دين و دنيا

سيرة سيف الله المسلول خالد بن الوليد (رضي الله عنه) || الجزء السابع

قبل أن نبدأ و حتى تعرف قيمة و عظمة ما قام به خالد بن الوليد – رضى الله عنه – تخيل معى الآتى :

فى ذلك الزمان وبمقاييس العصر كان العالم ينقسم بين قوتين رئيسيتين أولهما و أقواهما الإمبراطورية الفارسية تليها  الإمبراطورية الرومانية وما دونهما كانوا يُعتبروا دولاً وممالك تتفاوت فى الحجم و القوة لكنها تظل أقل شأناً و قوة من تلك الإمبراطوريات

أما عن جزيرة العرب فكانت تعتبر لا شيء مقارنة حتى بالدول الصغيرة .. مجرد قبائل تعيش فى الصحراء .. شعوباً تعيش على حافة العالم فى جهل و فقر .. عصبيتهم القبلية جعلتهم يقاتلون بعضهم البعض .. بأسهم بينهم شديد و لكن مقارنة بالعالم الخارجى هم لا شيء .. حرفياً ..

هكذا كان ينظر الفرس و الرومان إلى العرب .. و ترسخت تلك النظرة فى نفوس العرب عندما كان يرى التجار خلال رحلاتهم التجارية هناك مدى قوة تلك الإمبراطوريات .. نحن هنا نتحدث عن فوارق عسكرية وتكنولوجية واقتصادية هائلة تستطيع تقريبها بأن نقارن بين قوة الولايات المتحدة الأمريكية الآن و بين إحدى قبائل وسط إفريقيا مثلاً ..

– هل تخيلت الوضع ؟ .. – إذاً استعد لما هو قادم ..

جزء من رسالة  خالد بن الوليد إلى هُرمُز الحاكم الفارسى للعراق :

اذا جاءكم كتابى فابعثوا الىّ بالرهن واعتقدوا منى الذمّة .. و إلا فوالذى لا اله غيره لأبعثن اليكم قوماً يحبون الموت كما تحبون الحياة

  • هل تخيلت الوضع الآن ؟
  • كيف يجرؤ أحداً على إرسال رسالة كتلك إلى أحد حكام فارس ؟
  • فكيف و إذا كان مرسلها هم هؤلاء العرب ؟
  • لنعد قليلاً إلى الوراء حتى تفهم كل شيىء ..

فى نهاية حروب الردة كان هناك بطلاً من أبطال المسلمين إسمه  المُثنى بن حارثة الشيبانى كان زعيماً لـ بنى شيبان و بنى بكر و كان يُغير على بعض القبائل فى جنوب العراق طلباً للغنائم

و العراق وقتها كان تحت حكم الفرس لكن ما نفع  المثنى أنه كان ينسحب إلى الصحراء مباشرة بعد أن يُغير على القبائل و أيضاً كانت تلك الهجمات صغيرة لا تؤثر فى الفرس و لن تجبرهم على ملاحقته خاصة أنهم لا يحبون الحرب فى الصحراء .. ذلك البطل زار يوماً الخليفة  أبو بكر الصديق .. عندها بدأ كل شيء ..

ذكر المثنى ما كان يفعل فى العراق و أنه ببعض القوة يمكن للمسلمين السيطرة على بعض مناطق العراق خاصة تلك التي يسكنها العرب فى غرب نهر الفرات و طلب أن يعطيه أمراً كتابياً بتشكيل قوة من بعض القبائل فى منطقته و الهجوم على جنوب العراق ..

رائج :   الأنسة فاطمة التى حولتها السينما إلى الأنسة حنفى

وجد أبو بكر أن الفكرة جيدة خاصة و أن المسلمين مأمورون بإبلاغ دين الله و محاربة الكافرين فأعطى له أمراً كتابياً بذلك ..

ولكن كما قلنا فالفرس كانوا ينظرون للعرب نظرة ازدراء و العرب أيضاً لعوامل تاريخية كان يشعرون دائماً بأن الفرس لا يقهرون فخشى أبو بكر أن ينهزم المثنى فتترسخ الفكرة فى نفوس المسلمين و لا يستطيعون أن يهزموهم مستقبلاً فعدل عن فكرته الأولى و قرر أن يطبق فكرة أخرى ..

قرر أن يعطى الراية لأفضل قادته العسكريين .. أرسل كتاباً إلى خالد بن الوليد يأمره بترك اليمامة و التوجه إلى منطقة الأُبُلَة و هو كان الميناء الأهم فى جنوب العراق و إمبراطورية الفرس ..

