نُشر في: 1/12/2014
والآن أقدم لك العم بسيونى ..
سوف تعرفه على الفور متى رأيته من بعيد، بقذاله الغليظ المشحم والكرش العملاق الذى ينزلق السروال تحته دائمًا. الكرش الوحيد الذى يبدأ من الفخذ على قدر علمي. ستعرفه من السعال المتواصل، ومن ثيابه التى يحرص على أن تجعله يبدو عاملاً بأى شكل. السويتر الرخيص المفتوح. على الرأس عمامة يتدلى من طرفها شال أبيض قصير، وحول العنق تلفيعة فلسطينية. مهما كان الجو باردًا فهو يلبس الشبشب الذى تطل منه أظفار متآكلة متشققة.
العم بسيونى سائق حافلة، وهو رجل طيب فعلاً يحبه الجميع، حتى عندما يتوقف بالحافلة أمام اول عربة فول ليشترى لوازم الإفطار، وينتقى أفضل البصل وأفضل أرغفة الخبز وهو يتلمظ، بينما الموظفون فى الحافلة يوشكون على الإصابة بنوبة قلبية لأنهم تأخروا على الدفتر.
يحبونه حتى عندما يبصق بصقته العملاقة التى تشبه دلوًا يسكبه على الأرض. يحبونه حتى عندما يطلق السباب البذيء من النافذة الجانبية لأن ولدًا رقيعًا تجاوزه بسيارته. وفى المساء يذهب للمقهى ليجلس مع أصدقاء العمر يلتهمون لحم الراس أو الكفتة ويدخنون المعسل. حتى كلمة معسّل ينطقها محسّل .. ويخرج حرف الحاء من أعماق رئته فيسعل سعالاً شديدًا. كأن الكلمة فى حد ذاتها كافية للسعال.
الكل يعرف أن عم بسيونى يحب الحشيش جدًا. ما زالوا يقبلون هذا من الرجل، مع ملاحظة ان تعاطى الحشيش لم يعد له ذات الصيت المرعب الذى كنا نراه فى الأفلام القديمة. الرجل يريد عمل دماغ كأن دماغه هى دماغ أنريكو فيرمى مثلاً. فقط الحشيش يجعله ينسى ما هو فيه من بؤس .. وينسى ما ينتظره فى البيت والغد من هموم .. ويعطيه – هكذا يتخيل – بعض القدرة على البقاء رجلاً أمام زوجته.
العم بسيونى مثقل بالمسئوليات، وكما يقول عن نفسه: “ورايا كوم لحم”. لهذا يتحاشى التفكير فى اليوم الذى يمرض فيه ولا يقدر على كسب الرزق. يقول هذا وهو يضع قدمه الغليظة جواره على مقعد المقهى المصنوع من جريد، ويتحسسها فى راحة واستمتاع.
عم بسيونى سمع عن عقود السعودية، ويحلم كثيرًا بأن يجد فرصة عمل هناك.. أولاً سيحل مشاكله المادية الكثيفة.. ثانيًا سيهرب من السحنات الكئيبة لأسرته وأم العيال المتشككة الكارهة .. ثالثًا سيرى الكعبة ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام. سوف يحج كذلك بينما أمله فى أداء هذه الفريضة هنا شبه معدوم.
تم الأمر كما يحدث دائمًا .. مكتب .. وأوراق .. ومبلغ باهظ يدفع .. ثم موعد للكشف لدى مستشفى استثمارى فى حى المهندسين.
ذهب فى الموعد ليجد مجموعة أخرى من راغبى السفر. ما زالت رحلته شاقة وعسيرة وسط الأوراق والقنصلية والتأشيرة وتصريح العمل . الخ .. لكن لابد من نقطة بداية ..
جلس ينتظر دوره، ثم سحبوا منه عينة دم .. وناوله الممرض أنبوب اختبار ليعطيه عينة. دخل وهو يهز كرشه العملاق إلى الحمام وأفرغ مثانته فى الأنبوب. هذه مشكلة حقيقية لأن الكرش يجعله لا يرى أى شيء على الإطلاق .. انقطعت علاقته بقدميه وأسفل بطنه منذ سنين، فصار يتخيل ما يحدث هناك لكنه لا يراه.
أعطى الموظف العينة .. عاد بعد يوم ليأخذ المظروف المغلق المختوم .. عاد به لمكتب السفر وهنا اكتشف انه رسب فى كشف اللياقة الطبية .. عينة البول فيها مخدرات …
ما معنى هذا ؟ يعرف انهم يحللون بول لاعبى الكرة أو المصارعين ليروا إن كانوا يتعاطون منشطات، لكن أى تهريج هذا ؟ .. هو سائق .. سائق على باب الله ولا يريد ميدالية..
