أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

رحلة القطار ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أكتب إليك لألتمس عندك السلوى فيما أعانيه ويضيق به صدري فأنا رجل في الأربعين من عمري …توفي أبي منذ عشرين سنة تاركا لي أسرة مكونة من أم وثلاث شقيقات وشقيق واحد كان عمره حين رحل أبي عن الدنيا 6سنوات , أما أنا فقد كان عمري وقتها عشرين عاما فقط وقد أنهيت دراستي الثانوية وبدأت أتطلع إلى الالتحاق بالجامعة فجاءت وفاة أبي فحطمت أحلامي في أن أعيش حياة طالب الجامعة التي طالما تمنيتها وترك أبي وراءه محلا صغيرا لبيع قطع غيار السيارات يفي بمتطلبات الأسرة بصعوبة وبعد أيام العزاء اجتمعت الأسرة الخائفة من المستقبل تبحث أمورها ..

فاتجهت الأنظار إلي تلقائيا وأحسست بوطأة المسئولية وأعلنت وقلبي يتمزق أني سأخلف أبي في محله لكي تجد الأسرة ما يقيم أودها وقوبل إعلاني بارتياح عميق من كل أفراد الأسرة لعله غاظني أكثر مما سرني وألقيت بكتبي وأحلامي وراء ظهري واستقبلت مسئوليتي بقلب واجم وخائف من المستقبل , وفتحت المحل فجاء زملاء أبي من التجار يشدون أزري ..ويحيون رجولتي ويعرضون علي خدماتهم وكنت في حاجة إليها فعلا في أيامي الأولى في التجارة ..

ثم شيئا فشيئا عرفت أسرار العمل وثبتت أقدامي فيه , وانتظم مورد الأسرة لكن العبء كان ثقيلا فلقد كانت شقيقاتي وشقيقي جميعا في مراحل التعليم المختلفة وكانت الكبرى منهن في الثانوية العامة , وكان المحل مدينا ببعض الديون فعشنا فترة كئيبة من الضيق والشدة … واجهتها بصبر لكن استقر في أعماقي امتعاض دائم من ظروفي التي حكمت علي بأن أتحمل المسئولية وأنا في العشرين من عمري بدلا من أن أعيش سنوات شبابي طليقا وغيري يتحمل مسئوليتي ومضت الأيام وبدأت أشعر أنني محور حياة الأسرة وأن أمي وشقيقاتي يبالغن في العناية بي ومجاملتي ورغم ذلك فقد أصبح صدري ضيقا مع كثرة النفقات وصعوبة المسئولية وأصبحت عصبيا تندفع مني أحيانا الكلمات الجارحة رغما عني لأخوتي وأحيانا لأمي …فلا يقابلن ذلك إلا بالدموع الصامتة ,

ومع ذلك فقد مضت أيامنا وحصلت الكبرى على الثانوية العامة والتحقت بالجامعة وتخرجت وجاءها من يخطبها فقمت بواجبي معها في حدود إمكانياتي .

ثم لحقت بها الأخت التالية لها وتخرجت وتزوجت وتخففت من بعض أعبائي فقررت أن أتزوج وتزوجت من ابنة مدير بالمعاش من جيران الأسرة انضمت إلى شقتنا الواسعة في أحياء القاهرة القديمة .

وطوال هذه السنوات الصعبة كنت أتطلع إلى شقيقي الأصغر وأتعجل السنوات لكي ينهي تعليمه ويشاركني في حمل مسئولية الأسرة , ومن سن العاشرة بدأت أفرض عليه أن يقف في المحل لعدة ساعات كل يوم , وكان كأي صبي يضيق بذلك ويحاول أحيانا أن يتملص منه , فلا أسمح له بالفكاك وأنهره بعنف فيستسلم باكيا … ثم استقر الخوف مني في أعماقه فأصبح لا يحتمل إشارة مني لكي ينفذ ما آمره به …