أمر أبو بكر الصديق خالد بأن لا يأخذ معه إلا من ثَبُت على الإسلام و أن لا يجبرهم على الذهاب .. أراد بهذا أن يكون الجيش تطوعياً و أن من يذهب لابد و أن يكون راغباً فى القتال لا مجبراً عليه ..

أنت ستهاجم أكبر قوة على وجه الأرض .. خالد كان معه فى اليمامة حوالى عشرة آلاف مقاتل .. لم يبق معه إلا ألفان فقط والباقي عاد لأهله .. أرسل إلى أبي بكر الصديق يخبره بالمستجدات .. حينها قال أبو بكر لمن حوله :

ائتوني بالقعقاع بن عمرو التميمى ليكون مع خالد

فرد عليه الصحابة و قالوا :

أَتُمد رجلاً انفض عنه جنوده برجلٌ واحد

فقال أبو بكر :

لا يهزم جيش فيه القعقاع

ثم قال :

لصوت القعقاع فى الجيش خيرٌ من ألف رجل

ثم أرسل رسائل إلى زعماء القبائل فى الجزيرة يحثهم على إرسال مقاتليهم لمساندة خالد فتجمع لخالد حوالى ثمان آلاف مقاتل بخلاف ألفين بقوا معه فصار العدد عشرة آلاف مقاتل

ولما رأت الجنود التى تركت خالد ما تجمع له خشيت أن يفوتها فضل الجهاد فرجعت له مرة أخرى هكذا تجمع لخالد بفضل الله ثمانية عشر ألف مقاتل هم من قرر التحرك بهم إلى وجهته  ميناء الأُبُلَة .. حينها أرسل رسالته إلى هرمز والتي أشرنا إليها سابقاً ..

هرمز كعادة قادة الفرس استهزأ برسالة خالد لكنه بعث إلى إمبراطور الفرس ليخبره بما كان فأمره بالتصدى لهؤلاء العرب و تلقينهم درساً لا ينسوه أبداً فحشد هرمز حوالى أربعون ألفاً من المقاتلين و خشى أن يبادره المسلمون فى الميناء فقرر الخروج لملاقاتهم فى  مدينة كاظمة لأن جواسيسه كانوا قد أخبروه بخط سير خالد و أنه فى طريقه إلى هناك ..

الفرس … 

جنود الفرس كانوا معروفون بهيئتهم .. أقوى جنود فى زمنهم و أكثرهم تسليحاً .. الجسد بالكامل مدرع بالإضافة لحملهم كل أنواع الأسلحة من أول القوس إلى السيف إلى الحراب وصولاً إلى الرماح و كرات الحديد المسننة ..

رائج :   اختبار قرآني شيق وبسيط || مسابقة من القائل من القرآن الكريم؟

بخلاف ذلك التجهيز كان الفرس يربطون بعض ممن يشكون فى ولائهم من العرب الموالين لهم بالسلاسل خوفاً من هروبهم من أرض المعركة ..

السلاسل كانت تجبر من يلبسها على القتال للنهاية لأنه لن يستطيع الهرب إذا ما مات أحد المربوطين معه فى السلسلة .. لهذا سميت تلك المعركة تاريخياً بـذات السلاسل ..

فى المقابل جيش المسلمين كان خفيفاً أغلبه من المشاة لا يحمل إلا سيفاً و درعاً و بعض المقاتلين لا يحملون إلا سيوفاً فقط دون دروع .. لما علم خالد بوصف جنود الفرس أدرك نقطة قوته و وضع خطته لملاقاة هُرمُز .. خالد وضع خطة عبقرية بحق ..

خالد حول جيشه إلى طريق نائى لا يسلكه إلا القليل من العرب فى شمال الجزيرة العربية و عن طريقه يمكنه الوصول إلى ميناء الأُبُلة فارتعب هرمز من وصول خالد إلى الميناء قبله خاصة و أن جيشه مدرع بشكل كامل و هو ما يبطئ حركته مقارنة بجيش خالد فأمر جيشه بالتحرك مباشرة إلى الميناء ..

فى المقابل أبطأ خالد المسير و تابع تحركات الفرس عن طريق عيونه الذين أخبروه أن جيش هُرمز قد وصل بالفعل إلى الأُبُلة فما كان منه إلا أن أمر جنوده بسرعة التحرك عائدين مرة أخرى إلى كاظمة ..

