من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أنا سيدة فى الخامسة والثلاثين من عمري، تعرفت على بابك منذ سنوات طويلة، وقد قرأت رسالة ” القلب البارد ” للرجل متوسط العمر، الذى تمردت عليه زوجته، وارتبطت بغيره، رغم كل ما أحاطها به من حب ورعاية طوال زواجهما، وكيف حصلت على الطلاق منه، وتزوجت غيره ، وتركته يعيش وحيدا يجتر أحزانه وذكرياته ، وأرسلت إليه زوجها الجديد ليفاوضه بقلب بارد فى أن يدع طفلته الوحيدة منها معها، لتحظى برعاية، وأنس صحبة ” الأطفال ” الجدد، الذين سينجبهم منها ! وأريد أن أروى لهذه الزوجة – بالذات – قصتي، أو قصة والدتي على وجه التحديد مع الزمن ، لعلها تستفيد منها .
لقد سافر أبى إلى مدينة الإسكندرية ، وهو فتى صغير فى السابعة عشرة من عمره ليلتحق بجامعتها بعيدا عن الأهل و الأسرة ، فكان يتردد بانتظام على مطعم صغير ، يقدم وجبات رخيصة للطلبة ، وحين بلغ السنة الثالثة من دراسته الجامعية ، رأى بهذا المطعم فتاة صغيرة فى السادسة عشر من عمرها ، تعمل على الكيس، وتعرف عليها، و انشغل فكره بها طوال الإجازة الصيفية ،
و هو مع أسرته ، إلى أن رجع مع بداية العام الدراسي الجديد ، وصارحها بحبه ورغبته فى الزواج منها ، وتزوجا ، وهو طالب بالبكالوريوس فى الحادية والعشرين من عمره ، وهى فى السابعة عشرة من عمرها ، وبغير أن يعرف أهله، وأقاما فى شقة من غرفة وصالة ببيت متواضع، ومنعها أبى من العمل بالمطعم لترعى بيتها ، وراح هو يدرس فى النهار ويعمل فى المساء، ليستعين بدخله من العمل على إعالة زوجته، بجانب ما يتلقاه من أهله من مصروف شهري .
وبعد ثلاثة شهور فقط من الزواج، حملت أمي بى، وأنجبتني بعد عام من الزواج، وتخرج أبى فى كليته بتقدير امتياز، وعمل عملا مناسبا بمرتب جيد، و أنجب طفلة وطفلا آخرين ، وواظب خلال ذلك على السفر إلى أهله، كل صيف، دون إبلاغهم بأمر زواجه، إلى أن صارحهم به بعد خمس سنوات كاملة من الزواج، وبعد أن كان قد أنجب طفلتين وولدا، وفوجئت الأسرة بذلك، و لم تملك إلا الاعتراف بالأمر الواقع .
ثم لاحت لأبى بعد ذلك فرصة للإعارة إلى دولة خليجية صغيرة، فتقدم إليها، و سافر للعمل إلى هناك، و لم يلبث أن استدعانا إليه، و بدأنا حياتنا معا فى الغربة، وعمري 4 سنوات، وواصل أبى عمله باجتهاد فى هذه الدولة، و تدرج فى العمل حتى أصبح مديرا بإحدى الشركات، وواظب على العودة مع أمي ، كل صيف لقضاء إجازة الصيف بالإسكندرية بالقرب من أهله .
و بعد تسع سنوات من الغربة، اشترى شقه لنا بالثغر، وسجلها باسم أمي ، لكى نرجع إليها فى الإجازات، و كنت قد بلغت الثالثة عشرة من عمري، حين بدأت أسمع أمي تتجادل بعنف مع أبى، و تقول له أمامنا إنها تكرهه، و تريد الطلاق منه لترجع إلى مدينتها، و تتزوج غيره و تتركنا له، و فوجئت أنا بهذا التهديد، و أحسست بصورة أمي تهتز قليلا فى مخيلتي ، و مع ذلك فلقد استمرت الحياة بينهما، واشترى أبى بعد سنوات شقة أخرى بالقاهرة ، و سجلها أيضا باسم أمى .. و بعد شرائها عاودت أمي لهذا الحديث الثقيل نفسه عن الطلاق ، و تركنا له .. إلخ
و سممت حياتنا بالنكد كل يوم، و أبى صامت صابر لا يتكلم ، و يأمل فى استمرار الحياة معها حتى لا نتشتت بينهما، وكمحاولة جديدة منه لإرضاء أمي، راح يغدق عليها الهدايا والمجوهرات ، وسعى لأن يؤمن لها حياتها ومستقبلها ،فاشترى بيتا من ثلاثة أدوار بمدينة نصر، و سجله باسمها أيضا، فأصبحت مالكة لعمارة صغيرة من تسع شقق وشقتين أخريين .. إلى جانب ما ترجع به إلى مدينتها كل صيف من مدخرات، تضعها بالبنك، و تعود مع نهاية الصيف لتجمع غيرها ! إلى أن عدنا للإسكندرية ذات صيف منذ سنوات .
