“الأفضل لك أن تعترف ..”
نطق النقيب (حسام) العبارة، بكل ما يملأ نفسه من صرامة وحزم، وهو يتطلع بنظرات نارية إلى الرجل الجالس أمامه، والذي هتف في مزيج من الدهشة والاستنكار:
ـ بماذا أعترف؟
أجابه (حسام) في صرامة:
ـ بأنك أنت أصبت الرجل.
زفر الرجل في يأس ومرارة، قبل أن يقول:
ـ أي رجل يا سيادة النقيب؟ .. لقد ذكرت لك الحقيقة أكثر من مرة .. إنني لم أصب ذلك الرجل، ولم أره في حياتي من قبل.
قال (حسام) في لهجة صارمة، تحمل شيئًا من السخرية:
ـ من صدمه إذن؟
هتف الرجل:
ـ وما شأني أنا؟ .. لقد صدمته سيارة، وفرت هاربة بالتأكيد، بينما كنت في طريقي إلى منزلي، ورأيته ملقى وسط الطريق، ينزف الدماء، والسيارات تمرق إلى جواره في سرعة، ولا أحد يتوقف ليمد له العون، فأوقفت سيارتي، وأسرعت أحمله إليها، وأنطلق إلى أقرب مستشفى لإسعافه، وهناك فوجئت بشرطي المستشفى يلقي القبض عليَّ، وتهمني بإصابته.
قال (حسام):
ـ حسنًا فعل .. لو لم يفعل لعاقبته.
هتف الرجل في حنق:
ـ أية سخافة هذه؟ .. أتلقون القبض على أي شخص ينقل مصابًا إلى المستشفى؟
هتف (حسام) في غلظة:
ـ ناقل المصاب هو المشتبه فيه رقم واحد دائمًا.
صاح الرجل:
ـ أي قانون هذا؟ .. إن مسبب الحادث يفر عادة، ومن ينقل المصاب إلى المستشفى يكون شخصًا شهمًا، و ..
قاطعه:
ـ لا مجال للشهامة هنا .. إنه القانون.
صرخ الرجل:
ـ مستحيل أن يكون القانون هكذا.
عقد (حسام) حاجبيه، وهو يهتف في غضب:
ـ هل ستعلمني القانون؟
ازدرد الرجل لعابه في توتر، وقال:
ـ كلا بالطبع، فأنت رجل شرطة، ورجال الشرطة هم خير من يعرف القانون.
ثم استدرك في حدة:
ـ ولكن المفروض أنهم في خدمة الشعب.
عاد (حسام) يعقد حاجبيه في غضب صارم، وهو يقول:
ـ هل تشك في أننا كذلك؟
زفر الرجل مرة أخرى، وهو يقول في استسلام محنق، محاولًا تجاوز الأمر:
ـ لا .. لست أشك مطلقًا.
وزفر ثانية، قبل أن يسأل:
ـ والآن متى أنصرف؟
أجابه (حسام) في برود:
ـ بعد عرضك على النيابة.
هتف الرجل في ذعر:
ـ النيابة؟! .. لماذا؟ .. لست مجرمًا.
قال (حسام):
ـ ولكن المصاب ما يزال فاقد الوعي، وأنت متهم بإصابته، لذا فمن الضروري عرضك على النيابة، لتقدير موقفها منك، فربما أفرجت عنك بكفالة، أو أمرت باستمرار حبسك.
صرخ الرجل، وقد تضاعف ذعره:
ـ استمرار حبسي؟! .. أهذا هو جزاء الشهامة في هذا البلد؟ .. أتلقون القبض عليّ؛ لأنني أنقذت رجلًا كاد يلفظ أنفاسه الأخيرة وسط الطريق؟
قال (حسام) بتلك اللهجة الصارمة، الممتزجة برنة ساخرة:
ـ فلتدع الله ألا يلفظ أنفاسه الأخيرة بالفعل، وإلا أصبحت التهمة الموجهة إليك هي القتل الخطأ.
جحظت عينا الرجل، وهو يهتف:
ـ قتل خطأ؟
ثم راح يصرخ في ثورة ساخطة:
ـ هذا ظلم .. هذا حرام .. ماذا تتوقعون أن يفعل المرء، عندما يجد مصابًا يلفظ أنفاسه الأخيرة وسط الطريق؟ .. هل يتركه يموت؟
قال (حسام) في صرامة:
ـ نعم .. يتركه.
ثم هتف:
ـ شاويش (حسن).
دخل الشاويش (حسن) إلى مكتبه، وهو يؤدي التحية العسكرية، فأشار (حسام) إلى الرجل قائلًا:
ـ خذه إلى التخشيبة يا شاويش (حسن).
صاح الرجل:
ـ هذا ظلم .. ظلم ..
ظل يكرر الكلمة في مرارة، وصوته يبتعد، مع ابتعاده عن حجرة الضابط (حسام)، في طريقه مع الشاويش (حسن) إلى (التخشيبة)، في حين ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتي (حسام)، وهو يقول:
ـ في المرة القادمة دع شهامتك جانبًا، فهمناك من يدفع الثمن حتمًا.
انتهى عمله في ذلك اليوم، فغادر قسم الشرطة إلى منزله، وأبدل بثيابه الرسمية حلة أنيقة، وهو يمني نفسه بقضاء سهرة جميلة مع خطيبته (ليلى)، وقد نسى كل شيء عن الرجل وحادث السيارة، كما اعتاد أن ينسى متاعب عمله عند عودته إلى المنزل..
وبكل حرارة وحماسة، انطلق إلى منزل خطيبته ..
وبينما كان يعبر الشارع، ارتفع صراخ بعض المارة، وتناهي إلى مسامعه صرير إطارات تحتك بالأرض في قوة ..
ثم صدمته السيارة ..
صدمته في عنف، فانتزعته من الأرض، وضربته في حائط مقابل، قبل أن يسقط وسط الطريق، ودماؤه تنزف في غزارة ..
وفرت السيارة هاربة ..
صحيح أنه التقط رقمها بعينين متهالكين، إلا أنه لما يلبث أن نسيه على الفور ..
وحاول أن ينهض ولكنه لم يستطع ..
لقد تحطمت بعض عظامه حتمًا ..
وراح ينزف الدماء وسط الطريق، والسيارات تمرق إلى جواره في سرعة، ولا أحد يتوقف لإنقاذه وإسعافه، أو حتى لنقله إلى أقرب مستشفى ..
وبينما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، تذكر الرجل، وحادث السيارة، وأدرك أن عبارته سليمة تمامًا ..
هناك من يدفع الثمن حتمًا ..
—————-
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ البديل ـ رقم 3)