كتابات د : أحمد خالد توفيقمن هنا وهناك

خلل مواعيد .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

نُشر في: السبت 12 أبريل 2014

كان عليَّ أن أستقبل هذا الأستاذ الكبير علامة العلماء.. الرجل الذي تفخر عدة أجيال بأن أبناءها حملوا حقيبته يوماً ما.

كان عليَّ أن أستقبله في محطة القطار لدى وصوله إلى البلدة، ثم أقله إلى المستشفى الذي أعمل به. هناك أسباب يطول شرحها وسوف تعقد الأمور جداً لو حكيتها.. المهم أنني لم أستطع اللحاق به في الموعد. النتيجة هي أنه وصل فلم يجد أحداً.. خرج من المحطة، فوجد «ميكروباصاً» من الطراز الذي يتدلى منه فتى دمر (الترامادول) خلايا مخه، ونال مطواة في خده:

– «المستشفى يا حاج؟»
هكذا ركب ولم يفكر في وجود اختراع اسمه (سيارة أجرة). وفي الطريق راحت سماعات السيارة تهدر بأغنية عن الشبشب الذي ضاع مع أنه كان بصباع.. مع ذلك الصوت الإلكتروني الصناعي الذي يذكرك بصوت الروبوت في أفلام الخيال العلمي. للمرَّة الأولى يسمع هذا العالم العظيم كلمات الأغنية العجيبة. وحاول أن يتجاهل المرأة الشرسة التي تجلس أمامه وتتفرس فيه بفضول..

نزل عند المستشفى، وقابل رجال الأمن المتشككين الذين سألوه:

رائج :   قصة الذئب و القوس: الطمع يقل ما جمع

– «عايز إيه يا أسطى؟»

بصعوبة سمحوا له بالمرور بعد ما دفع تذكرة دخول.

ثم سأل عن القسم الذي أعمل فيه، فدله أولاد الحلال على المكان. دخل إلى القسم وهو فاقد الاتزان والتركيز.. سألته العاملة عمَّا يريد فقدم نفسه في كبرياء.

المشكلة أن هذا كان وقتاً مبكراً في الصباح -التاسعة صباحاً- لهذا لم يجد أي طبيب. دعته الممرضات للجلوس معهن في غرفتهن الضيقة، فهن يخشين أن يكون شخصاً مهماً ويطردنه، وكان هذا هو الحل الوحيد له فعلاً.

– «باسم الله»

قالتها إحداهن، وهي تضع أمامه رغيفاً من الخبز الأسمر وطبقاً من الفول المدمس. حاول أن يعتذر لكنهن شعرن بالإهانة، فاضطر لأن يغمس اللقمة في الفول. وضعت إحداهن أمامه حزمة من البصل الأخضر ليدشها ويلتهمها.. الحقيقة أن الفول كان شهياً.. ليس سيئاً أبداً. بدأ يتلذذ بالأكل خصوصاً عندما وضعن أمامه بعض أقراص الطعمية الساخنة، وذلك الشيء الأصفر الذي يذكرك ببرتقالة متحللة. سألهن في فضول:

– «ما هذا؟»

– «نارنج..»

نارنج مخلل.. ينطقن الاسم (لارنج).. هذه أول مرة يذوقه فيها وقد راق له كثيراً. أكل بشهية، وقبل أن يفهم ما يحدث وجد أمامه كوباً من الشاي الساخن.. شاي ثقيل جميل عطر الرائحة.. قالت الممرضة التي تجلس جواره:

رائج :   فيلم 122 .. تجربة جديدة على السينما المصرية

– «هذا نعناع أزرعه في شباك داري.. وهناك ريحان كذلك».

الحقيقة أن عملية الإفطار تتم هنا بأمانة تامة، وتستغرق وقتاً طويلاً. هو لم يفطر منذ كان في السابعة من عمره وقد أدرك اليوم أن هذا نشاط بشري ممتع. بعد قليل بدأت الممرضات يسألنه أسئلة طبية.. هناك من تشكو من إسهال ومن انقطعت عنها الدورة وتخشى أن تكون حاملاً للمرة الثالثة في عامين، وهناك من تريه أبحاث زوجها..

راح يرد عليهن قدر ما استطاع..

ثم انصرفن لبعض أعمالهن، فجاءت واحدة منهن جلست جواره وأخرجت منديلها لتجفف المخاط الذي سال من عينها وأنفها، وقالت إنه يوحي بالثقة لهذا تريد رأيه في مشكلة.. زوجها -ذلك الحقير- سرق مصاغها ويريد أن يتزوج جارتها المطلقة.. لا تخبر أي واحدة من البنات بما قلته لك، هل أتخلى عن صالح أم أذهب لأم عبير لأهددها؟

رائج :   كيف تنجح في شركة “عائلية”؟

أجابها على قدر ما استطاع، وقال لها إن هذا بيتك يا حبيبتي.. لا تتركيه لامرأة أخرى حتى لو كانت أم عبير.. فليرحل هو.. شكرته وانصرفت، ثم ظهرت زميلتها تقول له إنه يبدو ابن ناس محترماً لهذا تريد أن يساعدها في تعبئة أقراص العلاج للمرضى.

انهمك الأستاذ الكبير في هذا العمل.. الممرضة تقرأ العلاج وهو ينتقي الأصناف المناسبة من صينية كبيرة أمامه، عندما ظهرت أنا!!

نظر لي نظرة نارية، فقلت كلاماً كثيراً عن المنبه الذي لم يدق، وعدم وجود سيارة أجرة، والنوبة الصرعية التي أصابتني.. إلخ.. ذهبت للمحطة فوجدت أن القطار قد رحل.. و..

قال لي والثلج يسيل من صوته:

– «سوف يكون لي كلام مع رئيسك هنا.. بالمناسبة.. هل لم يأت هو نفسه بعد؟»

– «لم يأت يا سيدي..»

كاد ينفجر من الغيظ.. الحقيقة أنني لست متأكداً.. هل هو حانق فعلاً لأننا تأخرنا؟ أم لأننا أفسدنا عليه أمتع لحظات عاشها في حياته؟ ما أعرفه هو أنه سيخرب بيتي.. هذا ما أعرفه يقيناً.

مقالات ذات صلة