ولاحظت أن شقيقي الأصغر قد بدأ يتأخر فى العودة للبيت فى المساء، و أنه يتحدث كثيرا بصوت خفيض فى التليفون فدفعنى الفضول وقتها لأن أسجل له مكالماته، لأعرف مع من يتحدث، و برمجت آلة التليفون ” الأنسر ماشين ” على التسجيل، و انتظرت حتى نام الجميع، و أدرته لأكتشف سر شقيقي ، فإذا بى أسمع مكالمة بين أمي و رجل متزوج يكبرها بعامين، كان يعمل معها بالمطعم القديم و يعاتبها، لأنها تخلت عنه ، و تزوجت ذلك الطالب الجامعي الذى أغراها ،
وذهلت و أنا أسمع أمي تعتذر له بصغر سنها وقتها ، و تقول له إنها تكره أبى، بل و تكرهنا أيضا، نحن أبناءها ، لأننا من صلبه، و تصف أبى بأنه جاف المشاعر، وكيف أنه طوال حياته معها لم يقل لها مرة واحدة كلمة : أحبك، أو يا روحي ، أو يا حياتي ، كما يقول لها هذا الرجل .. إلخ .
وصعقت حين سمعت ذلك، و انهرت باكية وساخطة ، على أمى ، التى كانت فى الثالثة و الأربعين من عمرها فى ذلك الوقت ، وتتحدث مع رجل غريب ، وعلى هذا النحو، و تسب أبى وتسىء إليه وإلينا ، وحرت ماذا أفعل ! هل أصارح أبى بما عملت ، و تتهدم الأسرة و يتمزق الأبناء ؟ .. أم أن أنطوى على سرى و أسكت، و ابتلعت قهري وغيظي وصمت ،
و لكنى بدأت أصحو من نومي فى الليالي التالية مفزوعة و باكية ، حتى صممت على ترك الإسكندرية ، والعودة إلى القاهرة مهما كانت الظروف، و تشاجرت أمي معي، واتهمتني بالأنانية لأنني أريد حرمانها من الإجازة بمدينتها، وضربتني وعمري عشرين سنة، حتى كدت أنفجر فيها ، و أعلنها بما عرفت عنها . ولكنى لزمت الصمت المقهور، حتى وهى تسبني وتستثيرني طوال رحلة السيارة من الإسكندرية للقاهرة .
ولأنني أدركت أن الصلة بينها و بين ذلك الرجل لن تنقطع بمغادرتنا للثغر، فقد برمجت أيضا جهاز التليفون بشقة القاهرة على تسجل المكالمات، وسمعت ونحن فيها ما أتقزز منه ، حين أتذكره الآن .. سمعتها وهى تسبني فى التليفون فى حديثها مع هذا الرجل، لأننى أجبرتها على العودة من الإسكندرية ، و كيف مازالت تسترجع ذكرى اللحظات الجميلة السعيدة معه … إلخ .
و انتهت أجازتنا الصيفية ، ورجعنا للدولة الخليجية ، وأمى تضمر الشر والنكد ، وتريد الطلاق بإصرار كما أوصاها بذلك الطرف الآخر، وأبى يلاطفها و يراوغها لكي ترضى و تستمر طوال عامين كاملين، و خلال ذلك كنت قد تخرجت و تقدم لى أكثر من شاب ، ولم تتم الخطبة ، فإذا بأمي تعايرني بذلك ، و تقول لى إنها حين كانت فى مثل سني ، كانت قد تزوجت وأنجبت طفلين ، و” تبشر ” أبى بأن بناته سوف يصبحن عوانس بإذن الله ، وأنه سوف يرى فيهن كل ما لا يحب أب أن يراه فى بناته ! ثم ترجع للحديث من جديد عن الطلاق و تطلبه بإصرار .
