوعياً فالإمبريالية عدواً ممتازاً و إن كان رأسمالياً فالشيوعية خطراً يجب القضاء عليه .. إن كان ليبرالياً فالتشدد الإسلامى مثلاً عدواً لا بأس به .. و إن كان متشدد دينياً فالحرب على الدين سبباً كافياً لبقائه فى الحكم .. هذا بخلاف أنه أحياناً يسمح الطغاة ببعض الفوضى فى المجتمع ليبتزوا شعوبهم بورقة الأمن ..

V for Vendetta فيلم عالمى يحكى قصة مناضل وقف أمام حاكم طاغية حتى استطاع تفكيك منظومة الحكم الفاسدة عن طريق تفجير مبنى البرلمان و الذى لم يكن له دوراً فى الحياة السياسية .. حياة أمسك بخيوطها الديكتاتور أدم ساتلر و مع تحدى بطل الفيلم له و تدمير البرلمان يفيق الشعب من غيبوبته التى عاش فيها طويلاً .. عموماً أشار الفيلم لإحدى طرق سيطرة الطاغية على الشعب عن طريق إثارة خوفهم من المخاطر التى تهددهم و أن النجاة منها يكمن فى الإستسلام للحاكم الذى يعرف كل شيىء لأنه أخر دفاعاتهم أمام تلك الأخطار .. أدم ساتلر قال الآتى نصاً فى الفيلم موجهاً حديثه إلى مسئول الإعلام فى الدولة :

( سيد داسكوم .. ما نحتاجه الآن هو رسالة واضحة لأهل هذه البلاد .. هذه الرسالة يجب أن تُقرأ فى كل صحيفة .. تُسمع على كل مذياع .. تُرى على كل تلفاز .. أريد للبلاد بأسرها أن تُدرك أننا على حافة الإندثار .. أريد كل رجل .. إمرأة و طفل أن يعى كم نحن قريبون من الفوضى .. أريد من الجميع أن يتذكروا .. لم يحتاجوننا )

بعدها مباشرة تحولت نشرات الأخبار للحديث عن الفوضى فى بلدان أخرى أو نقص المياة المتوقع أو رفعاً وشيكاً للأسعار أو جراثيم تنقل عدوى عبر الهواء .. بإختصار يتم إخضاع الشعوب عن طريق إشعارها بالخطر ..

فى تلك السلسلة القصيرة سأحاول سرد قصصاً عن الطغاة و الدكاترة ( جمع ديكتاتور ) من كل بلاد العالم .. قديماً و حديثاً .. بالطبع لن أدخل فى تفاصيل الدول التى حدثت فيها تلك الأحداث و لكن سأحاول الإختصار قدر المستطاع حتى يمكننى عرض نبذة سريعة عن أفكار هؤلاء الطغاة و كيف أنهم أذاقوا شعوبهم الذل على مدار سنوات حكمهم .. أيها السادة .. اربطوا أحزمتكم .. نحن بصدد العودة إلى الماضى قليلاً ..

رائج :   هل أردوغان حاكم إسلامي ؟ .. اليك الاجابة بالتفصيل

1 – العصور القديمة :

بالتأكيد أنت أكثر حظاً من سكان روما عام 37 ميلادياً .. الشاب ذى الجذور الملكية كاليجولا تم تنصيبه كحاكم لروما .. إمبراطورية كبيرة و عظيمة و حاكمها يتمتع بنفوذ و سلطان كبيران .. الشاب الصغير إعتز بقوته و سلطانه و رأى أنه يجب أن يمتلك كل شيىء و أى شيىء.. كاليجولا طلب أن يمتلك القمر و حاول أيضاً أن يجعل الشمس تشرق من المغرب و حاول أن يحيى الموتى أو أن يمنع الموت عن الأحياء و لكنه فشل فى كل هذا .. كاليجولا أراد أن يصبح إلهاً على الأرض ولكنه فشل فأصيب بمرض عقلى و ذهنى و ساءت حالته أكثر مع كل فشل يقابله فى أداء وظيفته كإله على الأرض ..

مرضه النفسى بدأ يستبد به تدريجياً و وصل أثره إلى سكان روما وقتها حين أجبر كل أشراف روما على حرمان ورثتهم من الميراث و كتابة ذلك صراحة فى وصيتهم بأن تؤول كل أملاكهم إلى خزانة الإمبراطورية بعد وفاتهم و لما كان بعضهم يطول عمره من وجهة نظر طاغيتنا كان يأمر بقتله ليسرع من إجراءات إنتقال الميراث إليه ..

روما كانت إمبراطورية غنية و كانت لا تعانى مطلقاً من نقص الأغذية و هو ما رأه كاليجولا شيئاً عادياً لا يليق بوضعه كإله على الأرض .. من سيتذكر عصره إذا لم يحدث به شيئاً جللاً .. أمر بإغلاق مخازن الغلال فى وجه العامة و بقى يشاهد شعبه و هو يتساقط جوعاً مستمتعاً بقدرته على تعذيب الناس و تجويعهم .. لم يقف جنون كاليجولا عند هذا الحد و إنما زاد الأمر حين قام بتعيين حصاناً له فى منصب القنصل و هو أعلى منصب إدارى فى روما وقتها و خصص له منزلاً و مجموعة من العبيد لخدمته و خصص له أوانى ذهبية ليتناول فيها طعامه و شرابه ..

