أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

الشجرة الجرداء !! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله) 

أنا شاب في الخامسة والعشرين من عمري‏..‏ أعيش في مدينة من مدن الأقاليم‏,‏ وقد نشأت يتيم الأب بالرغم من وجوده علي قيد الحياة‏,‏ وكانت لذلك قصة‏,‏ فقد تزوجت أمي أبي وهو ابن عمها وتزوج خالي عمتي في نفس الوقت ونتيجة لتشابك العلاقات‏,‏ فلقد كانت كل مشكلة تواجه أمي مع أبي تجد صداها في مشكلة مماثلة بين خالي وعمتي‏..‏ إلي أن تعقدت المشاكل وانتهي الأمر بطلاق الأربعة دفعة واحدة‏..‏

وحدث هذا وأنا جنين في بطن أمي‏,‏ وجئت إلي الحياة في بيت جدي وجدتي ودرجت في مدارج الطفولة دون أن أعرف أبي أو يحاول هو السؤال عني أو زيارتي‏..‏ فلم أره سوي مرة واحدة قبيل التحاقي بالمدرسة الابتدائية حين شاهدني مصادفة مع خالي في المسجد فأعطاني‏25‏ قرشا‏..‏ فرحت بها كثيرا‏,‏وبعد ذلك مضت سنوات الدراسة الابتدائية دون أن يسأل عني في يوم من الأيام هو أو أحد من أهل أبي‏..‏ وأنهيت دراستي‏..‏ وسافرت للعمل في الخارج بضع سنوات‏,‏ ورجعت دون أن يسأل عني أبي أيضا‏..‏

ولم يكف ما ادخرته من مال في الغربة لشراء مسكن مناسب‏,‏ فاقترح علي خالي أن أبني لنفسي شقة في بيته توفيرا علي‏..‏ فشكرته علي ذلك وقمت ببناء الشقة وكنت قد بلغت سن الشباب وأعمل‏..‏ فنصحني خالي بزيارة والدي وتجديد علاقتي به لكي أتبادل معه المودة والزيارات‏..‏ وعرض علي أن يصطحبني ليقدمني إليه‏,‏ فرحبت وذهبت معه‏,‏ وتبادلنا الحديث لبعض الوقت‏..‏ وانصرفت وتوقعت بعدها أن يسأل عني أو يزورني أو يطلبني لزيارته‏.‏ فلم يفعل شيئا من ذلك وانقطعت العلاقة بيننا من جديد‏..‏

وانتهي بناء الشقة دون أن يساعدني أبي بمليم واحد وساعدني خالي في تشطيبها‏,‏ كما أهداني أيضا غرفة نوم جديدة وأنتريها وسفرة لكي أتزوج وشاءت الأقدار بعد ذلك أن أختار الإنسانة التي ستشاركني حياتي‏,‏ ووفاء لخالي استشرته في اختياري هذا‏,‏ فأيده بحماس لكنه نصحني بألا أقدم علي أية خطوة في الزواج إلا بعد استشارة أبي ونيل موافقته‏,‏ واستئذانه في أن يصحبني لخطبة الفتاة التي اخترتها‏,‏ واستجبت للنصيحة وتوجهت إلي أبي وأبلغته بعزمي علي الزواج واختياري لمن اخترتها‏,‏ وطلبت منه أن يشرفني أمام أصهاري بالحضور‏,‏ فإذا به يرفض أن يذهب معي إلي أهل العروس ويرفض مصاحبتي في أي خطوة من خطوات الزواج‏..‏ مع أني لم أطلب منه شيئا ماديا ولم أحمله أية مسئولية‏,‏ ولم أتوقع منه أية مشاركة في تكاليف الزواج‏..‏ لكنه ـ سامحه الله ـ آثر أن يظل بعيدا خوفا من أن يتورط في أي شيء مادي أو أن يلتزم مع أهل العروس بأي التزام‏..‏ وتحملت أقداري في صبر‏..‏ وأبلغت خالي بما حدث وأنا حزين‏..‏

