أجمل رسائل بريد الجمعة

الرحيل ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أنا يا سيدي شاب عمره 30 عامًا من أسرة مكافحة كان أبي موظفًا صغيرًا بالحكومة ورغم ضآلة راتب أبي فقد كان يكفي مطالبنا ولا نشكو من شيء ، ثم توفى أبي رحمه الله وأنا طالب بدبلوم المدرسة الصناعية وتركنا ثلاثة أبناء هم أنا وشقيقتان تصغرانني ،

فكافحت حتى حصلت على الدبلوم وخرجت إلى الحياة فعملت بالنقاشة واستفدت من دراستي بقسم الديكور والزخرفة في عملي فبدأت أحصل على بعض الرزق وعاهدت الله على ألا أهتم بنفسي إلا بعد أن أصل بأمي و شقيقتيَّ إلى بر الأمان واستجاب الله لدعائي فأجرى رزقهن على يدي حتى بدأت أشعر بالاستقرار المادي فجازفت بالعمل في مقاولات النقاشة والدخول في عمليات كبيرة وفقني الله فيها جميعًا وحققت منها ربحًا حلالاً ساعدني على تلبية مطالب أسرتي .

ومضت الأعوام وأنا سعيد بنجاح شقيقتيَّ فالتحقت أختي الكبرى بكلية الهندسة .. والتحقت أختي الصغرى بعدها بكلية التجارة وضاعفت من نشاطي وعملي لأوفر لهما ما تحتاجان إليه من كتب ومظهر يليق بهما وتمنيت صادقًا أن أجعلهما أحسن البشر مع أمي ولم أيأس أبدًا أمام أية عقبة لأني كنت أشعر بإحساس كاليقين أن في عنقي ثلاث إناث وأن الله لن يتخلى عني أبدًا من أجلهن ، وصدق ما توقعت وأصبحت حالتنا المادية ميسورة إلى حد ما والحمد لله ..

واستقرت حياتنا وفي ذلك الوقت عرض عليَّ أحد المقاولين السفر للخارج للعمل في نفس مجالي ووافقت بلا تردد ، وشجعني على ذلك أن شقيقتي طالبة الهندسة كان قد تقدم لها معيد بكليتها يطلب يدها وهي في السنة الثالثة ، فقررت السفر لكي أستطيع أن أوفر لها متطلبات جهازها .. ووضعت يدي في يد خطيبها وحددنا موعد الزفاف بعد تخرجها مباشرة وحزمت حقائبي وسافرت إلى إيطاليا مسلحًا بدعوات أمي .. ونيتي المخلصة في أن أكافح لأعول أسرتي وألبي مطالبها وبدأت مرحلة جديدة من كفاحي في الغربة وسط متناقضات الحياة هناك التي صمدت لها جميعًا ..

ومضت الشهور الأولى في صراع مع الحياة فلم أدخر من عملي هناك قرشًا واحدًا لنفسي وإنما كنت أرسل لأمي كل ما أوفره لتشتري لأختي جهازًا يشرفها أمام خطيبها وأمضيت هناك عامين وثلاثة شهور ثم عدت في أجازة لأشهد زفاف شقيقتي فإذا بأسرة جديدة قد سكنت في المنزل المجاور لنا .. وإذا بي أرى في شرفة مسكنهم فتاة ذات جمال ملائكي خفق لها قلبي الذي صمد لكل المغريات في إيطاليا وسبحان من بيده أمر القلوب فسألت عنها وعرفت أنها صديقة لشقيقتي الصغرى وطالبة بالسنة الأولى بنفس كليتها وأنها تتمتع بأخلاق مثالية وشخصية جذابة تجذب إليها كل من يقترب منها ،

فأحسست يا سيدي أن الله سبحانه وتعالى إنما يكافئني بهذه الجائزة على كفاحي في الحياة وإخلاصي لأسرتي والتزامي بتعاليم ديني في الغربة وكتمت مشاعري بيني وبين نفسي وتم زفاف شقيقتي في أمان الله والحمد لله وأحسست بأني قد تخففت من جزء من مسئوليتي العائلية وتملكني حب جارتي الرقيقة مع الأيام حتى أصبحت أسهر في شرفة بيتنا كل ليلة لأرقبها في صمت ، ولاحظت شقيقتي الصغرى ذلك فاعترفت لها بحبي لصديقتها وطالبتها بكتمان الأمر ، ومضى حبي ينمو داخلي ويتعمق بلا أي محاولة للتعبير لها عن هذا الحب ثم تخرجت شقيقتي الصغرى

رائج :   الحيرة القاتلة ! .. رسالة من بريد الجمعة

وتقدم لخطبتها شاب من سكان الحي فأردت أن أرضي ضميري تجاهها قبل عودتي للسفر فوضعت باسمها في البنك مبلغًا كافيًا لإعداد جهازها وبدأت شقيقتي تلح عليَّ في أن أخطو خطوة عملية تجاه فتاتي وأنا مازلت مترددًا كما كانت أمي قد بدأت منذ زفاف شقيقتي الكبرى تفاتحني في ضرورة زواجي وتعرض عليَّ فتيات عديدات وأنا أرفض بلا أسباب ، وأخيرًا حزمت أمري وفاتحت أمي برغبتي وتوجهنا معًا إلى بيت فتاتي نخطبها ..