وبررت ذلك لنفسي بأني أريده أن يتحمل المسئولية لمصلحته لكني رغم ذلك كنت أحيانا أرق له وأراه غلاما محروما من الحنان لكني لم أظهر له هذا العطف أبدا ومع تقدمه في الدراسة كانت ساعات عمله في المحل تزيد , حتى جاء وقت لم يكن لدي فيه عمال فكان هو المساعد الوحيد في المحل , الذي يفتحه في الصباح ويبقى فيه حتى الليل في أيام الأجازات , لذلك لم يكن متفوقا في دراسته لكنه كان ينجح لأن ظروفنا لا تحتمل أن يتأخر سنة واحدة … إلى أن جاءت الثانوية العامة ورسب فدعوت الأسرة وعقدت له جلسة تأديب انهلت عليه فيها باللوم والتقريع … ثم أعماني الشيطان في لحظة حمق فانهلت عليه صفعا أمام شقيقاته …فلم يزد عن أن حمى وجهه بذراعيه وأحنى رأسه وهو يصيح من بين بكائه حانجح السنة الجاية يا أخويا ….الدكان خد مني وقت يا خويا , وأفقت فجأة من غيي فعدت إلى مقعدي لاهثا وشقيقاتي واجمات يحبسن دموعهن خوفا من انفجاري فيهن وانسحب هو إلى غرفة أمي

وبعد أن خلوت إلى نفسي … اكتأبت لما بدر مني وأرقت ليلتها فلم يغمض لي جفن وذهبت إلى المحل في اليوم التالي عليلا …, وكان المعتاد أن يحضر إلى المحل في فترة الظهر فيجلس مكاني لكي أستريح وقت الغداء …. وتوقعت ألا يحضر وأن يخاصمني لعدة أيام…ووطنت نفسي على أن أصالحه وأسترضيه خاصة أنه لم تفلت منه كلمة سيئة ضدي في قمة إهانتي له وعدواني عليه وبلغت الساعة الثالثة فطلبت من الصبي أن يغلق المحل لمدة ساعتين وتهيأت للانصراف فإذا بي ألمح شقيقي قادما منكسرا , يحييني وهو خافض الرأس ويعتذر عن تأخره بأنه ذهب إلى المستوصف يطلب علاجا لأن عنده ألما في جنبه , فكادت الدمعة تطفر من عيني وقومتها بصعوبة وقلت له ولماذا المستوصف ..سأذهب بك إلى أكبر طبيب في المساء , واذهب الآن واسترح فأصر على أن يجلس في المحل بدلا مني , فتركته وعدت للبيت وفي المساء اصطحبته للطبيب فأعطاه علاجا وطمأننا عن حالته , وعندما بدأت الدراسة حاولت أن أعفيه من فترة الظهر لكي يتفرغ للمذاكرة لكنه رفض بإصرار فكنت أراه يسهر الليل يذاكر ويقف في المحل نهارا وصحته تذبل من آثار قلة النوم ,

وظهرت النتيجة فكان من الناجحين ولكن بمجموع ضعيف لا يؤهله للالتحاق بالجامعة فالتحق بمعهد فوق المتوسط وأصبح يجد وقتا أكبر لمساعدتي , وخلال هذه الفترة تطورت علاقتي به تطورا جديدا …فقد كنت أعطيه مصروفا شهريا عشرة جنيهات ينظم حياته بها , فجاء ابن الحلال الذي همس في أذني أن أخاك يصاحب شلة فاسدة من شباب المعهد وأنهم يدخنون السجائر ويصادقون الفتيات , فلعب الفأر في عبي أن يكون الشيطان قد أغواه فبدأ يمد يده إلى نقود المحل في فترة غيابي ….

