قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الى الأبد

انتفخت أوداج (منير) فخرًا وزهوًا ، وهو يتحسس سيارته الجديدة ، التى ابتاعها له والده ، فى عيد مولده الحادى والعشرين …
كان ابنًا وحيدًا لملياردير كبير ، من مليارديرات الصناعة ، يمتلك عددًا من المصانع ، فى مختلف الصناعات ..
ثياب ، وأدوات كهربية ، وثلاجات ، ومواقد طهى ، ومصانع للسيراميك والأدوات الصحية ، وغيرها …
وكل هذا بالإضافة إلى عدد من المطاعم الفاخرة …
وفندقين …

وقرية سياحية شهيرة …
كان يمتلك العدد من كل شىء …
حتى الزوجات …
وعلى الرغم من زواجه بتسع زوجات مختلفات ، نصفهن من دول (أوروبا) و(آسيا) ، إلا أنه لم ينجب سوى (منير) …
فقط (منير) …
ولأنه ابنه الوحيد ، الذى سيرث الثروة الطائلة ، لم يبخل عليه الوالد الملياردير بأى شىء على الإطلاق …
كان يلبى كل مطالبه …
بلا استثناء …
وبلا مناقشة ..

ولها نشأ (منير) مدللًا ، مغرورًا ، أنانيًا ، لا يرى فى الحياة كلها سوى نفسه …
ونفسه وحدها …
وعندما شاهد إعلان تلك السيارة الرياضية الجديدة ، التى تحوى نظامًا إليكترونيًا رقميًا متطورًا ، يجعلها أشبه بشخص آلى يجرى على عجلات ، أصر على أن يكون أول من يمتلكها فى (مصر) كلها …
كانت السيارة تساوى مليون دولار تقريبًا ، وعلى الرغم من هذا ، لم يتردد الأب فى إرسال مندوب خاص من شركاته ؛ لابتياع النسخة الأولى من السيارة ، وشحنها معه إلى (مصر) ..

ولقد بلغت رسومها الجمركية مبلغًا خرافيًا ، أدهش رجال الجمارك أنفسهم ، ولكن ما أدهشهم أكثر ، هو تلك البساطة والسرعة ، اللذين تم بهما دفع الرسوم ، حتى تخرج السيارة إلى الشارع فى أسرع وقت ممكن …
وفى دائرة المرور ، التف الكل حول السيارة ، يتأملونها فى إعجاب وانبهار …
وحسد أيضًا …
وهذا ما انتفخت له أوداج (منير) …
كان دومًا يعشق أن يبهر الناس بما لديه …
وبما يمتلكه …

ولقد انتفخت أوداجه أكثر ، عندما خرج الكل يلقون نظرة على سيارته ، وهى تغادر دائرة المرور ، حاملة ذلك الرقم المميز ، الذى دفع فيه ثروة حقيقية أيضًا …
وحتى فى الطريق ، كانت السيارات وعيون المارة تلاحقه …
الكل انبهر بالسيارة …
والكل حسد راكبها …

وعلى الرغم من أن منزله لا يبعد سوى دقائق قليلة عن دائرة المرور ، فقد طاف (منير) نصف شوارع (القاهرة) بسيارته ؛ ليتمتع بانبهار الناس ، قبل أن يعود بها إلى قصر والده المنيف ، وهو يكاد يحترق شوقًا ؛ للذهاب بها إلى كليته ، فى الصباح التالى ، ورؤية الانبهار والحسد فى عيون زملائه …
وبخاصة (جينا) …
إنها أجمل فتاة ، فى كليته كلها ، وطالما حاول جذب انتباهها ومحبتها إليه ، ولكنها لم تبد يومًا اهتمامًا بثرائه البالغ ، ولا حتى وسامته المفرطة …