وطرت من السعادة حين وجدت فتاتي تبادلني مشاعري وقربت بيننا الخطبة أكثر وأكثر فتضاعف حبي لها وتقاربت الأسرتان حتى أصبحتا أسرة واحدة .. واتفقنا على أن يتم الزفاف عقب تخرجها مباشرة وأمضيت معها 4 شهور كانت بالنسبة لي هي الحياة ثم حزمت حقائبي وعدت إلى إيطاليا وودعتني أمي وشقيقتاي كالعادة .. ومعهما هذه المرة خطيبتي وملاكي وأمضيت عامين في إيطاليا وأنا أعمل بلا كلل . ثم عدت في الموعد المقرر لزفافنا في الصيف الماضي ، فتوفيت والدتها فجأة فاضطررنا إلى تأجيل الزفاف وعدت إلى مقر عملي ..

وعشت 10 شهور لا تربطني بالحياة سوى رسائلها التي أنتظرها بلهفة ثم فجأة انقطعت رسائلها .. فكتبت إليها أستفسر عن سر الانقطاع فلم أتلق ردًا .. وتملكني القلق والحيرة وخشيت أن أستفسر من شقيقتي الصغرى عن سبب الانقطاع خشية أن ينتشر الأمر ، فحسمت ترددي وقررت العودة إلى مصر لأعرف ماذا حدث وعدت يا سيدي منذ حوالي شهر وكان أول ما فعلته بعد لقاء أمي وأخوتي هو أن ذهبت إلى شقتها .. وهناك فوجئت بالجميع يرحبون بي بحرارة ما عدا فتاتي التي حيَّتني بتحفظ ثم اختفت داخل حجرتها ..

وسألت شقيقتها الكبرى عما حدث .. فحاولت التهرب في البداية .. ثم اضطرت للاعتراف بأن هناك “شيئًا” ما .. وأن كل شيء قسمة ونصيب ، وأصررت على أن أسمع ذلك من خطيبتي نفسها فدعوتها فجاءت وألقت بالصاعقة فوق رأسي وأبلغتني أنها تريد فسخ الخطبة وخلعت الدبلة وتركتها أمامي وانصرفت في صمت ، وأحسست بالدنيا تدور بي .. وكافحت حتى أستطيع أن أنهض من مقعدي وأغادر الشقة .. وغادرتها والدموع تترقرق في عيني وقد تراءت لي صور كفاحي في الحياة ومعاناتي في الغربة وصبري على ما لاقيت على أمل أن تكون فتاتي هذه هي المكافأة التي وعد الله بها الصابرين والمكافحين ، وعدت لشقتي صامتًا ..

رائج :   الحياة الطيبة ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

فلم أنم طوال الليل وتأكدت أني لن أستطيع البقاء في المسكن المجاور لها فأخذت حقيبة ملابسي واتجهت إلى شقة شقيقتي الكبرى وأقمت عندها وأنا في أسوأ حال وشقيقتي وزوجها يحاولان أن يخففا عني بلا جدوى ، وبعد أيام فوجئت بشقيقة خطيبتي تزورني في بيت شقيقتي وتؤكد لي أنها لم تأتِ إليَّ إلا رفقًا بأختها التي تتدهور حالتها ولا تعرف بمجيئها ثم كشفت لي سر تغيرها ..

وهي أنها قد اكتشفت منذ شهور خلال علاجها من مرض ألمَّ بها أنها مولودة بعيب خلقي هو عدم وجود رحم داخلها وأن ذلك يعني أنها لن تكون قادرة على الإنجاب في أي يوم من الأيام فأرادت ألا تعذبك معها وتحرمك منه فتندم ذات يوم على زواجك منها .. ووجدت نفسي أقرر على الفور أمامها أني سوف أتزوجها لأنه لا ذنب لها في ذلك وأيدتني شقيقتي الكبرى وزوجها ، وذهبت مع أختي وزوجها إلى بيت أمي قبل أن أذهب إلى بيت خطيبتي .. ففوجئت بهما وقد عرفا بالأمر ..

وصُدمت صدمة هائلة حين أبلغتني أمي برفضها القاطع لزواجي منها .. لأنها كما قالت لي تعيش على أمل أن ترى أحفادها .. وهلعت حين أقسمت لي أنها ستتبرأ مني إذا أصررت على الزواج منها .. ولم يقتصر ألمي على ذلك بل وجدت شقيقتي الصغرى أيضًا تؤيدها في رفضها ولم تشفع لهما دموعي وعذابي في أن يغيرا موقفهما واستثار ذلك مشاعري فجأة .. فلم أتمالك نفسي .. وهرولت متجهًا إلى بيت خطيبتي .. وما أن رأيتها حتى عانقتها أمام الجميع بغير شعور ..