وواجهته بذلك فبكى وما كان أسرع بكائه ..وقال لي كلمة ظلت توجعني طويلا هي : إنني ابن فلان مثلك وقد كان رجلا طيبا عارفا بالله فكيف أكون خائنا ؟ ولمن ؟ لأخي الذي رباني وفي مال أسرتي التي تعيش منه أمي وأختي التي مازالت في الجامعة فأنهيت الموضوع لكني بدأت أرقبه خفية فلا أجد عليه ما يريب فهو يصلي الفروض في أوقاتها … ولا يدخن …وهو المهموم دائما بأمر أخوته البنات والذي يقضي حوائجهن ويرعى أولاد المتزوجتين فيهدأ خاطري قليلا …. ثم تعود الوساوس تطاردني من جديد فأسيء معاملته فيتحمل ويصبر إلى أن أعود إلى حالتي الطبيعية وهكذا مضى الحال إلى أن انتهت دراسته في المعهد وحصل على الشهادة وأدى فترة تجنيده .

رائج :   في ذكرى هزيمة 1967 || قصة الحرب بتفاصيل أوسع و بشكل مختصر

وخلال هذه الفترة كانت تجارتي قد نجحت واستقرت وتخلصت من كل المتاعب فأعدت تأثيث شقتنا الواسعة واشتريت سيارة .

وبدأت أطمئن للمستقبل وأجني ثمرة كفاحي . وفي هذه الفترة أيضا اشتريت المحل المجاور لي وضممته إلى محلي وأنفقت على عمل ديكور جديد له , وأصبح لدي عاملان يتقاضيان أجرا كبيرا وعاد شقيقي يساعدني في انتظار التعيين , وفكرت بيني وبين نفسي في أن أفرغه للمحل , وهو من دمي وله نصيب شرعي في المحل , وصارحته بذلك فقال لي أنه يعتبرني أبي والأب لا يختار لابنه إلا ما في صالحه فإن أردته في المحل فهو معي وإن أردته في الوظيفة فسينفذ رغبتي وسيكون إلى جواري دائما بعد الوظيفة , واتفقنا على أن يعمل في المحل فترة الانتظار وأن يختار بعد ذلك , وبدأ العمل بهمة , وكان للحق شعلة من النشاط والذكاء ومحبوبا من كل من يتعامل معه أو يعرفه , فهو خدوم وشهم وكريم في حدود ما تملكه يده وهو قليل , فقد كنت أعطيه نصف مرتب العامل وكان راضيا لأنه صاحب مال كما يقولون وأصبحت أعتمد عليه في أعمال كثيرة …

وفجأة عاودني الوسواس القديم , وكان سببه هذه المرة هو نفس السبب القديم شلة الأصدقاء الذين أراهم فاسدين ويراهم هو عاديين , وكانوا زملاءه منذ الطفولة حتى المعهد وكنت لا أرتاح لهم وأشك في سلوكهم وأخشى عليه من صحبتهم . فنصحته بالابتعاد عنهم ورويت له عنهم ما لا يسر , فكان رده أنني لا أستطيع أن أتحكم في سلوك غيري , وأنني أرضي الله وهذا يكفي وهؤلاء أصدقائي منذ الصغر , ولم أقتنع .وبدأت الوساوس تلح علي من جديد وذات يوم رأيت معه ساعة جيدة , فسألته عن مصدرها فأخبرني أن شقيقته الكبرى المتزوجة أهدتها له , فلم أصدقه وسالت أختي فأكدت ذلك وقالت إنها اشترتها له بالتقسيط من مرتبها حين لاحظت أنه لا يحمل ساعة ولا يجرؤ على طلبها مني , فلم يسترح عقلي لذلك وشككت في أنها تدافع عنه لعطفها عليه .