قالوا له:
ـ”هل تريد أن يسمحوا لسائق حشاش بأن يجرى على طرقاتهم ويدهس أطفالهم ؟”
لكنه يعرف يقينًا أن الحشيش لا يضعف قدرته على القيادة .. بل هو بالأحرى يساعده على التركيز.. يساعده على السهر … هؤلاء ليسوا أطباء وهذه ليست مستشفيات .. لقد فسد كل شيء فى مصر وتغيرت النفوس.
اقترح عليه أولاد الحلال أن يكف عن التعاطى لفترة طويلة ثم يعود للفحص الطبى . وهكذا اضطر إلى أن يمتنع عن المخدرات نهائيًا، وكانت هذه فترة أقرب للجحيم. صحيح أنه كان يدخن سيجارة محشوة من وقت لآخر لكنه كان يفعل ذلك بسرعة وخفة حتى لا تصل لدمه .
عاد يجرى التحليل .. وكالمرة الأولى رسب وضاع عليه ماله. مخدرات فى عينة البول.
عندما جلس يدخن الحشيش على السطح مع صديقه المنجد (خميس)، شكا لصديقه ما لاقاه من عنت. هؤلاء القوم لا يعرفون شغلهم. هم يتلذذون بتعذيب خلق الله.
ذكر له صديقه فكرة لا بأس بها، وقد راقت له. فيما بعد عرف ان كثيرين من السائقين المخمورين فى الخارج يفعلون شيئًا مماثلاً. يحملون كيس تجميع بول لشخص سليم تحت سترتهم، وعندما يأخذ رجال المرور عينة منهم فهم يصبون قطرات من الخرطوم الذى يخرج من الكيس.
يوم الفحص الثالث ذهب لابنه تلميذ الصف الرابع الابتدائي، وجعله يتبول فى زجاجة صغيرة. لم يفهم الطفل معنى هذا وحسب أباه قد جن، أما زوجته فقدرت انه سيجرى تحليلاً لابنها من أجل الديدان والأملاح .
عندما ذهب ليجرى الفحص، أخذ العينة من الموظف واتجه للحمام، لكن هذا الأخير استوقفه. هناك بارافان سوف يدخل خلفه ليفرغ مثانته. والسبب ؟
قال الموظف:
ـ”التعليمات !..هناك أولاد حرام يعطوننا عينة ليست عينتهم !”
قال عم بسيونى فى تقوى:
ـ”هناك أناس لا ضمير لهم”
ثم دخل وراء البارافان وأخرج الزجاجة التى تحوى بول ابنه من جيبه، وبدأ يصبها فى أنبوب الاختبار. هنا سمع الموظف يصيح من الخارج:
ـ”لقد رسبت فى التحليل يا عم بسيوني!”
رفع عينه غير فاهم فرأى أنهم – أولاد الحرام – علقوا مرآة صغيرة مائلة فوق رأسه، تسمح للموظف بان يرى ما يقوم به الواقف خلف البارافان. ولماذا لا يرغمونه على أن يتبول امامهم إذاً ما دامت النفوس شريرة لهذا الحد ؟
فى الأيام التالية كرر عم بسيونى التجربة، والحقيقة أنه صار وجهًا مألوفًا فى المستشفى وصار من معالمها المهمة. والحقيقة كذلك أنه لم يستطع قط أن يمتنع عن الحشيش لفترة تسمح بأن يكون الاختبار سلبيًا. هذا أقسى مما يتحمل.
فى المرة الخامسة أعطاه الموظف أنبوب اختبار وطلب منه ان يعطيه عينة. دخل خلف البارافان كالعادة وأخرج الزجاجة الصغيرة التي تحوى بول ابنه، ورفع عينه فى حذر .. رأى الموظف ينظر له فى ثبات فى المرآة لكنه لا يعلق. وهذه المرة أخذ الموظف العينة فى صمت
.. لقد أشفق عليه وقرر أن يرحمه هذه المرة. الجميع يحبون عم بسيونى حتى وهو يعطى المستشفى بول ابنه على أنه بوله هو
انصرف عم بسيونى شاعرًا بالرضا عن الناس والكون .. الخير لن يفارق هذه الأمة أبدًا. الناس طيبون ورائعون فعلاً. قرر أن يحتفل بهذه المناسبة بشرب الحشيش مع خميس. لن يكون حشيش فى السعودية .. عليه أن يختزن كمية هائلة منه فى رئته ودماغه قبل السفر.