قصص وعبرقضايا وأراءكتابات د : أحمد خالد توفيقوعي

بعض التجارة حقارة || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

  • نُشر في: 18/6/2016

كتبت هنا منذ أسبوعين عن ظاهرة (أعشني اليوم فقط) التي يتعامل بها التجار في مصر. الحقيقة أن هذه الظاهرة تثير جنوني دائمًا، وتقترن عندي بظاهرة أخرى هي (التعالي على الرزق). في لحظة ما يروج العمل ويوشك الصنايعي او التاجر على نزع حذائه وضربك، لأنك تضع عليه عبئًا شديدًا بتدفق المال .. رزق .. رزق .. رزق .. لقد تعبت .. صار هذا مملاً..

هذه الظاهرة يمكنك أن تلاحظها في كل مول رائج أو مطعم ناجح.. في البداية يأخذونك على أجنحة الراحة والزبون دائمًا على حق مهما كان وغدًا كاذبًا مغرورًا مضللاً أحمق. بعد فترة تروج أعمالهم فلا يصير الزبون على حق أبدًا بل هو وغد مغرور مضلل كذاب احمق فقط .. يبدأ الغش والإهمال والوقاحة. هل يغضب الزبون ؟ .. هل ينصرف ؟ .. لا مشكلة .. نحن تسعون مليونًا ونيف .. لو انصرف مئة زبون غاضب يوميًا فلن يحدث هذا أي فارق.

اسمح لي أن أنشر مقاطع من مقال قديم جدًا لي اسمه (المطففون)، وأنا موقن أنك ستشعر بأنه كتب منذ أيام: “كنت أموت من الظمأ في ذلك اليوم الحار، ولما كنت بطبعي غير مولع بالمياه الغازية، فقد اتجهت إلى محل لعصير القصب .. هناك صب لي البائع كوبًا كبيرًا حملته متلمظًا إلى شفتي، لأجد أنه عديم الرائحة والطعم.. فقط له لون كريه يذكرك بحساء القلقاس .. كنت سأكون اسعد لو ملأ لي الكوب بماء مثلج نظيف. أصابتني الحيرة .. كم يبلغ هامش الربح في كوب من عصير القصب ؟.. بالتأكيد هو لا يقل عن 80% .. وبالتالي فلماذا يجب أن يغش العصير بخلطه بالماء البارد ؟.. لماذا لا يقدم لي سلعة جيدة ؟.

قلت للرجل غاضبًا إنني لن أتعامل معه مرة أخرى، فهز رأسه في مزيج من الاعتذار الساخر واللامبالاة .. ماذا يخسره لو فقد زبونًا وماذا يكسبه إذا احتفظ به ؟ المهم بالنسبة له أنه أخذ مني هذه المرة وانتهى الأمر، ومحدش حينام جعان .. غدًا يأتي سواي .. هكذا تحول الإيمان بالرزق إلى مبرر للخداع بلا توقف … الحقيقة أن فلسفة هذا الموقف تنطبق على كل شيء في حياتنا بدءًا بكوب عصير قصب وانتهاء بسيارة فاخرة أو فيلا في الساحل الشمالي ..

“برغم إنني طبيب، فأنا لا أضع علامة الهلال على زجاج سيارتي لأسباب واضحة .. إن هذا الهلال هو علامة استحلال دمي ومالي لدى أي ميكانيكي أو تاجر أتعامل معه .. ولكم سألني هذا الصنايعي أو ذاك عن مهنتي فأقول (مدرس) أو (مندوب مبيعات) بلهجة عابرة …

هذا الهلال يوشك أن يكون إعلانًا يقول لهؤلاء: (أنا أحمق .. فاخدعوني).. عندما يتعاملون مع طبيب فهم يتكلفون ذلك الاحترام الممزوج بالسخرية، ويقولون: يا دوك ألف مرة في الساعة .. وهم لا يكفون عن سرقتك .. المهمة التي يدفع سائق التاكسي ثلاثة جنيهات ثمنًا لها يطالبونك أنت بثلاثين من أجلها .. شعارهم هو : هذا رجل ثري أحمق .. رزق حلال أرسله الله لنا .. لقد خُلق ليُخدع .. فإن لم نخدعه فمن نخدع إذن ؟

في تصرف هؤلاء غباء لا شك فيه، لأنك لن تطرق بابهم ثانية.. لكنهم ليسوا من أساتذة علم التسويق، ولا يعنيهم في شيء أن تعود أو تذهب للجحيم .. لقد حصلوا على قطعة منك وفروا بها، وفيما عدا هذا هم مؤمنون بالرزق وبأن هناك مغفلاً آخر سوف يأتي غدًا ..