وكانت أختي الثالثة قد تخرجت وخطبت ونستعد لجهازها وزواجها فكان صدري ضيقا فانفجرت فيه بشكوكي مرة أخرى وخيرته بين الانقطاع عن هذه الشلة وبين المحل , وانصرف صامتا وللأسف أن هذه المكاشفة قد تمت في المحل وأمام العمال والزبائن فعرفوا أني أشك في أمانة أخي وسلوكه … ولامني كثيرون من الزبائن والتجار من جيراني …فزادني ذلك عنادا وعدت للبيت في المساء فلم أجده …وعرفت أنه سيقضي الليل عند خالته فزادني ذلك غضبا وصممت على ألا يعود للعمل إلا إذا قاطع كل أصدقائه وانتظرته أن يعود بعد أيام خافض الرأس منكسرا كما تعودت منه لكنه لم يعد فتنازلت عن كبريائي قليلا وسألت عنه فكانت المفاجأة أنه سافر إلى الإسكندرية ليبحث عن عمل وأنه اقترض نقود السفر من خالته .

وأحسست بألم في قلبي لكني تظاهرت بالاستهانة وقلت بصوت عال : في داهية ! وتمنيت أن يفشل سعيه وأن يعود منهزما ويقبل شروطي لكنه لم يعد يا سيدي ,

ومضى شهران قبل أن يأتي في زيارة لأمه وشقيقاته اللاتي كن يتحرقن شوقا إليه وعدت إلى البيت في الظهر وكان جالسا مع زوجتي وأمي وشقيقتي ومن حوله سعيدات به فنهض مرتبكا حين رآني ليحييني …فركبني الشيطان فجأة وأشحت بوجهي بعيدا عنه ودخلت إلى غرفتي … وجاءت ورائي زوجتي ..تلومني فصرخت في وجهها , أما هو فقد جلس لمدة دقائق ثم استأذن وانصرف , ومن زوجتي عرفت أنه يعمل عند مستورد لقطع الغيار أتعامل أنا معه منذ سنوات وأنه يقيم في غرفة في حي شعبي وأن هذا المستورد أحبه ويثق في أمانته ويرسله إلى الجمرك لتخليص بعض أعماله .

ولعب الفأر في عبي وخشيت إن صحت الوساوس , أن يضعني في حرج معه فاتصلت به وسألته عنه فقال لي أنه ولد سكرة ووجهه فيه القبول وكلما أرسله في مهمة يسرها الله على يديه وأنه يشكرني على التنازل له عنه !

وأحسست بالفخر وبالغيرة معا , ومع ذلك فقد حرصت بمنطق بعض التجار -ألا لعنة الله عليه –على أن أؤكد له أنني غير مسئول عن أي تصرفات له , فقاطعني رافضا الاستماع وانتهت المكالمة .واستمر الحال هكذا … وقد أصبح يأتي إلى القاهرة مرة كل شهر فواصلت تجاهله … مع حرصي على أن أعرف أخباره من زوجتي وسعت أمي كثيرا لكي تصلح بيني وبينه , فتمسكت أن ينفذ كل شروطي وان يبتعد عن شلته اللذين يحرص على زيارتهم كلما جاء من الإسكندرية واللذين يزورونه هناك كما سمعت .

ومضى عامان ثم أبلغتني أمي انه ارتبط بفتاة بائعة في محل المستورد وأنه يريد خطبتها ويطلب الإذن مني فسألت عن التفاصيل وتأكدت من أنه نسب غير ملائم وأن مستوى أسرتها الاجتماعي منخفض جدا , فقلت لأمي أنه يريد أن يجلب لي عارا جديدا . كما فعل حين عمل عند أحد من أتعامل معهم وبإمكانه أن يتزوج من أسرة أفضل منها فهو في النهاية ابن ناس طيبين ورفضت الموافقة بإصرار .

