أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

الوجه البرئ .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

” نهر الحياة سريع ، ويجرف في طريقه كثيرًا من الآلام والأحزان التي تجمَّدنا أمامها في بعض الأحيان وتخيَّلنا أنها كالجنادل التي لا يزحزحها التيار “.
لست أدري من أين أبدأ قصتي .. هل أبدؤها من حيث بدأت، أم من حيث انتهت ؛ على أية حال فإني سأعود بك للوراء قليلاً لتدرك كل الظروف المحيطة بمشكلتي .. فأنا شاب جامعي قاربت السابعة والعشرين من العمر، نشأت بين أبوين طيبين وأخ يصغرني بأربع سنوات،

ومضت حياتنا في هدوء وسلام، وتقدَّمت في دراستي بلا مشاكل، وسعد أبواي بتفوقي ونجاحي، لكن أخي الأصغر لم تسمح له قدراته – للأسف – بتكرار تفوقي الدراسي، فلم يُثِر أبي – المؤمن بأن لكل إنسان نصيبه في الحياة – مشكلة بسبب ذلك، وإنما واجه الأمر بواقعية وساعد أخي في الالتحاق بمعهد تدريب صناعي، وأكَّد له أن الإنسان يستطيع أن يكون ناجحًا ومحترمًا أيضًا إذا مارس أي عمل يجيده ويتفوَّق فيه .

وتجاوزنا هذا الموضوع بلا منغصات، وسعد أخي بمعهده الجديد ودراسته العملية التي تناسب طبيعته، وتقدَّم فيه، وبلغت أنا السنة النهائية في كليتي العملية وبدأت أستعد لأداء الامتحان، وفجأة تزلزلت حياة أسرتي الآمنة الوادعة بكارثة لم تخطر لأحد على بال واختطف مترو الأنفاق حياة شقيقي الوحيد وهو في السابعة عشرة من عمره في حادث بشع لا أريد استعادة ذكراه، وأصيبت أمي المسكينة بحالة من الذهول والتوهان لازمتها لفترة بعد الحادث المؤلم حتى كانت تطلب مني بعد رحيل شقيقي – رحمه الله – ألا أغلق باب الشقة في المساء بالمفتاح، لأن أخي سيرجع للبيت بعد قليل من عند أصدقائه،

وحين طلبت مني ذلك لأول مرة طفرت الدموع من عيني ونظرت إليها حائرًا ومشفقًا لا أدري بماذا أجيبها، فأنقذني أبي المؤمن بقضاء ربه وأشار لي أن أفعل ما تطالبني به أمي دون كلمة أو إشارة ، فتعوَّدت بعد ذلك كلما “نبَّهتني” إلى عدم إغلاق الباب بالمفتاح أن أستجيب لطلبها وأن أدعو الله في قلبي أن يترفَّق بها .. وقد وقعت الكارثة قبل امتحاني بشهرين، فكدت أحجم عن دخوله، لكني تمالكت نفسي ،

وأشفقت على أبي وأمي من مضاعفة آلامهما، وسلَّمت بإرادة الله – سبحانه وتعالى – وتأقلمت مع الظروف المؤلمة .. بل وشعرت أيضًا بأنني مسئول عن محاولة إدخال البهجة إلى قلبيّ الأم والأب الحزينين، فضاعفت جهدي في الاستذكار وحرصت على إرضاء أمي وتلبية كل رغباتها .. واستجبت لطلبها المؤلم الآخر أن أرتدي ملابس المرحوم أخي وبنطلونه وقميصه المفضلين، لكي تراني في صورته،

وارتديت هذه الملابس رغم ضيقها الشديد عليَّ لكي أسعد قلبها الحزين بأية لمسة سعادة ، وذهبت لأداء الامتحان مرتديًا ملابس أخي الضيقة لأنها طلبت مني ذلك صباح أول أيامه .. وإلى أن بدأت أمي – أعانها الله – تستسلم لقضاء الله وقدره ، وتُسلِّم بأن أخي – رحمه الله – لن يعود في المساء ، ولن يرجع في صورتي مهما ارتديت من ملابسه ، فكفَّت عن ذلك ، وسلَّمت بالواقع المؤلم .