وبكت بدموع غزيرة وبكيت معها واتفقت مع والدتها على أن يتم الزفاف في منتصف شهر ديسمبر الحالي واسترددت إحساسي بالحياة مرة أخرى وعدت للإقامة عند شقيقتي الكبرى وقد قررت أن أصطحب زوجتي إلى إيطاليا عقب زفافنا مباشرة فأنا يا سيدي قد أديت واجبي تجاه شقيقتيَّ الاثنتين على قدر طاقتي وجهدي ، أما أمي فلن أقصِّر في حقها أبدًا وسأقوم بواجبي معها وأنا في الغربة ولن أنساها مهما فعلت بي ..

لكن مضت الأيام عقب الموقف المؤلم بيني وبينها وأنا أتصور أن الليالي سوف ترقق من مشاعرها تجاهي وتشفق عليَّ وأنا ابنها الوحيد من أن أكون يوم الزفاف بغيرها وهي أمي التي أحبها وأرعى حقوقها فلم يتغيَّر الموقف حتى الآن .. والآن يا سيدي لم يبق على الزفاف سوى عدة أيام وسوف أرحل مع زوجتي بعد الزفاف .. كما كان الحال منذ سنوات لكن شتان بين الرحيل وأمي وشقيقتي الصغرى في وداعي وتتمنيان لي السعادة وبين الرحيل هذه المرة وأمي قد تبرأت مني وقاطعتني وباعدتني وشقيقتي الصغرى غائبة عن وداعي .

رائج :   السؤال المهم ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

إنني لا أعتبر ما قمت به تجاههما إلا واجبًا مفروضًا عليَّ ووفقني الله لأدائه .. لكن هل يرضيك يا سيدي أن تحجب أمي عني مباركتها لزواجي من الفتاة الوحيدة التي تمنيت الزواج منها .. إنني لا أفكر في الإنجاب ولا يشغلني هذا الأمر نهائيًا ولست على استعداد لأن أفقد فتاتي لسبب لا يد لها فيه فهل لك أن توجه لأمي كلمة ترجوها فيها ألا تنغص عليَّ سعادتي بإصرارها على موقفها هذا .. وهل لك أن تفعل نفس الشيء مع شقيقتي ؟

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

أفعل ما تريد إن شاء الله .. لكني أرجوك ألا تذهب إلى حفل زفافك من بيت شقيقتك وأن تعود فورًا للإقامة في بيتك بين أمك وشقيقتك .. فما بينكم جميعًا ليس سوى خلاف حب وليس خلاف عداء وعداوة .. فأمك في النهاية لا تطلب لك إلا ما تتصوره سعادتك ليس إعزازًا لك ومحبة فقط إنما إشفاقًا عليك مما تتصوره سوف يشقيك في مستقبل أيامك وهذا أيضًا هو موقف شقيقتك الصغرى ، لكنهما لا يدركان الفارق الجوهري بين ما يتمناه الإنسان لنفسه وبين ما تسمح له به المقادير ..

وربما لا يعرفان أن السعادة ليست رهينة بالقدرة على الإنجاب وإنما بأسرار إلهية عديدة نعرف منها القليل ولا نعرف أكثرها وكم من أسر لم تُحرم من الإنجاب لكنها حُرمت من السعادة .. وكم من أسر حُرمت من الإنجاب فنعمت بما لم تنعم به أسر أخرى من السعادة والسعادة في النهاية سر شخصي لا يستطيع الآخرون أن يدركوه إذا راقبوه من الخارج ومادام قد استقر في يقينك أنك سوف تسعد مع فتاتك .. فلن تبخل عليك الأقدار بالسعادة والأمان والاستقرار إن شاء الله ..

فقط عليك ألا تكف عن المحاولة مع أمك خلال الأيام القليلة الباقية على الزفاف ولو تطلب الأمر أن تقدم لها ترضية جديدة تُضاف إلى رصيدك الكبير عند ربك ولست أظن أنها ستقوى على أن تحجب عنك موافقتها .. أو تغيب عنك في مثل هذا اليوم السعيد وهو أمل كل أم خاصة وأنت ابنها المضحي القائم بكل واجباته بإحساس عائلي نبيل .. كما لا أتخيل أن تقوى أمك على ألا تكون في وداعك يوم الرحيل وأنت مع عروسك تبدآن حياة جديدة وتستقبلان أول أيامكما السعيدة .. لا يا صديقي .. لن تقوى ولن ترضى لك أن تمزج سعادتك بهذا الشقاء وهذه المعاناة وأنت من عانيت الكثير ..

فاذهب إليها فورًا .. واطلب مباركتها من جديد لزواجك .. ولا تتحرك من أمامها إلا بعد أن تعلنك بموافقتها وتتمنى لك السعادة .. فهكذا تفعل الأمهات الطيبات حتى ولو لم يرضين تمامًا على زيجة الأبناء ما داموا كبارًا وراشدين .

مقالات ذات صلة