أجمل رسائل بريد الجمعة

القرار السليم ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أنا رجل أعمال شاب تعرفني شخصيا لأنني قد تعاونت معك من قبل في موضوع قديم من موضوعات بريد الجمعة, لكن ظروفي الآن تحول بيني وبين ذكر اسمي,

وقد دفعني للكتابة إليك ماقرأته في بريد الجمعة من رسالة الزوجة الشابة التي انفصلت عن زوجها الذي تحبه ويحبها بسبب عدم قدرته علي الإنجاب, وإحساسها بالندم علي ذلك, ورغبتها في العودة إليه, وقد كان يحبها بإخلاص ويحسن معاملتها, ولقد رددت عليها ونصحتها مادامت ترغب في العودة إليه, بالاعتذار له عما آلمته به تمهيدا لاستئناف حياتهما معا, ولقد أثارت هذه الرسالة شجوني.

فلقد افاء الله سبحانه وتعالي علي بكل النعم, من مال ونجاح كبير في الحياة العملية, إلا ان حكمته جل شأنه قد رأت أن تحرمني من نعمة البنين, واكتشفت ذلك أخيرا حين تأخرت زوجتي في الحمل واضطررنا لعمل التحاليل اللازمة فجاءت نتيجتها بهذه الحقيقة المؤلمة,

وأنا رجل مؤمن بالله وراض بقضائه إلا أنه تواجهني عدة مشكلات لا أدري لها حلا, أولاها أنني أشعر بأنني أظلم زوجتي باستمرارها معي بالرغم من أنها مصرة علي الحياة معي وتري أنني لم اقصر في حقها وأرعي الله فيها وفي كل من هم حولي, وتري كذلك أن هناك أملا في الشفاء, وهو من عند الله سبحانه وتعالي دائما, لكني بمنطق رجل الأعمال أري أن النهاية آتية لا ريب فيها وأنها لن تستطيع تحمل الحرمان من الولد إلي النهاية خاصة مع إنجاب صديقاتها وزميلاتها, ونظرات الأقارب المتسائلة عن سر عدم الإنجاب,

ومن هذه المشكلات أيضا أنني لم أستطع حتي الآن ولا استطيع مواجهة أبي وأمي بهذا الابتلاء خاصة انهما في حالة صحية لا تسمح لهما باحتمال هذه الصدمة, ومنها ماسبق ان أشار إليه بعض المبتلين بمثل هذا الحرمان وهي في رسائلهم إليك وهو نظرات الناس من حولي وتساؤلاتهم لماذا لم تنجب حتي الآن وقد أفاء الله علينا بأكثر مما نستحق من نعم, وهي تساؤلات لا جواب لها عندي,

أما المشكلة الأخيرة فتتعلق بي شخصيا, فلقد أصبت بحالة احباط شديدة عند علمي بهذه الحقيقة المؤلمة, وأشعر الآن انني قد فقدت الحافز للحياة وبأنه لا معني للسعي والعمل ولا لهذه المشاريع والأعمال التي أديرها, فهي لم تذهب لأحد من بعدي, وأبي وأمي لديهما مايكفيهما فلمن أعمل إذن وأكدح وأسعي إلي التوسع والنمو ؟

إنني لا أجد داعيا للعمل وبالتالي إلي الحياة ولا حتي للخروج من باب البيت, ولقد وجدت سلواي في الصلاة وقراءة كتاب الله, آملا أن يلهمني الله سبحانه وتعالي الصبر والقرار السليم بشأن حياتي الخاصة, ذلك أنني أري أننا يجب أن ننفصل أنا وزوجتي الحبيبة حتي لا نصل إلي المرحلة التي وصلت إليها الزوجة الشابة في الرسالة المشار إليها حين طلبت الطلاق من زوجها وأصرت عليه بالرغم من دموع زوجها وتوسلاته إليها الا تتركه, ولكي اقطع دابر الأسئلة الحائرة من حولي,

لكني لا أجد في نفسي الشجاعة لأن أخبر زوجتي برأيي هذا, كما أري أنني يجب أن أصارح عائلتي ومن حولي بهذه الحقيقة المؤلمة لكني أيضا لا أجد الشجاعة الكافية لذلك, وأنا أؤمن دائما بصواب رأيك, لكني لا اتفق معك في نصحك لهذه الزوجة بالاعتذار لزوجها والعودة إليه, لأنها لو اعتذرت ورجعت المياه إلي مجاريها بينهما فسوف يغلبها الحنين إلي الأطفال, ويتكرر ماحدث بينهما مرة أخري, وأري لها أن تترك زوجها لأقداره لأن اليأس إحدي الراحتين, ولا داعي لنكأ الجمار مرة أخري, إنني انتظر رأيك فيما يواجهني من مشكلات, وأرجو تجنب الإشارة الي أي شيء تفلح معه الاستنتاجات في التعرف علي شخصيتي راجيا من المولي عز وجل أن يلهمكم الصواب دائما, وان نتعاون مستقبلا في أية مشاكلات تخص اخواننا من قراء البريد.

