قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الثأر

انكمش (هريدي) في مقعده، في ركن ذلك المقهى الصغير، في قريته، الرابضة في أعماق الصعيد، وهو يستمع إلى حكايات رواد المقهى، عن بطولات شبابها، الذين ثأروا لقتلاهم، عبر تاريخ القرية الطويل، والذين حملوا السلاح، وأطلقوا الرصاص على القتلة بلا تردد ..

كان يعلم كغيره أن تلك البطولات الزائفة قد كلفت أصحابها الكثير، وأنها قد ألقت ببعضهم خلف القضبان، لمدد تتجاوز أصابع اليدين، وألقت بالبعض الآخر لمدد تزيد على عدد أصابع الجسم كله، في حين تدلى البعض الآخر من حبل المشنقة ..

وكان يعلم أن الثأر قد حرم القرية خيرة شبابها، على مر الزمن ..
إلا أنه كان يشعر بالخزي والعار ..
كان محرومًا من البطولة ..
ومن الثأر ..
لم يكن في عائلته كلها ثأر يستوجب السعر خلفه، والأخذ به ..
لم يكن هناك أمل واحد في البطولة ..

كان حلم (هريدي) بأن يثأر من شخص ما، من أجل شيء ما، حتى يوضع اسمه في سجل الأبطال، وتتحدث القرية كلها عنه، في مجالس المقهي، والمجالس الخاصة ..
لابد له من ثأر ..
أي ثأر ..

وفجأة برزت في رأسه الفكرة ..
برزت صورة والده المشلول ..
ها هو ذا ثأر يلوح في الأفق ..
إنه يذكر في سنوات طفولته الأولى، أن والده كان سليمًا معافًا ..
ثم انطلقت رصاصة طائشة من بندقية ما، وأصابت عموده الفقري ..
ومن يومها ووالده مشلول ..
سيثأر له ..

هذا هو الثأر ..
نهض من مقعده في حزم، وارتفعت هامته في اعتداد، وهو يتجه إلى منزله في خطوات سريعة، ويحمل بندقيته، التي دفع ثمنها عشرة قراريط كاملة من أرضه، ثم يتجه إلى منزل أبيه ..
لابد أن يعلم من أصاب والده بالشلل ..
لابد أن يثأر له ..

ولم يكد يلمح منزل والده، وبندقيته معلقة خلف كتفيه، وعيناه تبرقان بذلك البريق، حتى توجست أمه خيفة، فسألته وقلبها يرتجف مع صوتها:
ـ عم تبحث يا (هريدي)؟
اتجه إليها، وهو يقول في حزم:
ـ عن الثأر يا أماه.
سألته في جزع:
ـ أي ثار يا ولدي؟ ليس لعائلتنا ثأر في أية جهة.
هتف في صرامة:
ـ ثأر أبي يا أماه.
رددت خلفه في دهشة وحيرة:
ـ ثأر أبيك؟! .. ولكن أباك حي يرزق.
صاح في حدة:

ـ ثأر ممن أصابه بالشلل .. سأقتل الفاعل.
انقبض قلبها في قوة وخوف، وهي تقول:
ـ رويدك يا بني .. هذا أمر قديم قدم الدهر، ووالدك لم يطلب ثأرًا.
صاح هادرًا:
ـ ولكنني أنا أطلب الثأر يا أماه.
انكمشت في رعب، وهي تقول:

ـ صدقني يا ولدي، من فعل بوالدك هذا لم يكن يقصد إصابته .. لقد كان يعبث بالبندقية، فانطلق منها عيار طائش، و ..
قاطعها في ثورة:
ـ سيدفع الثمن.
ازداد انكماشها ورعبها، وهي تقول:
ـ لا يا وليدي .. لا أحد يطلب الثأر ..
هتف في قسوة:
ـ أخريني من فعلها يا أماه .. أخبريني وأقسم أن أقتله، حتى ولو كان .. حتى ولو كان ..
صمت لحظة، قبل أن يضيف في وحشة:
ـ حتى ولو كان أنتِ.

انكمشت تمامًا في رعب هائل، وهي تقول، وقد انهمرت دموعها في غزراة:
ـ لم يكن ذلك متعمدًا يا ولدي .. أقسم لك .. حتى والدك لم يحمل في نفسه أية ضغينة للفاعل.
أمسك معصمها في قوة، وهو يهتف:
ـ من فعلها يا أمي؟ .. من فعلها؟
انحنت أمامه، وهي تقول في ضراعة:
ـ لا يا ولدي .. لا تفعلها .

صرخ:
ـ من فعلها؟..
ثم اتسعت عيناه، وهو يستطرد:
ـ أهو أنتِ يا أماه؟ .. أنتِ فعلتها؟!
هتفت في هلع:
ـ لا .. لست أنا .

ثم خفضت عينيها، وعادت الدموع تنهمر منها في غزارة، وهي تستطرد:
ـ إنه أنت.
ومن يومها، لم يعد (هريدي) إلى حمل بندقيته أبدًا..
ولم يجلس على المقهى بعدها قط ..
أو يبحث عن الثأر ..

________________
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ بدوية ـ رقم 4)

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || أعرف ماذا فعلت

Related Articles