وبعد أيام جاءني خطاب منه يطلب فيه أن أصفح عنه ويقول لي أنه لا يعرف أبا غيري , ويطلب مني حضوري حفل خطبته فلم أرد عليه , وجاء بعدها بأسبوعين وزارني في المحل فلم أحسن استقباله ومع ذلك فقد جلس وروى لي وهو خجلان قصة ارتباطه بهذه الفتاة وطلب “تشريفي” حفل خطبته … فهززت رأسي أن لا فسكت قليلا ثم طلب بصوت خافت أن أسمح لأمي وشقيقاته بالحضور نيابة عني لكيلا يبدو أمام أسرة خطيبته بلا أهل .. فهززت رأسي مرة أخرى , فسكت قليلا ثم قال كتر خيرك , والقى السلام وانصرف , وبكت أمي طويلا فلم أستجب لها وأعلنت رفضي لذهاب شقيقاتي … فبكين وأشفقن عليه من أن يكون وحيدا في يوم خطبته فلم أتراجع وقد سلط على ذهني أنه يعاندني ويريد أن يجلب لي العار ولا شيء غير ذلك … مع أنه شاب ومن حقه أن يحب ويتزوج … ولكن هكذا صور لي العناد فهددت من تذهب من إخوتي وأمي إلى الإسكندرية بمقاطعتها فرضخن – ساخطات – , وطاف هو عليهن يرجوهن ألا يزعلن لأنه يعذرهن ولا يريد لهن المشاكل معي …

رائج :   الخنجر المسموم ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

وودعنه جميعا كما عرفت بالقبلات والدموع حتى زوجتي بكت وصرخت في وجهي بأني ظالم وأنه لولا أنها لا تريد أن تزيد من آلامي لما قبلت السكوت على هذا الظلم ولذهبت إلى خطبته وهو الشاب المؤدب الذي لم تر منه منذ زواجها بي إلا كل خير وفي وسط كل ذلك قررت خالتي وكانت تحب شقيقي حبا خالصا وتشفق عليه أن تذهب هي وزوجها وأولادها إلى الإسكندرية لتخطب له هذه الفتاة نيابة عن أمي وليضرب فلان الذي هو أنا رأسه في الحائط لأن الله لا يرضى بالظلم …ولأني كما قالت –سامحها الله- ظلمته صغيرا وكبيرا ولا أريد أن أرجع عن ظلمي وذهبت فعلا وعادت تروي لأمي كيف استقبلها بالدموع وتقبيل يديها لأنه لم يكن يتوقع حضورها وكيف احتضن زوج خالته وقبل رأسه معربا عن شكره …

وكيف استقبل بنات وأولاد خالته بفرحة جنونية , وأن أسرة فتاته أسرة طيبة رغم فقرها وأنهم يحبونه ويحترمونه , وكيف انها عاشت أسعد أيام حياتها في هذا الفرح البسيط , وأنها زغردت من قلبها وأصدقاؤه الذين سافروا إليه من القاهرة …وأصدقاؤه الجدد من الإسكندرية -وهو يكسب الأصدقاء سريعا -, يزفونه بالسيارات حول ضريح أبو العباس المرسى وهو يضحك سعيدا والدموع لا تفارق عينيه , وأن التاجر الذي يعمل عنده هو الذي رتب له الزفة وأعطاه نقوطا كبيرا مكافأة له على نشاطه وأمانته وسمعت كل ذلك وأحسست بالندم يلسعني على موقفي منه لكني تظاهرت بتجاهل الموضوع وعرفت من زوجتي أنه سيقيم مع أسرة خطيبته بعد الزواج إلى أن يجد شقة , ومضت أسابيع وبدأت آثار الخطبة وحرمان الأسرة من الاشتراك فيها تخف تدريجيا وعاد هو يزور أمه وشقيقاته ويحكي لهن عن خطيبته وعمله هناك …وكان من بين ما رواه لهن أن آلام جنبه قد عاودته بسبب ساعات العمل الطويلة فذهب إلى المستشفى الأميري في الإسكندرية وعالجه الأطباء وشفي والحمد لله .