رائج :   شقلبة في التجارة الالكترونية العالمية و المصرية .. رؤية عن قرب لما يحدث

فطيب خاطري كثيرا‏,‏ وقال لي إنني بذلك قد تفاديت اللوم الذي كنت سأستحقه لو كنت قد تجاهلت أبي في هذا الموقف‏..‏ وقبل أن أصف لك حفل الزفاف‏..‏ أريد أن أحدثك قليلا عن الفتاة التي اختارها لي القدر لكي تشاركني رحلة الحياة‏..‏ فهي يتيمة الأب مثلي تماما‏..‏ بالرغم من أن أباها علي قيد الحياة كذلك‏,‏ فهي لم تر والدها منذ مولدها وهو لا يعلم عنها شيئا‏,‏ وقد ولدت ونشأت في بيت جدها لأمها‏,‏ وتزوجت من بيت جدها‏..‏ ولم يحضر والدها زفافها مثلما فعل أبي بالرغم من إبلاغه بالزفاف وموعده‏..‏ وقد اتفقت أنا وهي علي ألا نسمح لموقف أبوينا منا بأن يفسد علينا فرحتنا ليلة الزفاف‏..‏ وعلي أن أعتبر خالي أبي وتعتبر هي جدها أباها‏,‏ ونفرح بفرحتهما بنا وفرحة أم كل منا به‏,‏ وإن كان قد حز في نفسي كثيرا أن يغيب كل أعمامي وعماتي عن زفافي‏.‏

وبدأنا حياتنا الزوجية‏..‏ وعوضنا الله سبحانه وتعالي عن حرماننا من عطف الأب‏,‏ بالتفاهم والمودة والتراحم بيننا‏..‏ وكلما تذكر أحدنا يتمه وجفاء أبيه له بلا سبب‏,‏ سارع الآخر باحتوائه‏..‏ والتخفيف عنه وتذكيره بنعم الله الأخري علينا‏..‏ وقد أكرمنا الله بحمل زوجتي بعد الزواج مباشرة‏,‏ وهي الآن في شهرها السابع‏..‏ وقريبا سيرزقنا الله بطفل أو بطفلة ستكون قرة أعين لنا‏,‏ وسوف نحتضنها ونهتم بها ونعطيها كل الحب الذي تستحقه‏,‏ لأنه هكذا قد أمرنا الله تعالي‏,‏ وللعلم أنا لاأحمل لأبي أية كراهية‏..‏ لكني علي الناحية الأخري ولكي أكون صادقا معك لا أحمل له أيضا أية ذرة من الحب ولا أعتبره موجودا من الأصل ـ سامحه الله‏..‏ فهل أنا ملوم في ذلك؟

رائج :   مرحب شهر الصوم || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

لا لوم عليك إن لم تجد في قلبك ذرة حب لمن تحمل اسمه‏..‏ ويكفيك نبلا أن تخلو نفسك من الموجدة عليه‏..‏ ولا غرابة في ألا تعتبره موجودا علي قيد الحياة لأنه قد انسحب بالفعل من حياتك نهائيا ولم يشعرك بوجوده بين الأحياء علي مدي سنوات العمر‏..‏ بل ولم تجده إلي جوارك حين احتجت إلي مجرد دعمه الأدبي لك خلال خطوات زواجك‏..‏ فكيف يكون علي قيد الحياة إذن وقد اختار لنفسه الموت المعنوي بالنسبة لك‏,‏ وضن عليك حتي بأبسط حقوق الأبناء علي آبائهم؟‏.‏

إن الفطرة السليمة توجه مؤشرات الأبناء تلقائيا في سن الطفولة إلي آبائهم وأمهاتهم‏,‏ لكن هذه الفطرة تحتاج لكي تتعمق وتترسخ في النفوس إلي أن يرويها الآباء والأمهات بماء الحب والعطف والرعاية والمسئولية عن الأبناء‏,‏ فإن لم يفعلوا ذلك تراجعت وانهزمت أمام جفاء الآباء والأمهات لأبنائهم ونبذهم لهم وتخليهم عن واجبهم الإنساني تجاههم‏..‏ ولا عجب في ذلك لأن حقوق الأبوة والأمومة لا تكتسب بالميلاد وحده‏..‏ وإنما بالرعاية والعطف والنهوض بالواجبات الإنسانية تجاه الأبناء‏.‏