بسبب أفعاله الديكتاتورية قيل أن مجلس الشيوخ تآمر عليه لقتله و قيل أن أحد حراسه هو من قتله عام 41 ميلادياً .. خمس سنوات فقط حول فيها كاليجولا إمبراطوريته إلى أسوأ واقع قد يحياه شعب وقتها ..

2 – روما .. أكتوبر 54 ميلادية ..

الإمبراطور الشاب ذو التسعة عشر عاماً يتولى مقاليد الحكم فى روما .. نتحدث عن إمبراطور له صلة قرابة مع كاليجولا .. نتحدث عن مجنون أخر فى العائلة الملكية الرومانية .. نتحدث هنا عن نيرون ..

فى البداية لم يكن يحكم فعلياً بحكم صغر سنه و كانت أمه أجربينيا هى الحاكمة الفعلية حتى اشتد عوده نسبياً و اختلف مع والدته التى هددته بوجود إبن شرعى لأبيه يدعى بريتانيكوس .. وجود هذا الإبن كان يعنى تنازل نيرون عن العرش لأخيه لإن نيرون كان إبناً بالتبنى و ليس إبناً شرعياً لوالده الإمبراطور كلوديوس .. لم ينتظر نيرون كثيراً و قام بقتل أخيه بالسم ..

رائج :   الشئ الفظيع .. رسالة من بريد الجمعة

تدريجياً تقرب للوزراء و رجال الدولة الأقوياء و استطاع بعلاقاته إقصاء أمه و تولى مقاليد الحكم بنفسه .. زاد جنونه تدريجياً و اعتاد حياة السكر و العربدة .. كلما مر يوم فى حياة الإمبراطور إزداد معه إنحطاطاً حتى وصل به الأمر إلى التنكر فى زى العبيد و القيام بسلب و نهب ممتلكات المواطنين .. بسبب نمط حياته الآخذ فى التدنى زادت الخلافات بينه و بين أمه حتى أمر بعض جنوده بقتلها وبالفعل قام الجنود بتقطيعها بالسيوف ..

قتل أمه زاد من هوسه و إزدادت حالته النفسية تدهوراً و بدء جنون الإرتياب يتملك منه فصار كل من حوله أعداءاً محتملين و إمتدت قائمة الإغتيالات و القتل لتشمل أقرب أقربائه .. نشب خلاف بينه و بين عشيقته بوبييه و تطور الأمر بينهما حتى ضربها ضرباً مبرحاً أدى لقتلها .. أمر بقتل بوروس قائد جيشه و أكثر المقربين إليه بسبب خلاف بسيط بينهما .. أمر بقتل معلمه لأنه لم يمتدحه كما يجب .. إمتد القتل ليشمل أصدقائه .. أقاربه .. ضباطه .. جنوده .. لم يسلم من نيرون أحد فى تلك الفترة ..

أبرز جرائمه و أشهرها على الإطلاق كان حريق روما الكبير أبرز مدن الإمبراطورية الرومانية .. ففي عام 64 م بدأ يتخيل أنه يريد إعادة بناء روما كعمل يخلد إسمه فى التاريخ .. لكن كيف سيعيد بناءها إذا لم تكن المبانى فى حاجة لإعادة بناء من الأساس .. هداه عقله لحرق المدينة بالكامل ليصبح مسوغاً لإعادة البناء كما يتخيل ..

بدأ بإحراق القاعدة الخشبية فى السيرك الكبير و إمتدت النيران بعدها لكل أنحاء روما .. أسبوع كامل و المدينة تحترق و فى الوقت التى كانت النيران تلتهم أجساد الشعب الرومانى كان نيرون وسط حرسه فى أحد الأبراج يستمتع بمشاهدة المدينة و هى تفنى .. روى عنه أنه كان يشاهد الحريق و هو يشرب الخمر و يشدو بأشعار هوميروس .. عاش نيرون بعد الحريق أربع سنوات إستبد فيها بالمسيحيين و أذاقهم شتى صنوف العذاب حتى سادت الفوضى و الجريمة فى البلاد ما أجبر مجلس الشيوخ على معاداته و إعلانه عدواً للشعب فأجبره هذا على الموت منتحراً عام 68 م ..

مخطىء لو ظننت أن الإستبداد و الجنون قديماً كان فى الإمبراطورية الرومانية فقط ..

  • القتل شمل كل مكان على الأرض ..
  • ماذا عن طغاة منغوليا .. بلغاريا .. إنجلترا .. روسيا ..
  • ماذا لو كنت أكثر وضوحاً ..
  • ماذا عن الإستبداد فى عهود المسلمين الأولى ..

فبالامكان متابعة مقال الديكتاتورية .. نماذج من الطغاه (الجزء 2)

* أعتذر عن ذكر مصادر لتلك السلسلة لكثرتها و تشتتها و صعوبة تجميعها و لو جمعتها لإحتجت ذكرها فى مقال خاص بها ..

Related Articles