ومضى عام آخر والموقف بيننا لم يتغير فهو يحييني حين يدخل فأرد تحيته باقتضاب ..فإذا بلغني حنيني إليه وأردته أن يحكي لي عن نفسه …أو يطلب مني الرجوع … أو السماح كما كان يفعل , فإنه يحكي لدقائق لا تشبع ..حنيني وشوقي له ثم يصمت ..كأنه لا يجد ما يقول وينسحب بعد قليل , وجاء مرة في زيارته المعتادة فلاحظت عليه الإرهاق فسألته عما به فروى لي أنه أحس بالتعب فذهب إلى المستشفى الأميري وأنهم أجروا له فحوصا عديدة أتعبته أكثر ..لكنه تحسن الآن والحمد لله ..فانخلع قلبي .. وأمسكته من يده وذهبت به إلى طبيب كبير فطلب أشعات وتحاليل فحاول الاعتذار لأنه مضطر للسفر فأقسمت عليه بالطلاق ألا يسافر إلا بعد إجراء الفحوص والتحاليل وعدنا للطبيب فوصف له العلاج وطلب منه الراحة ورجعنا إلى البيت فطلبت منه ألا يعود إلى الإسكندرية نهائيا وأن يستريح في البيت وأعلنت له أني سأنفق على علاجه كل ما أملك .. وسأدعو خطيبته وأسرتها لزيارته هنا , فابتسم في ضعف وقال لي أنه لا بد أن يعود وأن يعمل لأنه مدين لصاحب العمل بجزء من قيمة الشبكة ولبعض أصدقائه هناك ببعض المال لأنه اشترى دواء وأجرى فحوصا كلفته الكثير … فطلبت منه أن يبقى وسأسدد ديونه مهما كانت وأنه ليس في حاجة للعمل وهو مريض …

وألححت عليه في ذلك وأردت أن أحلف عليه مرة أخرى فسد فمي بيده ..ثم أمسك يدي وقبلها بحرارة راجيا أن أكرمه بتركه يسافر لأن حياته أصبحت هناك ..وسوف يواظب على العلاج فوافقت مرغما وأوصلته للقطار , وأعطيته نقودا رفض أن يأخذها وألححت عليه وذكرته بأن له حقا في المحل الذي تركه أبوه وهذا جزء منه فقال لي وهو يبتسم متعبا : لقد أخذت حقي وزيادة بلقمتي وطعامي في سنوات التعليم ..فإذا كان لي عندك حق فأعطه لأمي وشقيقاتي . ثم تحرك القطار وصورته وهو يبتسم في ضعف لا تفارقني وعدت إلى البت مهموما , ولم أنم الليل , وفي الصباح كان أول ما فعلت حين ذهبت إلى المحل هو أن اتصلت تليفونيا بالتاجر الذي يعمل معه أخي لأطمئن منه عليه وأبلغه أني سأسدد دينه عنده …وأرجوه أن يرفض عودته للعمل ويعيده للقاهرة حتى تتحسن صحته …فما إن عرفني حتى قال لي واجما : كنت سأتصل بك الآن فورا …انتظرنا نحن قادمون إليك بعد 3ساعات ..البقاء لله !

وصرخت من أعماقي وسقطت السماعة من يدي وجاء جيراني مفزوعين …وأركبوني سيارة أحدهم وأعادوني للبيت ..وبعد ساعات وصل الركب الحزين وبدأت رحلة الوداع وحولي أصدقاؤه وأحباؤه الذين طالما كرهتهم وأسأت الظن بهم يولولون ويصرخون كالثكالى ويتدافعون لحمل صاحبهم .