هذا لأنها ـ ويا للعجب ـ وقعت فى حب زميله (أمجد) …
يا لها من حمقاء !
إنه لم يدرك أبدًا لماذا اختارت غادة مثلها ، ذلك الشاب المتواضع ، الذى يرتدى طوال الوقت سروالًا رخيصًا ، من الجينز المحلى ، وقمصانًا يبتاعها حتمًا من الأسواق الرخيصة ، فى (العتبة) ، أو (وكالة البلح) !! ..
ولم يحاول أبدًا أن يسألها عن السبب …
كبرياؤه لم يسمح له بهذا …

وسخاؤه الشديد مع زملائها ، لم ينجح فى جذب انتباهها …
ولا اهتمامها …
كان يدعو الجميع إلى غداء فاخر ، فى فندق والده الفخم ـ فتعتذر هى ؛ لتقضى بعض الوقت مع (أمجد) ، فى كافيتريا الكلية المتواضعة …
وهذا يثير حنقه بشدة …
وغيرته أيضًا …

أو أنه ، لو شئنا الدقة ، يشعر بجرح غائر فى كبريائه …
ولكن كل هذا سينتهى حتمًا ، فى الصباح التالى …
سيارته ستبهر الكل بلا شك …
حتى هى …
امتلأت نفسه بالفكرة ، وراح يتخيل نظراتها لسيارته ، التى اختار لها لونًا أحمر زاهيًا ، يستحيل ألا تلاحظه عين …
وعندما وصل إلى قصر والده ، كانت الفكرة قد اختمرت فى رأسه تمامًا ، حتى أنه لم ينتبه إلى والده ، وهو يتجه إليه ، حتى سمعه يقول :
ـ ألف مبروك .. السيارة تستحق بالفعل .. إنها مبهرة …
ابتسم (منير) ابتسامة واسعة ، وهو يقول :
ـ حقًا ؟!
تحسس والده جسم السيارة ، وهو يغمغم :
ـ دون أدنى شك .
ثم اعتدل يردف مبتسمًا :
ـ ولكنها فى النهاية مجرد سيارة .
أجابه (منير) فى غضب :
ـ ليست مجرد سيارة … إنها أروع سيارة فى العالم .
غمز والده بعينه ، قائلًا :
ـ مؤقتًا .

نظر (منير) إليه فى دهشة ، متسائلًا :
ـ ماذا تعنى ؟!
ضحك والده ، وهو يقول :
ـ أعنى أنك ابنى الوحيد ، وأنا أعرف طبائعك جيدًا .. ستنبهر بالسيارة بعض الوقت ، ثم سرعان ما تسأمها ، وتمل ركوبها ، وتطالب بلعبة جديدة .
هتف (منير) فى عناد :
ـ خطأ .. لن أتخلى عن هذه السيارة أبدًا .
غمز والده بعينه مرة أخرى ، وهو يقول مداعبًا :
ـ هل تراهن ؟!
هتف (منير) بكل حماسة :
ـ أراهن .
اعتدل والده ، وقال بنفس المرح :
ـ سأمنحك ستة أشهر .
أجابه (منير) فى إصرار :
ـ ولا حتى ست سنوات .
ثم ربت على السيارة ، كما لو كانت معشوقته ، وهو يضيف :
ـ هذه السيارة ستبقى معى إلى الأبد .
ضحك والده ، وهو يقول :
ـ سنرى .

ثم أشار إليه ، مستطردًا :
ـ أريدك أن تأتى بها غدًا إلى مصنع الأوناش .
ارتفع حاجبا (منير) ، وهو يقول :
ـ ولماذا ؟!
قال والده فى دهشة مستنكرة :
ـ هل نسيت أننى طلبت منك هذا ، من أكثر من أسبوع ، حتى تحضر اجتماعنا مع الصينيين ؟! … إنك سترث كل هذا من بعدى يا (منير) ، وأريدك أن تتعلم كيف أدير العمل ، وأعقد الصفقات .