وتوالت المشاحنات و المشاجرات بينهما، إلى أن تم الطلاق فى النهاية ، وحانت ساعة مغادرتها لمسكننا فى الغربة ، عائدة لمصر فحبس أبى نفسه فى غرفته .. وانطوى حزينا و صامتا .. فذهبت إليها فى غرفتها، وواجهتها بكل ما عرفت عنها ، و بأنها لم تحفظ كرامة الرجل، الذى أعطاها كل ما يستطيع ،
ولم تحفظ أبنائها فهددتني وصرخت فى وجهي، وقالت لى إننى قد حصلت على أعلى الشهادات، لكنى لم أحصل على ما هو أهم منها و هورجل يشعرني بأنوثتي، ويظلل حياتي بالحب والاهتمام ، ثم غادرت المسكن بغير أن تصافحني أنا وشقيقتي ، أما شقيقنا فقد كان غائبا لحسن الحظ فى سفر .
وخرجت أمى إلى المطار، وبكينا أنا وشقيقتي بحرقة، حتى جفت دموعنا، وعاش أبى أسبوعا كاملا منطويا على نفسه فى غرفته ، زاهدا فى الطعام والكلام ، يراجع حياته معها ويجد نفسه فى كل مرة غير مقصر معها فى شىء .
نعم لقد كان جاف المشاعر معها، وعصبيا ومتقلب المزاج ، وضربها مرتين طوال 24 سنة من الزواج، حين تطاولت عليه أكثر مما يحتمل رجل، ولكنه من الناحية الأخرى لم يقصر فى حقها كامرأة، وأمن لها الحياة الرغدة والبيت السعيد والأبناء، واشترى لها ” الأملاك ” ، التى كانت تتحدث عنها فى التليفون مع رجلها .. فلماذا فعلت به وبنا ما فعلت !
وجننت أنا وشقيقتي لعزلة أبى واكتئابه ، وصممنا على أن نخرجه من أحزانه ونسرى عنه، و أحطناه بحبنا و اهتمامنا ليل نهار، إلى أن قال لنا بعد أسبوعين من الطلاق إنه قد اكتفى من الغربة بهذا القدر، وآن الأوان له ولنا لأن نرجع إلى بلدنا وأهلنا ، ونبدأ هناك حياة جديدة، وترك أبى كل شىء فى الغربة، ورجعنا ، وعاد أخي من سفره إلينا و صارحناه بكل ما حدث .
وكانت أمى خلال ذلك قد أتمت عدتها ، وتزوجت رجل المطعم القديم، المتزوج من سيدة تصغره ب13 عاما، وله منها أبناء، وأرسلت لأبي وإلينا صورا لها مع زوجها الجديد ، و هما يتعانقان ويتبادلان القبلات السعيدة لكى تزيد من حرقتنا وقهرنا واكتئابنا، و أرسلت أيضا نسخا من هذه الصورة لأسرة أبى،
و كتبت على الصور المرسلة لنا عبارة ” جميلة ” تقول فيها لأبى – لا فض فوها – إن ” بناته ” سوف يبقين إلى جواره طوال العمر دون زواج إن شاء الله ! و جن جنون شقيقي حين رأى هذه الصور، واقسم لينتقمن منها ومن ذلك الرجل ، وخشى أبى مغبة ذلك ، فسعى بكل جهده لإبعاده وحثه على السفر للخارج بكل وسيلة حتى سافر ، وطابت الحياة لأمي مع زوجها الجديد .