رائج :   الرهان الخاسر ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

حين يصطدم الإنسان بإحدي حقائق الحياة المؤلمة, ويتطلب منه الأمر اتخاذ قرار مصيري بشأنها, فإن أفضل مايفعله هو أن يؤجل اتخاذ هذا القرار بعض الوقت, إلي أن يستعيد توازنه الذي زلزلته هذه الحقيقة نفسها, ويتاح له الوقت الكافي لكي يبرأ من أثر الصدمة القاسية ومما اصابه من إحباط وقنوط ويأس انفعالا بها. ذلك ان أسوأ مانفعله بحياتنا هو أن نتخذ القرارات المصيرية بشأنها ونحن في قمة تأثرنا وتشوش أفكارنا وانفعالنا بما لا يرضينا من حقائق الحياة المؤلمة.

وأنت ياصديقي في بؤرة تأثرك بما اكتشفت من عدم قدرتك علي الإنجاب في الوقت الحالي, وتستوي لديك الآن كل الأشياء, وتشعر بعدم جدوي الحياة والحب والعمل والكفاح والعلاقات الإنسانية, وفقدت حتي الرغبة في مجرد مغادرة البيت ومواصلة الاشتراك في مباراة الحياة, وتقبل هزائمها والانتشاء بانتصاراتها.. فكيف تكون صالحا وأنت في هذه الحال من الضعف النفسي واليأس والضغط لاتخاذ قرار قد تتأثر به حياتك سلبا أو إيجابا إلي نهاية العمر, انكم في دنيا الأعمال والإدارة تقولون ان القرار الخاطيء الذي تكون له دائما أوخم العواقب هو القرار الذي يتخذه صاحبه انفعالا بموقف طاريء, أو تحت ضغوط نفسية قاسية لا تتيح لصاحبه صفاء التفكير والتجرد من المؤثرات الشخصية, أو بناء علي معلومات ناقصة أو خاطئة.

وقرارك الآن سوف تجتمع له كل أسباب الخطل اذا اتخذته علي الفور لأنك أولا في قمة انفعالك الحزين بما عرفت عن نفسك, وتقع تحت ضغوط نفسية قاسية, ولا تتوافر لك كل الحقائق اللازمة لاتخاذ القرار الصحيح, وأبسط دليل علي افتقادك لها هو أنك لا تضع اختيار الطرف الآخر المعني بهذه المشكلة لحياته في الاعتبار وهي زوجتك, وترجم بالغيب فتقرر انها لن تحتمل الحياة بدون إنجاب إلي مالانهاية, وسوف تعمل معك إلي النقطة التي تشفق علي نفسك منها وتطلب ذات يوم الانفصال عنك,

وكل ذلك ليس هناك مايؤكده أو يجعل منه أمرا غير قابل للمناقشة, فشريكة حياتك ـ كما تقول أنت نفسك ـ ترغب في استمرار الحياة معك وتري أنك ترعي الله فيها ولا تقصر في حقوقها, والزوجة التي كتبت لي الرسالة وتتخوف من أن تصل شريكة حياتك ذات يوم إلي مثل موقفها حين طلبت الطلاق, هي نفسها الزوجة التي ندمت علي هجرها لزوجها وكتبت إلي ترجوني مناشدته أن يعيدها لعصمته بعد أن عرفت عن نفسها أنها لا تحتمل الحياة بعيدة عنه. فإذا كنت تستشهد بموقفها في طلب الانفصال كدليل مؤكد علي عدم قدرة شريكتك علي احتمال الحياة معك بدون إنجاب إلي مالانهاية, فكيف غاب عنك موقف هذه الزوجة نفسها حين ندمت علي تسرعها وافتقدت شريك حياتها المحب ورغبت في العودة إليه والحياة معه بغير إنجاب ؟

لقد أثرت تأملاتي بحديثك عن عدم جدوي العمل والمال وليس هناك من سوف يرثه عنك, لكني أقول لك ياصديقي إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون, وأنت والحمد لله رجل مؤمن بالله سبحانه وتعالي ورسله وكتبه وبقضائه وقدره خيره وشره, فكيف تقنط من رحمته إلي هذا الحد ؟

