أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

الفراش الخالى .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أنا أم أخطأت وأريدك أن تنشر رسالتي لكي تتعظ بها كل أم .. فلقد كنت زوجة لرجل ممتاز لا يحرمني من شئ, وأما لولدين وبنتين, فدخل بيننا “شخص” ففقدت زوجي وتم الطلاق بعد أيام عصيبة دفعت ثمنها غالياً من صحتي ونفسي وأعصابي, ومع ذلك فليست هذه هي المشكلة الأساسية, لكن المشكلة هي ابنتي وكبرى أولادي, فبسبب الآلام النفسية الرهيبة التى عانيتها من زوجي فى الأيام الأخيرة قبل الطلاق, وعكست كل ذلك على ابنتي الكبرى وأسأت معاملتها إلى درجة لا أتخيلها ..

فإذا سألتني ولماذا ابنتي هذه بالذات, فسأقول لك إنها كانت صديقة أبيها وكاتمة سره, وبعد الطلاق وجدت نفسي بغير أن أحس أريد الانتقام من أبيها فيها .. فأصبحت أسئ معاملتها وأتعمد إيذاءها بشتى الطرق .. فوضعت مسئولية كل الأعمال المنزلية عليها دون أخوتها ..

وأصبحت أشترى لهم الملابس الجديدة ولا أشترى لها شيئاً .. وحرضت أخوتها على أن يعاملوها كأجيرة تعمل فى البيت, وليست كأختهم الكبرى التي ينبغي أن يحترموها .. حتى اعتادوا نفسيا على أن يعاملوها كخادمة, وأن يسبوها إذا لم تحضر لهم الطعام, فإذا شكت لى فلا أنصرها ولا أنهر إخوتها وإلى جانب ذلك كنت أتعمد مضايقتها, فإذا رأيتها واقفة أمام المرآة كأي فتاة فى سنها, أطريت  على جمال أختها وبالغت فى ذلك, إلى حد أن أقول لها إن الله قد وضع الجمال كله فى أختها وحرمها منه ..

حتى كفت عن الوقوف أمام المرآة وعن الاهتمام بنفسها وتحطمت نفسيا تماما .. ومع ذلك فقد كان كبرياؤها يمنعها من البكاء فلا تبكى, وإنما تنظر صامته ومكتئبة ولا تجيب, ومع تكرار إيذائي لها كفت تمام عن الضحك والابتسامة, فلم أرها ضاحكة مرة واحدة طوال العامين الأخيرين. وليتني اكتفيت بكل ذلك وهو كثير لكنى لم أكتف للأسف .. فقد كانت لها صديقات فرويت لهن أكاذيب عنها وحرفت بعض الموضوعات عنها فتركنها, إلى أن وقعت الواقعة منذ حوالي شهرين حين ضربتها وضربها أخوها أمام الجيران, فلم تبك أيضا ولم تدمع .. لكن حزن الدنيا كله كان فى عينيها, ثم انتهت الزوبعة ودخلت غرفتها ..

رائج :   البدر .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

ودخل إخوتها أسرتهم ودخلت سريري وضميري يؤرقني لأول مرة منذ 3 سنوات بسبب سوء معاملتي لها, فاستيقظ فى قلبي العطف عليها وأنا أستعيد صورتها وهى تتلقى الضرب ولا تدافع عن نفسها ولا تبكى رغم تألمها الشديد .. ولعنت نفسي ولعنت الشيطان الذى أعماني عن أنها كانت دائما أكثر أبنائي حنانا بىٌ وبإخوتها, ودائما تخاف على وتخدمني بإخلاص حين أمرض .. ولا تخص نفسها بشئ دون أن تعطيني وتعطى أخوتها منه, وأدركت مدى غفلتي وحمقى حين أردت أن آخذها بذنب أبيها ولا ذنب لها فيما جرى أو حدث .. فعزمت على أن أصالحها وأسترضيها وأعيد لها احترامها بين أخوتها .. ولم أهدأ إلا حين استقر رأيي على ذلك فاستغفرت الله ونمت.وفى الصباح نهضت من نومي ودخلت الغرفة التى تنام فيها مع أختها لأصالحها فوجدت فراشها خاليا, وبحثت عنها هنا وهناك فلم أجدها, فعرفت أن ما لم أحسب له حسابا أبدا قد حدث وأنها غادرت البيت إلى غير رجعة.

إنني أكتب لك الآن وقد مر شهران على غيابها عنا, لم نكف خلالهما أنا وأخوتها عن البحث عنها بلا جدوى. وأنا نادمة وأخوتها نادمون ويقاطعونني .. فإذا تحدثوا معى قالوا لى إن الله لن يغفر لى ما فعلته بها. وأنا أكاد أجن وصورة وجهها الحزين الذى لا يبكى ولا يضحك أبدا تتراءى أمام عينى كل لحظة .. وفراشها الخالي يذكرني بكل ما فعلت وما أجرمت فى حقها, وقد انتابتني أمراض الدنيا كلها منذ خروجها.