ولكن الأقدار شاءت ألا يتحقق سوء ظنها فينا نحن بناتها ، فبعد شهور تقدم لخطبتي مهندس شاب ممتاز، لا أعرفه لكنى قبلت به ، لكي أدخل السرور إلى قلب أبى الحزين وأخوتي ، ولأن الأعمال بالنيات يا سيدي فلقد وجدت فيه خير الرجال و أفضلهم ، وعشت معه حياة سعيدة، وحملت فى طفلي الأول وأنجبته ، قبل أن أتم عاما واحدا من الزواج ، كما تقدم طبيب شاب آخر لأختي الصغرى وتزوجته وسعدت به و سعد بها وخلا البيت على أبى ” فتآمرت ” عليه مع شقيقتي و شقيقي وزوجي وزوجها وشقيقنا المسافر ،و قررنا أن نزوجه على الفور من سيدة ترعاه وتعوضه عما تعرض له ،
ووفقنا الله سبحانه و تعالى إلى فتاة عمرها ثلاثون سنة ، مكافحة لم تتزوج ، لأنها كانت تعول أمها وإخوتها الصغار، وعرضنا عليها أبانا فرحبت به ، وتزوجها وهو فى الثامنه و الأربعين من عمره . فإذا بها فتاة طيبة وصبور، وتسعد بكل ما يقدمه لها أبى ، وها هى الأيام قد مضت يا سيدي، و أنجب مرة أخرى من زوجته الجديدة وأصبح زوجي مهندسا ناجحا ، و زوج شقيقتي طبيبا مرموقا .
وأصبحنا نحن وأزواجنا وأطفالنا قبيلة سعيدة كبيرة ، تتجمع عند أبى وزوجته مساء يوم الخميس من كل أسبوع ، فيسعد بنا وبأحفاده ويضج البيت بالضحك والبهجة والسرور طوال الأمسية ، أما أمى التى باعت كل شىء من أجل أحلام الحب القديم ، فلم يدم زواجها برجلها سوى سبع سنوات فقط ، نجح خلالها زوجها فى تجريدها من كل أو معظم أملاكها ، بعد أن وقعت له على بياض أوراقا ، مكنته من ذلك وباعت شقة الإسكندرية وشقة القاهرة ، وعمارة مدينة نصر ، لكى تسدد التزاماتها له ،
ورجعت من جديد للإقامة بمسكن أمها القديم بالحي الشعبي بالإسكندرية ،وتعيش الآن من عائد مبلغ بالبنك لم ينجح زوجها فى اكتشافه ، ولو كان قد عرف بأمره لاستولى عليه أيضا ، وكانت قد أصبحت فى الخمسين من عمرها ، حين تخلى عنها زوجها ، وصارحها بأنه لم ينقطع عن زوجته الأولى طوال زواجه منها ، لأنها جميلة وأصغر منها ب15 عاما ، فى حين تبدو هى فى هيئة أمه ، مع أنه يكبرها بعامين فقط .
وحين هجرها ذلك الرجل وانفضت الدنيا من حولها ، تذكرت أمى فجأة أن لها أبناء، وأنها تفتقدهم فاتصلت بى ، فلم أرحب باتصالها بى ، ولم أشجعها على تكراره .. ولم أعطها أي بارقة أمل فى إمكان تجدد الصلة بيننا ، وتذكرت حين اتصلت بها شقيقتي الصغرى يوم زفافها ، فقالت لها أمى : أنت لست ابنتي ، وأنا لست أمك .. ووجدتني أردد عليها الإجابة القاتلة نفسها : أنا لست ابنتك .. وأنت لست أمي ! ثم أغلقت الخط !
وأرجو ألا تلمني على ما قلت لها وما فعلت معها ، فلقد وافقني عليه أخوتي، واتفق رأينا على أنها لم ” تتذكرنا ” إلا بعد ضياع كل شىء ، وأنها قد هدمت أسرتها بسبب الكلام المعسول ، الذى ردده لها هذا الرجل ، والذى كانت تفتقده لدى أبى ..
ومازلنا أنا وأختي نتساءل : هل الحب بالكلام فقط أم بالسلوك والتصرف ؟ لقد هدمت أمي أسرتها ، و ضحت بنا لأن أبى لم يكن يجيد حلو الكلام ويردده على مسمعها ، وارتبطت بالآخر لأنه كان يسمعها هذا الكلام المسموم ، فهل الحب بالكلام فقط يا سيدي ؟ لقد مضى على زواجي الآن 11 عاما ، ولم أسمع من زوجي عبارة واحدة من كلمات الحب و الغزل ، ولكنى أشعر بحبه لي و ألمسه فى كل تصرفاته معى ، وأنا لا ألتفت لهذه التفاهات ، فماذا كان يضير أمي لو كانت قد احتضنت أبنائها وزوجها ، وحمت عشها من الخراب ..