ثم ظهرت نتيجة البكالوريوس، فإذا بي قد نجحت بتقدير جيد جدًا وبترتيب متقدم ساعدني على الالتحاق بوظيفة حكومية على الفور، وكان نجاحي وعملي هو أول بارقة بهجة تدخل حياة أسرتي المظلمة بعد الرحيل، وكنت أنا قد تغيرت كثيرًا بعد حادث أخي ، والتزمت دينيًا وواظبت على أداء فروض ديني ، وراعيت تعاليمه في حياتي الخاصة دون تفريط ولا إفراط أو غلو ، وقد بدأ هذا التغيير في شخصيتي منذ شاركت في كل المراسم الحزينة لوداع أخي .. ومنذ نزلت معه إلى مثواه الأخير ورأيت ضيق هذا المثوى الذي سيحتوينا جميعًا ذات يوم .. كُلاً في موعده المحتوم .

رائج :   شهوة السلطة .. حكم وعبر و نماذج من هنا وهناك

ورضيت أمي عن التزامي الديني وراحت تحثني على الزواج لكي تسعد برؤية وليد لي يعوضها عن أخي الراحل ، وشاءت الظروف بعد ذلك بشهور أن أرتبط بزميلة لي في العمل ، وحدث توافق روحي عجيب بيننا ، حتى شعرت بأن كلاً منا قد خُلق للآخر وحده ، واستشرت أبي وأمي بشأنها ، فرحَّبا بذلك وسعدا بسعادتي ، وحددت مع فتاتي موعدًا لزيارة أهلها ..

وتوجهت إلى بيتها في الموعد المحدد وأنا سعيد ومبتهج ، فإذا بوالدها يقابلني بجفاء شديد ولا يرحب بي ، وانتهت المقابلة بأنه سيبلغني برده بعد يومين . ولم يتأخر رده ، وكان الرفض القاطع لضعف إمكانياتي .. فتألمت لذلك ، وأردت أن يكون ردي على ذلك عمليًا ، وكنت قد ادخرت من حصيلة عملي في الإجازات الصيفية لعدة سنوات ، ومن مرتبي من عملي الحكومي خلال عام ، ومن مساعدات أبي مبلغًا لا بأس به ، فاشتريت شقة جيدة بأحد أحياء القاهرة ، ورجعت إلى والد فتاتي وأبلغته بما فعلت وعرضت عليه أن أقدم شبكة مناسبة بعد بضعة شهور لأني قد استهلكت كل مدخراتي في الشقة ،

فرفض ذلك أيضًا وبشدة ، ومنع ابنته من العمل حتى لا تقابلني وأجبرها على الاستقالة ، واحترنا ماذا نفعل .. وتواصل الوسطاء بيننا .. ورفضت أية فكرة لأن أرتبط بها على غير إرادة أبيها ، أو أعرِّضها لغضب أسرتها عليها .. ورجعت للأب مرة ثالثة مناشدًا إياه الرحمة بنا والاستجابة لرغبتنا ، فرفض بإصرار واتهمني بأنني أجريت لابنته غسيل مخ لإقناعها بي ، وأنه لن يوافق على زواجها مني مهما فعلت ؛ لأنني غير جاهز وغير قادر على مطالب الزواج .

وبعد المرة الثالثة هذه وجدت أنني تحملت من إهانة الرفض الجارح ومن الجفاء الشديد في المعاملة ما يكفيني ، فاستسلمت لليأس .. وازددت يأسًا حين علمت أن عريسًا شابًا جاهزًا قد تقدَّم لفتاتي وأنه عائد من الغربة ومستعد بكل الإمكانيات ، وأنه قوبل بالترحيب من اللحظة الأولى .. وعُقدت مقارنة ظالمة بينه وبيني في بيت أسرة فتاتي ، فوجدت الأسرة أنه لا وجه للمقارنة بين هذا الشاب الجاهز الكامل وبين ذلك الشاب “الحالم” الذي ما زال يبدأ أولى خطوات الرحلة الطويلة ، وراحت الأسرة تضغط على فتاتي لقبول الشاب الآخر اللائق والذي لا يمكن رفضه ، وبدأ نداء العقل يفعل فعله فيها .