رائج :   قصة رائعة .. رسالة تحت رغيف الخبز

لقد كانت تقرأ لك وهى تتحمل إيذاءنا لها وتحترم آراءك وتتصبر على حالها بما تقرؤه من مآس فى بريدك, فهل تكتب إليك كلمة ترجوها فيها أن تعود إلى أسرتها النادمة على ما فعلت والحزينة لفراقها .. إنني أرجوك أن تفعل رحمة بأم نادمة تتعذب.

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

هذا هو حالنا فى معظم الأحيان نحن البشر .. نقسوا على من يحبنا ويترفق بنا ويؤثرنا فى يده, حتى إذا فاض إناء الصبر وفارقنا, عرفنا كم كان رحيما بنا وكم هو عزيز علينا.

لقد كانت فتيات كثيرات يكتبن إلى يشكون من تصرفات شبيه بما كنت تفعلين بابنتك الكبرى .. فكنت أتشكك فى صدق شكواهن, وأرجع معظمها إلى الإفراط فى الحساسية من جانبهن, وأرفض أن أصدق بسهولة أن أماً سوية يمكن أن تتعمد إيذاء مشاعر ابنتها وتحقيرها بين أخوتها .. وافقدها ثقتها بنفسها إلى هذا الحد المزري .. لكن رسالتك أضافت إلى خبرتي بالحياة الجديد .. وما أكثر ما نتعلم وما نعرف كل يوم من خبايا جديدة للنفس البشرية.

يا سيدتى إن الإنسان قد يخطئ وكثيرا ما يفعل, لكنه رغم ذلك قد لا يكون مذنبا إذا أخطأ بغير عمد لما فعل, أما من يخطئ عمدا وعن وعى تام بما يفعل فهو المذنب حقا .. وهو من لا يطهره من إثمه إلا الندم الصادق والاستغفار وطلب العفو والسماح ممن أخطأ فى حقهم. والكارثة أن بعض الآباء والأمهات يتصورون أن الله يحاسب الأبناء على عقوق الأبوين ويعجل لهم بالعقاب عنه فى الدنيا مع ما يدخره لهم من عقاب فى الآخرة, لكنه لا يحاسب الآباء والأمهات عما يفعلون بأبنائهم ولو أجرموا فى حقهم مع أن الله جل شأنه يحاسب الآباء والأمهات أيضا عن إيذائهم لأبنائهم والقسوة عليهم والتفرقة بينهم, كما يحاسب الأبناء الضالين على عقوقهم. ولعل عقاب الأبوين أشد لأنه لا عذر لهم من طيش أو رعونة, فلعلك قد عرفت يا سيدتى واستغفرت ربك عنه طويلا.

أما ابنتك صاحبة الوجه الحزين الذى لا يعرف الضحك واستعذبت ماء بكائها طويلا لكنها ضنت عليك بأن تشهدي دموعها فقد كانت تعي تماما أنك تنتقمين من أبيها فى شخصها, فآثرت أن تحجبها عنك وتحرمك منها وقلبها يتمزق ألما.

على أية حال فإني أستجيب لرجائك .. وأخاطب ابنتك الطريدة لا المهاجرة من بيتك .. لأنها طريدة رحمتك وعطفك وحنانك وعدلك بين أبنائك .. وأقول لها إننا لا نملك رغم كل شئ أن نعامل أبوينا بمبدأ العين بالعين والسن بالسن, لأننا مأمورون بأن نصاحبهم فى الدنيا معروفا ولو آذونا وتعمدوا إيذاءنا, وحسابهم عنا مع خالقهم وليس معنا, وأمك قد ندمت على ما بدر منها وأكاد أجزم لك بذلك من إحساسي بكلماتها .. والإنسان بلا أهل كالسفينة التى تتقاذفها الأمواج فى بحر هائج بلا مرفأ تأوي إليه, وهم أعزاء لدينا وإن جاروا علينا وباعدونا بغير ذنب جنيناه .. فما بالك بحقهم علينا بعد أن عضهم الندم بأنيابه على ما فعلوا بنا؟

عودي إلى أمك يا آنستي وإلى مرفئك .. واقبليني إذا شئت حكما بينك وبينها, وشاهدا على حسن معاملتها لك فى قادم الأيام وليعف الله عن خطايانا أجمعين

من أرشيف جريدة الأهرام

 نشرت سنة 1990

رائج :   خيوط الألم ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

Related Articles