ووقفت في المساء في العزاء منهارا أصافح الأيدي ولا أدري بها … وجاء أصدقاؤه فما إن وضع أولهم يده في يدي حتى بكيت كالطفل فشجع ذلك أحدهم على أن يقول لي : لقد مضى كل شيء وراح لكني أشهد الله أمامك أن شقيقك كان مثال الأمانة والشهامة والأخلاق وأن يده لم تمتد إلى حرام ..ولم يرتكب معصية ..وإننا كنا أخوة في الخير لا في الشر وإن أقصى ما فعلناه مما كنت تعيبه علينا إننا كنا ندخن في مرحلة المعهد لكننا لم نعرف الخمر ولا المخدرات كما كنت تتصور ..وعاش أخوك ومات ولم يدخن سيجارة فقال : لكن ألسنة الناس السوء لا تدع الناس في حالها ..فسألته فجأة هل كرهني لما فعلت معه ؟فقال : لم يذكرك مرة بسوء حتى وأنت تقسو عليه ..وكان يقول لنا دائما لا تظلموه فلقد حمل الهم صغيرا ..وهو أخي وأبي الذي لم أر غيره , ويكفيه أنه ستر شقيقاتي أما أنا فرجل وأستطيع أن أتحمل . فاسترحت لذلك قليلا …لكن ما حدث بعد ذلك لم يكن ينبئ براحة ., فبعد رحيل أخي خيم الحزن على بيتنا واستقر فيه , وبدأت أحس باكتئاب شديد أفقدني حماسي للعمل .. فأصبحت أنهض أحيانا من النوم فلا أشعر بميل للذهاب للمحل ولا لمغادرة البيت ….وضاعف من حالتي ….أني أحس باتهام صامت في عيون أمي وشقيقاتي بأني ظلمت أخي وقبرته ..

رائج :   هزيمة يونيو المستمرة || (٦) : الخطة “فجر” الموءودة في الفجر

.مع أني يعلم الله لم أرد سوى مصلحته حتى وإن أسأت التصرف وقد استقر الفتور في علاقتي بأمي وشقيقتي الكبرى التي كانت أكثر الشقيقات عطفا على أخي الراحل بالذات .

أما خالتي التي تحدتني بالذهاب إلى خطبته فقد حاولت مصالحتها بعد رحيله فانهالت علي بالاتهام والتجريح .وزادت من معاناتي . وسافرت إلى الإسكندرية وذهبت إلى التاجر الذي عمل معه أخي وشكرته وسددت له دينه فأبى بكل إصرار ..وقال إنها كانت هدية لشاب كريم وليست دينا عليه .. وقد ساءت حالتي الآن حتى أصبحت لا أذهب للمحل إلا مرتين أو ثلاثا في الأسبوع وإلى جانب ذلك فأنا أصحو كل ليلة من نومي عدة مرات وقد توقف تنفسي وقلبي ووصلت إلى مرحلة الاختناق …وفي كل ليلة يجيئني أخي في المنام وأراه عابسا وهو الذي لم أره إلا مبتسما في حياته حتى حين يغلبه الدمع , ذهبت إلى الطبيب فأحالني إلى طبيب نفسي شخص حالتي بأنها ميول اكتئابية وأعطاني بعض الأدوية , وأنا الآن أواظب على العلاج لكني لا أنام جيدا …

وقد فقدت كل الأشياء قيمتها عندي فلم تعد عندي رغبة في النجاح ولا في الثراء وأسأل نفسي كل حين مامعنى كل ذلك وأنا لم أنجب أولادا ولا بنات ولم يعد لي أخي , ثم ماذا يعني لي هذا المحل …وهذه التجارة ولم تعد في مسئوليتي سوى أمي , وما هذه الجدران والرفوف التي تصورت في حمقي أنها أهم من شقيقي الوحيد وأن علي أن احميها منه بإبعاده عنها ومتى يبتسم وجه أخي حين يزورني في الليل …. وأين راحة القلب والضمير ….أين ؟

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

راحة القلب من راحة الضمير يا سيدي وأنت مؤرق الضمير بإحساسك بالذنب تجاه شقيقك الراحل الذي ظلمته كثيرا بوساوسك وخوفك المبالغ فيه على الجدران الصماء التي عرفت الآن أنها لا تساوي قلامة ظفر والحق أنني أعجب كثيرا من حالنا نحن البشر حين نعمى عن بعض الحقائق الأولية ..فلا ننتبه إليها إلا بعد رحيل الأعزاء وغياب من لا يعوضنا مال الدنيا عن غيابهم , كما أعجب من حماقة المرء حين نخص بعض أعزائنا الذين يبدون أمامنا مسالمين مستسلمين بإيذائنا …فإذا فقدناهم عرفنا أننا قد خسرنا بفقدهم وإلى الأبد من كانت محفورة في أعماقهم محبتنا وهيبتنا , واكتشفنا حين لا ينفع الندم أننا لن نلقى في الحياة بعدهم إلا من لا يردعهم حب أو احترام عن رد إيذائنا إلينا إذا عاملناهم بنفس الطريقة ..فأي حماقة بشرية نرتكبها في حق أنفسنا وأعزائنا ؟