وفي هذه الظروف جاءتني فرصة للعمل بإحدى الدول العربية عن طريق قريب لي يعمل هناك .. فقررت السفر بغير أن أُلزِم فتاتي بالانتظار ، لأن غربتي ستطول 3 سنوات على الأقل قبل أن أستطيع الجلوس على مائدة المفاوضات مع أية أسرة “لشراء” فتاة بمثل هذه الشروط المادية ،

وسافرت رغم قسوة ذلك على أبي وأمي اللذين لم يعارضاني في السفر بعد أن اعتصر الألم قلبيهما وهما يرياني أذوي صحيًا وأفقد وزني وأرجع كل مرة من بيت فتاتي مهانًا جريحًا كسير النفس . وبدأت عملي في الغربة ، وراجعت نفسي في وحدتي ، فرأيت أنه من الظلم لفتاتي أن أفرِّق بينها وبين أهلها الذين يعترضون على شخصي وظروفي ، فأرسلت إليها رسالة أطالبها فيها بالامتثال لما أرادته لنا إرادة الله ، ودعوت لها بالسعادة في حياتها ، ورجوت الله أن يعوضني عنها خيرًا .

رائج :   التربية الجنسية من الميلاد إلى الزواج ( اهم الاخطاء التى لا ننتبه لها فى بيوتنا )

وحاولت أن أشغل نفسي بعملي ، وبظروف حياتي في الغربة ، وتزايد التزامي الديني فلم يمضِ زمن قليل حتى عرضت عليَّ إحدى قريباتي المقيمات في نفس البلد عروسًا قريبة لزوجها ، وهي فتاة جميلة هادئة وذات وجه برئ وملتزمة دينيًا ، ووافقت على الفكرة ، ورحبت الفتاة ، والتقيت بها مرة واحدة ، وبعدها تمت قراءة الفاتحة .. واتفقنا على ألا نتقابل بعد ذلك إلا في خلال الإجازة السنوية . وأراك الآن تبحث عن المشكلة في كل ذلك ، فأقول لك إنني بعد أن أتممت هذا الاتفاق ما زلت أتذكر فتاتي الأولى في مصر في كل لحظة من يومي وليلي .. وقد كثر شرودي وسرحاني حتى كدت أتعرض لحادث تصادم في الشارع لولا لطف الله بي ..

وسؤالي لك يا سيدي هو : هل ما أنا فيه مجرد ذكريات لحب حقيقي سوف ينتهي مع ارتباطي بالخطيبة الجديدة ، أو أنه سوف يظل يطاردني ويفسد حياتي ، فأكون بذلك قد ظلمت نفسي وظلمت من ارتبطت بها ؟ .. وكيف يستطيع الإنسان أن يتخلص من ذكرى إنسان آخر يشعر أنه يسري في دمه ؟ .. إن والد فتاتي في مصر لن يزوجها لي ولو أصبحت مليونيرًا ، ومع ذلك فذكراها لا تفارقني .. وخطيبتي صاحبة الوجه البرئ الجميل تتوافر فيها كل مواصفات الزوجة المثالية ، وبها كل المميزات العائلية والدينية والجمالية والخلقية .. لكني أخشى الفشل .. وأخشى أن أظلمها معي .. فبماذا تنصحني يا سيدي ؟

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

ما كل ما يتمنى المرء يدركه يا صديقي، ومع ذلك فالحياة تمضي بالجميع ، سعداء وتعساء .. ونهر الحياة سريع الجريان ، يجرف في طريقه كثيرًا من الآلام والأحزان التي تجمدنا في بعض الأحيان أمامها وتخيلنا في غمرة معاناتنا لها أنها كالجنادل التي لا يزحزحها التيار ، ومثلما صمدت لمحنة فراق الشقيق المؤلمة ، سوف تصمد أيضًا لإخفاق الحب وانهيار أول الأحلام .. وما أكثر مواقف الحياة التي بكينا أمامها ثم لم تلبث أن تكشفت لنا بعد حين عن خير عميم ادخرته لنا الأقدار . 

وأنت في النهاية شاب قاربت السابعة والعشرين ولم تبلغها بعد .. وقصتك مع زميلتك في العمل مما يقاس بالشهور وليس بالسنوات .. ومشاعرك تجاهها في النهاية ليست أبدية .. ولن تتحدى قانون النسيان الذي لولاه ما طابت لأحد حياة ..

بل لعلها لم تتعمق إلى هذا الحد إلا بتأثير الرفض والمقاومة من جانب أسرة فتاتك لارتباطك بها ، كشأننا في بعض الأحيان حين لا يزيدنا الرفض إلا تمسكًا بالمفقود ، ولعلنا لو نلناه بلا عناء لهان علينا بعض شأنه هوان اليسير والموجود على النفس البشرية التي تتعلق دائمًا بالصعب أو المفقود . وسواء كان هذا الأمر أو ذاك ، فليس نهاية الحياة أن يُصدم الإنسان في أولى تجاربه مع العاطفة ..