ولقد جاء رجل إلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه عقوق ابنه فاستدعي عمر الولد وعنفه علي عصيانه لأبيه فقال الولد‏:‏ أليس للولد حقوق علي أبيه؟ فقال‏:‏ بلي‏.‏ قال ما هي‏:‏ قال أن ينتقي أمه ويحسن اسمه ويعلمه الكتاب وينشئه التنشئة الصالحة‏,‏ فقال الولد‏:‏ إن أبي لم يفعل شيئا من ذلك ولم يعلمني من الكتاب حرفا واحدا‏,‏ فقال عمر للرجل‏:‏ جئت تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقك وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك‏.‏

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الرجل الذي راى الغد

والمؤكد هو أن أباك قد عقك قبل أن يخلو قلبك من كل ذرة حب له‏,‏ وأنه قد جني بذلك حصاد ما غرسه في أرضك الصغيرة من الإنكار والمباعدة‏..‏ والتخلي عن كل الواجبات الإنسانية تجاهك‏,‏ لهذا فإن أباك الحقيقي هو هذا الخال الطيب العطوف الذي نهض بمسئوليتك الإنسانية وقام عن أبيك بكل واجباته تجاهك ولم يدخر وسعا في إشعارك بعزتك كابن عزيز له‏.‏

لقد روي أن معاوية بن أبي سفيان غضب يوما علي ابنه يزيد‏,‏ فأرسل إلي الأحنف بن قيس ليسأله عن رأيه في الأبناء فقال له‏:‏ هم ثمار قلوبنا‏,‏ وعماد ظهورنا‏,‏ ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة‏,‏ فإن طلبوا فاعطهم‏,‏ وإن غضبوا فارضهم‏,‏ فإنهم يمنحونك ودهم ويحبونك جهدهم ولا تكن عليهم ثقيلا فيملوا حياتك ويتمنوا وفاتك‏.‏
وأبوك أيها الشاب لم يكن لك أرضا ذليلة ولا سماء ظليلة بل كان شجرة جرداء بالنسبة لك لا ظل لها ولا ثمر‏,‏ فبأي شيء يستحق الحب‏,‏ ولا أقول البر به‏,‏ لأن البر به بمعني حسن المصاحبة إذا احتاج إليك ذات يوم واجب أخلاقي وديني تؤديه رعاية لربك واحتراما لنفسك أنت وليس لأي شيء آخر‏.‏

ثم أليست هذه إشارة من السماء أن تجمعك الأقدار بشريكة حياة تجرعت نفس الكأس المريرة من نبذ الأب لها وتخليه عنها ومباعدته لها؟ لقد جمعتكما الأقدار لكي تتشاربا كؤوس العطف والحب والتراحم التي حرمتما منها من أبويكما ولكي يأسو كل منكما جراح الآخر ويعوضه عن إحساسه المؤلم بالهوان علي أبيه‏,‏ ويصبح تعويض السماء له عن كل الأحزان‏.‏ فاسعدا بحياتكما معا وتكاتفا في مواجهة الأيام واغمرا أبناءكما حين يجيئون من عالم الغيب بالحب والعطف والحنان والرعاية والاهتمام‏..‏ ليخرجوا إلي الحياة أبناء أسوياء عطوفين بررة بأبويهم‏..‏ وأوفياء لكل القيم والمعاني الجميلة في الحياة‏..‏ وهذا هو درس الألم الذي ينبغي لكما أن تستفيدا به في رحلة الأيام‏..‏ والسلام‏.‏

من أرشيف جريدة الأهرام

 نشرت سنة 2004

مقالات ذات صلة