إن في الحياة رجالا ونساء شاءت لهم أقدارهم أن يحرموا من الإنجاب فازدادوا عطفا وتمسكا بشركائهم وتعزوا عما افتقدوه بجوانب حياتهم الأخري, وبالحب الصافي الذي يتشاربونه مع شركاء العمر وبالعطف المتبادل بينهم, وعرفوا أنه لا يربط بينهم سوي الحب الصادق فحرصوا عليه ورووا أشجاره .. فأثمرت ثمارها الطيبة في حياتهم, وفي الحياة أيضا من اكتشفوا مثل هذه الحقيقة عن أنفسهم في بداية زواجهم فلم ييأسوا من رحمة ربهم,

و صبروا علي أقدارهم, وواصلوا السعي وطلب العلاج بلا كلل سنوات بعد سنوات, فمنهم من أنجب لأول مرة بعد زواجه بـ 12 أو 15 عاما, ومنهم من شعر بالرضا عن أقداره لأنه لم يقصر في طلب العلاج, واتسع قلبه لرعاية طفل محروم أو تعوض عن حرمانه بان اعتبر أبناء الأشقاء والشقيقات أبناءه وفاض عليهم قلبه بحبه وحنانه.

إنني أخشي أن أقول لك إنك بما تراه من ضرورة الانفصال عن زوجتك بعد أسابيع قليلة من اكتشاف عدم قدرتك علي الانجاب وبغير كفاح طويل ومر يتطلب الشفاء, أخشي أن أقول إنك إنما تخشي علي نفسك أنت من اللحظة التي يشتد فيها حنين زوجتك للأطفال فتطلب منك الانفصال, أكثر مما تشفق عليها هي من حياتها معك بغير إنجاب وفي ذلك فانك ستكون ظالما لها باقصائها عن حياتك علي غير رغبتها بدعوي أنك تطلب لها الأفضل علي المدي البعيد حتي ولو تألمت لبعض الوقت لانفصالك عنها, ولن تكون ظالما لها علي العكس من ذلك حين تواصل حياتك معها بناء علي رغبتها واختيارها الحر, حتي ولو عانت داخليا مما لا مفر من معاناته في مثل هذه الحالة.

إننا في بعض الأحيان قد نتخذ من القرارات ماهو أكثرها أنانية.. ونحن نتوهم أننا إنما نقدم بها التضحية لمن يستحقون التضحية من أجلهم, ونصيحتي لك في النهاية هي أن تؤجل اتخاذ أي قرار بشأن حياتك الشخصية إلي أن تستعيد صفاء الذهن وحماسك للحياة والأشياء من جديد, والا تنفرد بإتخاذ هذا القرار دون شريكتك في الحياة بدعوي التضحية بسعادتك في سبيل سعادتها. فالسعادة أثمن من أن يضحي بها المرء بمثل هذه السهولة. ومنطق رجال الأعمال الذي تري به ان النهاية آتية لا ريب فيها, لا يصلح للتعامل مع هذه المشكلة, لأنه منطق لا قلب له ويعتمد علي الحقائق المجردة والأرقام الصماء وحدها, وحياتك وحياة زوجتك وسعادتكما إنما تحتاج إلي منطق الحب والعطف والتضحية الحقيقية وليست الموصومة.. للتعامل معها.

فأما اشفاقك علي أبويك من إبلاغهما بما تعانيه في مشكلة الإنجاب, وتساؤلات الآخرين من حولك, فالحق هو إنك لست مطالبا بتفسير أي شيء في حياتك الشخصية لآخرين فيما عدا والديك اللذين يهتمان بأمرك وصهريك اللذين يهتمان بأمر زوجتك, وماأسهل أن تتلطف في إبلاغ أبويك بأنك تواجه بعض المشكلات الصحية في الإنجاب لكنك تطلب العلاج بجدية وتأمل في الشفاء ذات يوم قريب بإذن الله, وان تفعل زوجتك نفس الشيء مع أبويها.. ثم تغلقان باب التساؤل بعد ذلك أمام الجميع وتواصلان حياتكما في أمل لا ينقطع في رحمة الله..

وتخرج أنت من قوقعتك وتستعيد حماسك للحياة, وتؤمن بما أمرنا به الهادي البشير صلوات الله عليه وسلامه, من أنه إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها في الأرض طلبا للخير للآخرين ولو كانت الآزفة علي الأبواب فإذا كنت تتساءل عن جدوي العمل والتوسع والمال وليس هناك من يرثه, فإني أقول لك إن الشجرة الوارفة يستفيد الآخرون بظلها ولا تستفيد هي منه شيئا.. ولهذا يفضلها الجميع علي الشجرة الجرداء ويخصونها بحبهم واعتزازهم, وكذلك الإنسان حين يمتد ظله علي الآخرين ويحميهم من لهيب الشمس ويهييء لهم اسباب السعادة, ويسعد نفسه وشركاء حياته وكل من حوله.

Related Articles