رائج :   أريده ملتزما (قصة قصيرة) .. عندما يكون كل شئ قسمة ونصيب

أو أن يتعذر عليه أن يمضي بها إلى النهاية المأمولة ، وإذا كنتُ قد اهتممت بمشكلتك هذه على غير عادتي في الاهتمام بهذه النوعية من المشاكل ، فإنما قد فعلتُ ذلك تقديرًا للظروف المأساوية التي سبقتها في حياتك وحياة أسرتك ، وتقديرًا أيضًا للإحساس المؤلم الذي شعرت به وأنت تواجه الرفض والإنكار ثلاث مرات من والد فتاتك ، وتستشعر العجز والمهانة وجرح الكرامة الإنسانية فيك ،

فليس أمرّ من أن يشعر الإنسان بالدونية والحرمان مما يراه حقه العادل في السعادة ، لسبب لا حيلة له فيه هو قلة إمكانياته المادية .. غير أن تجربة العمر سوف تعلمك الكثير والكثير يا صديقي .. ولسوف تعرف أن كثيرين ممن ترفقت بهم الحياة ونعموا بالسعادة في حياتهم الخاصة قد حُرموا هم أيضًا في شبابهم ممن تصوروا أنهم لا حياة لهم بغيرهم ، وأنهم يسرون في عروقهم مسرى الدم منهم كما تشعر أنت الآن تجاه فتاتك ،

ثم لم تلبث الأيام أن داوت جراحهم ، وجمعتهم بمن سعدوا بهم ، واستشعروا السعادة الحقيقية معهم .. وهيهات أن يستطيع أحد أن يجزم بأنهم كانوا سيسعدون بحياتهم نفس السعادة وسيحققون لأنفسهم ما حققوه من آمال ، لو كانوا قد ارتبطوا بمن حالت ظروف الحياة دونهم ودون الارتباط بهم في سنوات الشباب الأولى .

ونحن لا نعرف البشر في النهاية بغير أن نعاشرهم ونختبرهم بمحن الأيام ويختبرونا ، وإذا كان الأديب العظيم مصطفى صادق الرافعي يقول : أغضب المرأة تعرفها أي تعرف شخصيتها الحقيقية التي تتخفى غالبًا على عين المحب ، فنفس الكلمة تنطبق أيضًا على الرجل بنفس القدر ،

وتظل شراكة الحياة وتقلباتها واختباراتها هي محك التجربة الأوحد ، وهي التي نستطيع أن نحكم بها على البشر بأنهم قد خُلقوا لنا أو لم يخلقوا فلا تخشَ من ذكريات تجربتك السابقة على ارتباطك الجديد بصاحبة الوجه البرئ ، فإنها إنما تلح عليك الآن لأن حياتك خاوية وليس في الساحة من يشغلك عنها بالرغم من ارتباطك الشكلي بالفتاة الجديدة ،

ولسوف يتغير الأمر كثيرًا حين يتخذ ارتباطكما شكله الرسمي في إجازة الصيف .. ويتاح لكل منكما أن يكتشف الآخر ويتعرف عليه ، فامنح صاحبة الوجه البرئ فرصتها العادلة في أن تعرفها حق معرفتها وتعرفك .. ومهدا معًا أرضكما المشتركة لاستقبال بذور الحب وإنباتها ، فإن أثمرت هذه البذور زهورها ، فلقد عرفت بالتجربة أن نداء الموجود أبقى وأقوى من نداء المفقود ، وإن ضمرت البذور ،

أو لم تنبت إلا الحسك والشوك ، فمن عرف من لا يصلحون له فلقد عرف بطريقة خفية الصالح المنشود ، وحق له أن يبحث عنه كما يقول أديبنا العظيم نجيب محفوظ ، والبرهان دليل العقل يا صديقي كما يقول أهل المنطق ، فامنح تجربتك الجديدة فرصتها العادلة من الزمن والاهتمام والرغبة الصادقة في إنجاحها .. ثم احكم عليها بعد ذلك بما تستحقه من حكم عادل بالاستمرار ، أو التوقف .. مع تمنياتي لك بالسعادة وتحقيق الآمال .

  • من أرشيف جريدة الأهرام
  • نشرت سنة 2004

مقالات ذات صلة