والغريب أنهم غير مخطئين تمامًا ..

جرب صاحبي عبوة كاملة باهظة الثمن من السبراي الذي يعلنون عنه في التلفزيون كي يزيل خدشًا في سيارته، بلا أي نتيجة .. اتصل بالشركة المنتجة فقالوا له إنه بحاجة لعبوة ثانية لأن سيارته (ميتالك).. ابتاع العبوة الثانية ولم يحدث شيء .. هنا فقط أدرك أنهم نصابون، لكنهم بالتأكيد جمعوا قدرًا لا بأس به من المال، ولن يضيرهم في شيء أن يعرف كل الناس أنهم نصابون .. إنهم الآن يبحثون عن طريقة النصب الجديدة ..

تسأل بائع الفاكهة عن الأسعار فيذكر لك في ثبات أرقامًا تعرف أنها ضعف سعر السوق .. هذا الرجل يرى من الحلال له أن يكسب الضعف بلا حق وأن أخسر أنا الضعف، لمجرد أنه مولع بنفسه ولمجرد أنه هو .. بينما يمكنه أن يشق بطني لو حاولت العكس .. الفارق بين الشطارة في التجارة والسرقة واضح أو يجب أن يكون واضحًا .. تحاول أن تفاصل فيرفض في غلظة وقلة ذوق وتعال .. كأنه يقول لك: ابتعد عني ولا تصدع رأسي .. فلتذهب إلى حيث ألقت ..

تلاحظ أنه لا يبيع تقريبًا منذ الصباح، وإنه من الخير له لو تنازل قليلاً عن جشعه كي يعود ببعض المال لأطفاله، لكنه يفضل أن يموت جوعا على أن يكون سمحًا ..

وقد أقبل الغلاء مضطرًا، لكني لا أقبل الغش .. ما دمت قد دفعت ثمن الخدمة فلابد أن أحصل على مقابل لها .. دفعت ثمن اللحم كاملاً فما معنى أن أنال بضعة كيلوجرامات من الدهن والشغت ؟.. المشكلة أن هذه صارت القاعدة في مصر .. أنت لا تنال مقابل مالك أبدًا .. كل طبيب يعرف معجزات الدواء المغشوش وكيف يشرب المريض زجاجة دواء سعال كاملة فلا يهدأ السعال لحظة، وكيف يبتلع علبة أقراص كاملة فلا تنخفض حرارته درجة، بينما نفس الدواء المستورد يصنع الأعاجيب ..

فإذا صار الغش التجاري والمغالاة دينًا فأنا أطالب هؤلاء بأن يكونوا من أتباعه المخلصين .. لكنهم (إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون).. دع واحدَا من هؤلاء يتقاض ثمن دوائه التالف أو لحمته المشغتة أو عصيره المخلوط بالماء بنقود مزورة ولسوف يملأ الدنيا صراخًا عن الشرف وكيف انعدم الضمير، و(إنما الأمم الأخلاق ما بقيت).. يقولها وهو يجرك من قفاك إلى أقرب قسم ..”

هكذا تدرك أن جزءًا كبيرًا مما نحن فيه من معاناة سببه جشعنا الخاص. ثمة اناس لا ينوون ان يرحموا رفقاءهم في الوطن أبدًا. يمتص الكبار دمك أول مرة، وتمتص القرارات الاقتصادية والتبذير الحكومي دمك ثاني مرة، ثم يمتص هؤلاء دمك ثالث مرة. إنها ثقافة الخداع مرة واحدة: ستكتشف أننا اوغاد نصابون، ولن تعود مرة أخرى لكن هذا يكفي لجعلنا أثرياء. لو وقع مليون شخص في الخطأ لأول مرة لصرنا أغنى من قارون.. من يهتم بك ؟. من يريد عودتك ؟. النصب لمرة واحدة هو طريق النجاح والثراء.

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الذئاب

مقالات ذات صلة