ولماذا نفتقد في بعض المواقف حكمة الأعرابية الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب والتي أدركت هذه الحقيقة البسيطة منذ عشرات القرون حين وضعت أمام اختيار صعب بين الأهل …فقالت في نهاية حديث طويل كلمتها الشهيرة “….أما الأخ فلا يعوض ” مشيرة إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يشتريه بمال قارون …ولو ملكه . ولقد عرفت ذلك كله الآن بعد أن ظلمت أخاك طويلا ..ويؤرقك إحساسك بالذنب تجاهه …وتتمنى لو تعرف أنه سامحك لكي يطمئن جانبك ..ولست أظن أمثاله – ممن يعبرون الحياة في رحلة قصيرة لا يعرفون فيها سوى الآلام والأحزان …ولا يأخذون من الدنيا خلالها شيئا –قادرين على عدم الصفح عمن آذوهم….وهم من يغفرون للحياة أصلا ما لا قوة فيها من ظلم ومعاناة .

لكن لا تستكن إلى ذلك يا سيدي وإنما أعن نفسك على التطهر من الذنب تجاه أخيك بإعلان براءته من كل الشكوك والهواجس عند كل من وصلت إليهم شكوكك وهواجسك , واقض دينه عنه لأصحابه وهو بعض ماله من دين في عنقك وقد كان كما عرفته كريما غني النفس عزوفا عن التطلع إلى ما بين يديك وهو المحروم منه وصاحب بعض الحق فيه …ولعلك تعرف بعد ذلك أن الإنسان يستطيع أن يكرم العزيز الراحل بإكرام صاحبه وأنت قد عرفت الآن أن أصحابه لم يكونوا عند سوء ظنك …فلا تشح بوجهك عنهم بعد الآن وتقبلهم قبولا حسنا …ثم احرص على أن تزور أسرة خطيبة شقيقك التي تعاليت عليها في الماضي وتعرف على من اختارها قلبه واعتذر لها عن مجافاتك لها ثم صل بعلاقات المودة هذه الأسرة المكافحة التي احتضنت أخاك حين لم يجد منك نصيرا فتشرفه في غيبته النهائية بعد أن فاتك هذا الواجب في حياته .

يبقى بعد ذلك أن تتوجه بقلبك إلى الله طالبا العفو والمغفرة …فإن ظلمك لأخيك وطمع الدنيا الذي أعماك في بعض الفترات عن إدراك أنه كان نعم الأخ لك ونعم الرفيق , وتسلطك على أسرتك ومنعك لها من مشاركته الفرحة الوحيدة تقريبا في حياته القصيرة الحافلة بالآلام …كل ذلك في ظني من الكبائر التي لا يمحوها إلا الاستغفار وصدق الندم “وإن تستغفروه يغفر لكم ” فادع الله كثيرا لنفسك بالمغفرة .وخير الدعاء العمل الصالح الذي يقصد به الإنسان وجه ربه فاحرص على رحمك وعوض أمك بعض ما تجرعته من آلام وأحزان وتصدق كثيرا باسم أخيك …وانثر الخير حولك وأينما توجهت ….يبتسم لك وجه أخيك في رؤياك وتنج من عذاب الضمير وشبح الاكتئاب …وأهم من كل ذلك …من عقاب السماء ….الذي أعده الله للظالمين

مقالات ذات صلة