انعقد حاجبا (منير) فى شدة ، وهو يقول :
ـ لا … ليس غدًا .
حملت نبرة والده شيئًا من الغضب ، وهو يقول :
ـ الاجتماع لا يمكن تأجيله .
قال (منير) فى حدة :
ـ لن أحضره إذن .

بدا الغضب على وجه والده ، فاستدرك فى سرعة :
ـ لدى اختبار هام فى الكلية صباح الغد .
تطلع إليه والده مليًا ، هو يدرك أنه كاذب ، إلا أنه لم يملك إلا أن يقول :
ـ ألا يمكنك الحضور بعد الاختبار ؟!
أجابه (منير) فى حماس :
ـ بالتأكيد .
رمقه والده بنظرة صامتة معاتبة ، ثم انصرف وهو يقول :
ـ فليكن .. سأحاول تأخير الاجتماع بقدر الإمكان .
راقبه (منير) وهو ينصرف ، ثم عاد يربت على سيارته ، مغمغمًا فى اعتزاز :
ـ أبى على خطأ هذه المرة .. ستبقين معى إلى الأبد .

لم يستطع النوم تلك الليلة ، وهو يفكر فى (جينا) ، وكيف أنها ستنبهر بالسيارة ، وتنسى (أمجد) ، ولو لحظات …
مر عليه الوقت بطيئًا ، دون أن يستطيع حتى إغلاق عينيه ، والفكرة تدور فى رأسه وتدور ، حتى أشرقت الشمس ، فأسرع يرتدى أفخر ثيابه ، ويحيط معصمه بساعة من الذهب الخالص ، والتقط سلسلة مفاتيح ، كان يدخرها لهذه المناسبة ، تتدلى منها ماسة براقة ، ووضع فيها مفتاح السيارة الجديدة ، وهبط ليربت عليها مرة أخرى ، قبل أن ينطلق بها إلى الجامعة …
لم يستطع ـ للهفته ـ انتظار موعد حضور زملائه ، لتلك الجامعة الخاصة ، وإنما انطلق بسيارته الجديدة ، وبأقصى سرعة ، عبر الطريق الدائرى ، فى طريقه إلى الجامعة …
كان جفناه مثقلين من عدم نومه ، وحماسه يسيطر على عقله ومشاعره ، و …
وفجأة برزت سيارة النقل الضخمة ، ذات المقطورة الكبيرة …
وضغط (منير) فرامل سيارته الجديدة بكل قوته …
ولكن العوامل اجتمعت ؛ لتجعل رد فعله بطيئا …
أكثر مما ينبغى …
وكانت صدمة والده هائلة ، عندما بلغه الخبر …
ولقد تصاعدت صدمته ألف مرة ، عندما رأى السيارة بعد الحادث …
لقد ارتطمت بها سيارة النقل الثقيلة …
ثم عبرت فوقها …
بكل ثقلها …

وبأربع أزواج من الإطارات الهائلة الثقيلة …
كانت صدمته هائلة ، مع مصرع ابنه ، ووريثه الوحيد …
وكانت أشد هولًا ، عندما أخبروه أن جسده قد امتزج بحطام السيارة ، وصار من المستحيل تخليص بقاياه من حطام السيارة …
وبعد عدة محاولات فاشلة ، لم يعد هناك مفر من قبل الحل الأخير …
والوحيد …
لا مفر من دفن ابنه مع السيارة ، فى كيان واحد …
ولقد كانت الجنازة هائلة ، حضرها مئات من أصدقاء الأب المكلوم ، وآلاف من العاملين فى مصانعه …
وحضرها كل زملاء (منير) …
حتى (جينا) و(أمجد) …

ولقد شاهدوا جزءا فقط من السيارة …
ولم ينبهروا …
فقط بكوا وانتحبوا …
ولكن (منير) ربح رهانه ، وحقق ما أصر عليه منذ البداية …
لقد ظلت سيارته الجديدة معه …
إلى الأبد .
***
تمت بحمد الله
بقلم : د. نبيل فاروق

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || لو علمتم الغيب

Related Articles