ألم تكن تعيش الآن معززة مكرمة بين زوجها و أبنائها و أحفاده ، بدلا من وحدتها وحياتها كمنبوذة من أبنائها الآن ؟ و ماذا جنت الآن من حياتها وتبطرها عليها وعلى أبى وتخليها عنا ؟ ، وماذا قدم لها الكلام المعسول المسموم إلا الخراب و الدمار وضياع ” أملاكها ” ، التى كانت تتفاخر بها على يدى زوجها المخادع ؟
ترى هل نجا هذا الرجل بما فعل بها ؟ أبدا والله فلقد بدد معظم ما استولى عليه من أمي فى علاج ابنه – كما علمنا – من مرض خبيث بالدم ، وفى علاجه هو نفسه من الذبحة الصدرية ، التى تكررت عليه عدة مرات ، بل وأيضا فى علاج زوجته ، التى تعرضت لحادث كبير، فهل أغناه ما استولى عليه من مال سيدة أغراها بخراب بيتها وهجر أبنائها وزوجها ؟
إن كلمتي إلى كاتب رسالة ” القلب البارد ” ، هى ألا يحزن ، و ألا يستسلم للاكتئاب و المرارة لتخلى زوجته عنه و ارتباطها بآخر ، رغم كل ما فعل لكى يرضيها طوال حياتها الزوجية ، لأن الله لن يتخلى عنه ولن يدعها تنجو بما فعلت أو تهنأ به ، ونصيحتي له كلما ضاقت به الدنيا ، هى أن يردد دائما : حسبنا الله و نعم الوكيل، و أن يعمل بنصيحتك المخلصة له ،
و يبدأ حياة جديدة مع أخرى تسعد به و تقدره حق قدره ، كما أوجه كلمتي لكل من يسعى لخراب بيت عامر بالأبناء ، وإغواء أم بالبعد عن أبنائها ، و أقول لهم : اتقوا الله فى زوجات الآخرين وأمهات أبنائهم ولا تزينوا لهن خراب البيوت بالكلام المسموم وأوهام الحب السعيد بعد فوات الأوان ، حتى لا تدفعوا من حياتكم وصحتكم وأمانكم ثمن كل ذلك فى النهاية و السلام ..
و لكاتبة هذه الرسالة أقول (رد الأستاذ عبد الوهاب مطاوع) :
بعض البشر ينطبق عليهم المثل القديم الذى يقول : ” إنهم كالنواتية لا يذكرون الله، إلا ساعة الغرق ! ” فإذا هدأ البحر وزال الخطر ، رجعوا إلى سيرتهم الأولى فى الحياة إلى أن يواجهوا خطر الغرق من جديد ! ” .
ولقد استرجعت فى مخيلتي هذا المثل القديم ، وأنا أقرأ فى رسالتك عن اللحظة التى تذكرت فيها والدتك بعد سبع سنوات أن لها أبناء قد هجرتهم، وعرضتهم لمحنة قاسية بإصرارها على الطلاق من أبيهم ، والزواج من آخر يجيد ترديد كلمات الحب والهيام التى افتقدتها من قبل ، فاتصلت بك بعد أن جردها زوجها من معظم أملاكها و هجرها ، ورجع لزوجته الأولى ،
فشتان ما كان بين حالها وهى فى ذروة غرورها بنفسها وانكفائها على ذاتها ورغباتها و أهوائها حين واجهت شقيقتك الصغرى بالرفض والإنكار، و تبرأت من بنوتها ، وما كان من أمرها وضعفها وهوانها على الآخرين ، حين فقدت كل شىء ، وخلت الدنيا من حولها ، وهجرها من هجرت هى زوجها وأبناءها من أجله .. فإذا بابنتها تصفعها بالعبارة القاسية نفسها ، التى صفعت هى بها ابنتها الأخرى من قبل !
و مع أنى لا أقبل بمنطق المعاملة بالمثل بين الأبناء وآبائهم وأمهاتهم – حتى و لو استسلموا لأهوائهم، وأساءوا لهؤلاء الأبناء أبلغ الإساءة – إلا إني لا أملك فى النهاية إلا أن أقول سوى أنه موقف مكافئ لموقفها السابق منها منكم ، وهى فى غمار غلوائها وانشغالها بذاتها ورغباتها عن كل شىء آخر ، وسوى أنه موقف لا يجافى العدل .. وإن تجافى مع منطق الرحمة الواجبة بين الأبناء والأمهات والأبناء ، صدوعا بما أمرنا الله سبحانه و تعالى من حسن معاملتهم .. فى كل الظروف و الأحوال .
غير أن منطق البشر قد لا يطيق أحيانا مثل هذا التجرد النبيل من مشاعر الغضب والرغبة فى الثأر ، وإذاقة الآخرين مرارة الكأس نفسها التى جرعوها لهم من قبل . وربما نجد بعض تفسير ذلك فى كلمة الأديب العظيم برناردشو : يكون الإنسان فاضلا ، إذا أعطى مجتمعه أكثر مما أخذ منه !
ومغزى هذه العبارة على المستوى العائلي ، هو أن الأبناء ينتظرون دائما من أبائهم وأمهاتهم أن يكونوا من الفضلاء الذين يعطون لمجتمعه الصغير – أي للأسرة – أكثر مما يأخذون منها دائما ! .. وأن يضحوا دائما باعتبارتهم الشخصية لحساب سعادة الأبناء و أمانهم .
فإذا خالف أحد الأبوين ذلك ، وسعى لتحقيق أهوائه ورغباته هو على حساب مصلحة الأسرة والأبناء ، فلقد توقف بذلك عن العطاء للأبناء ، وفضل الأخذ من الدنيا لنفسه ، على أن يعطى هو من نفسه لأبنائه ، وأصبح مدينا مع “مجتمعه” العائلي ، بعد أن كان دائنا ، فلا عجب إذا فقد بذلك بعض ما كان يشعر به هؤلاء الأبناء تجاهه من احترام وولاء و عرفان .
و قد يفسر لك ذلك ما شعرت به من اهتزاز صورة فى مخيلتك ، حين بدأت تلح على أبيك فى الطلاق ، وتنذره بأنها سوف تترك له أبناءه ، لتتزوج من آخر ، ثم توالت الشروخ بعد ذلك على صورة الأم ، حتى شهوتها تماما ، حين اكتشفت أمر علاقتها بالرجل الآخر ، وكراهيتها لأبيك و لأبنائها منه ، وحين لمست أيضا محاولات أبيك الصادقة لاسترضائها ، و الحفاظ عليها وعلى أسرته من الدمار، وكيف لم تنجح فى النهاية فى منع والدتك من الاستسلام لأهوائها ، والارتباط برجلها القديم بغير ما سبب ، سوى ذريعة الكلام الحلو وعبارات الغرام والهيام ، التى لا يجيدها والدك .
ولاشك فى أن موقفك منها كان مقدرا له أن يختلف كثيرا ، لو كانت والدتك قد طلبت الانفصال عن أبيك بعجزها عن احتمال العشرة معه ، أو لاكتشافها للدرس المتأخر ، الذى لا يكتشفه الغاوون أبدا إلا بعد فوات الأوان ، وهو أن حب المراهقة ليس هو الحب الأصيل الحقيقي فى حياة الإنسان ، لأنه هو نفسه يختلف نفسيا وعاطفيا اختلافا كبيرا ، حين يجتاز مرحلة المراهقة وتنضج مشاعره وشخصيته .
أقول إن موقفك منها، كان من الممكن أن يختلف لو كانت قد انفصلت عن زوجها لمثل هذا السبب أو غيره ، وبغير الارتباط وهى زوجة وأم برجل آخر ، وتم انفصالها عن أبيك ، فى إطار الاحترام وبغير هذه الروح العدائية ، التى تعاملت بها مع أبنائها قبل الانفصال ، حتى تنبأت لهن بالبوار والفشل فى حياتهم ، ثم تزوجت بعد ذلك بفترة مناسبة من رجل آخر ، وحرصت على استمرار علاقتها الإنسانية بأبنائها ..
وبذلت كل جهدها لاستمرار التواصل العاطفي بينها وبينهم ، وشاركتهم مناسبتهم السعيدة ، بإحساس الأم التى لا تنقطع صلتها بأبنائها أبدا ، حتى ولو انقطعت علاقتها بأبيهم ، ولكنها لم تفعل ذلك للأسف، وتعاملت معكم بقسوة وجفاء شديد فى المشاعر ، كأنما قد جفت ينابيع الأمومة فى أعماقها تجاهكم، وبلغت الذروة فى الكيد لكم و الرغبة فى إيذاء مشاعركم ، حين أرسلت إليكم صورها مع زوجها الجديد ، وهما يتبادلان القبلات السعيدة ، كأنما تتلذذ بإيلامكم والإساءة إليكم .
لقد أسرفت على نفسها فى ذلك كثيرا .. وجهلت أو تجاهلت عمق الجراح ، التى يمكن أن تدمى بها مثل هذه الصور ، قلب ابن لها فى سن الشباب ، يجفل بطبيعته البشرية من أن يتخيل أمه فى أحضان رجل – أي رجل – حتى ولو كان أباه ، فما بالها برجل غريب ، فلا عجب إذا أن هدد بالنيل منها ، حتى اضطر أبوه لإبعاده .. وأي حمق وأي جهالة – وأي شهوة للانتقام من الأعزاء ، الذين ينبغي أن نترفق بهم ، وليس أن نقسو عليهم على هذا النحو ..
فإذا كنت تسألين بعد ذلك يا سيدتي ألا يغنى التعبير عن الحب بالأفعال .. عن الحاجة إلى الكلام المعسول للتعبير عنه ، فإن جوابي عن تساؤلك ، هو أن للحب وسائل مختلفة وعديدة للتعبير عنه .. أرخصها الكلام .
وإذا كنا نقول دائما إنه من واجب الإنسان تجاه من يحرص عليهم دائما ، أن يقترن تعبيره العملي عن الحب لهم بالتعبير البلاغي عنه بالكلمات أيضا ، فلأن النفس تهفو دائما إلى أن تسمع ما يؤكد لها صدق المشاعر بالكلمات الرقيقة التى تنبه المشاعر .. وتجدد الأحاسيس وترطب الأوقات .. ولكنه لو خير أصحاب القلوب الحكيمة بين التعبير العملي عن الحب بالأفعال و المواقف و التضحيات و الاختيارات .. والتعبير البلاغي عنه وحده ، لما ترددوا فى اختيار الوسيلة الأولى لأنها أصدق تعبيرا بالفعل عن الحب الحقيقي الصادق ، ولأنه ما أسهل الكلام .. وما أصعب العطاء الصادق والتضحيات والأفعال .
ولقد عبر والدك عن حبه لوالدتك بالطريق العملي الصعب ، وعجز عن الطريق الأسهل ، الذى لا يكلفه سوى نسج الكلمات ، فتحولت عنه مشاعر أمك .. إلى غيره ، ” ومنهم من يحب الشر أحيانا و يبغض الخير ” على حد قول أبى بكر الصديق رضي الله عنه و أرضاه .
وعبر زوجها الثاني عن ” حبه ” لها بمعسول الكلام السهل وحده ، وعبر عن استغلاله لها بالطريق العملي الصريح ، فسلبها أموالها وأملاكها و هجرها عائدا إلى زوجته الشابة ، فأى الطريقين تفضل الآن والدتك المهجورة ، ممن هجرت هى أبناءها إليه .
ومتى ينصف الإنسان نفسه من نفسه ، قبل أن ينصفها من الآخرين ، و ينصفهم منه ؟
فأما كلمتك إلى كاتب رسالة ” القلب البارد ” ، فأرجو أن يقرأها و يتعزى بها عن بعض آلامه .. و أما نداؤك إلى الأمهات والرجال ، الذين يغوونهن بالكلام المسموم لهدم أسرة .. وارتشاف الحب و السعادة معهم .. فأضعه تحت أنظارهم وأنظار الجميع ، وشكرا لك على رسالتك المفيدة .. و السلام .
نشرت عام 1996
من أرشيف جريدة الأهرام