حينها صُدم هرمز من ذلك التصرف و أمر جيشه بالعودة أدراجه – مرة أخرى – ليلحق بخالد و لكن خالد كان قد وصل إلى كاظمة بالفعل و اختار مكان المعركة و أراح جنوده و نظم جيشه و استعد لوصول هرمز و جيشه ..

خالد أنهك جيش الفرس عن طريق إجباره على قطع المسافة من الأُبُلة إلى كاظمة ثلاث مرات قبل أن يواجهه ..

عند وصول جيش هرمز إلى كاظمة لم يمهله خالد وقتاً ليرتاح فيه فلما رأى هرمز جيش المسلمين جاهزاً للقتال نظم جيشه على عجل لملاقاته ..

وضع خالد نفسه فى القلب و وضع على الميمنة عاصم بن عمرو التميمى و وضع على الميسرة  عدى بن حاتم الطائى فى المقابل وضع هرمز نفسه فى القلب و وضع على الميمنة و الميسرة إثنان من أبناء الأسرة الحاكمة الفارسية هم قباذ و  أنوشَجَان 

و كما هى العادة قبل بدء المعارك فى ذلك الوقت كان يخرج مقاتل أو أكثر من كل جيش للمبارزة و من يفوز فى المبارزة ترتفع معنويات جيشه و تُعد نقطة فى صالحه قبل البدء فى المعركة .. ذلك اليوم خرج هرمز بنفسه للقتال صلفاً و غروراً منه و تقليلاً من جيش المسلمين خاصة بعد أن رأى أن أعدادهم قليلة مقارنة بجيشه .. من جانب المسلمين خرج له خالد بن الوليد رضى الله عنه ..

رائج :   من سير العلماء … الإمام الشافعي

هرمز لم يقف فى منتصف الطريق بل وقف على مسافة أقرب لجيشه ما يعنى أن خالد صار أقرب لجيش الفرس .. أراد هرمز تأكيد تفوقه النفسى فنزل من حصانه و طلب من خالد أن يقاتله على الأرض فوافق خالد ..

فى ذلك الوقت كان هذا معناه أن تلك المبارزة ستنتهى بمقتل أحدهما لأن الهروب قد يكون ممكناً فى حالة المبارزة على الحصان أما على الأرض فلا مهرب ..

بخلاف هذا فقد أعد هرمز مكيدة لخالد حيث جهز 5 فرسان وجعلهم فى الصف الثانى للجيش و أمرهم عند بدأ القتال أن يخرجوا ليحاصروا خالد فيقتلوه ..

بالطبع كان هذا فعلاً مشيناً و لكنه غير مستبعداً من شخص لعين مثل هرمز (الحرب خدعة) .. حين بدأ القتال خرج فجأة فرسان هرمز ليهاجموا خالد فأدرك وقتها انه قد دبر له كميناً و ظن أنه سيقتل لولا رحمة الله به وبالمسلمين ..

لمح بطلاً فى صفوف المسلمين ما حدث فتحرك مباشرة لإنقاذ خالد .. ذلك البطل كان القعقاع بن عمرو .. فوصل إلى خالد و كان شبه محاصر فقتل اثنين من الفرس و صد الباقين معه .. لم تمر دقيقة واحدة إلا و كان خالد قد قتل هرمز وهرب الباقي عائدين لصفوفهم ..

صدمة لم يكن يتخيلها أحد من الفرس خاصة أن هرمز كان بطلاً مغواراً عندهم و مبارزاً لا يشق له غبار فاستغل خالد حالة الإرتباك و أصدر أوامره بالهجوم الشامل فكانت المعركة متكافئة بين الطرفين على الرغم من ميل ميزان القوى لصالح الفرس ..

حينها حدثت بطولات من أبطال المسلمين يعجز القلم عن كتابتها من فرط استبسالهم و استطاعوا مع الوقت كسر صمود جيش الفرس من عدة أماكن مستغلين إنهاكهم الكبير جراء سفرهم الطويل ..

التراجع النسبى صار تراجعاً كاملاً ثم صار إنسحاباً حتى صار هروباً و صار الموت يحاصرهم من كل مكان وساهم فى زيادة أعداد قتلاهم السلاسل التي ربطوا أنفسهم بها ..

تلك كانت أول معركة و أول احتكاك بين المسلمين و الفرس .. لم تكن الأخيرة بالطبع فنحن مازلنا فى أول الطريق ..

  • أياماً معدودة و ستقع معركة النهر ..
  • ثم أياماً أخرى و تقع معركة الولجة ..
  • ثم معركة أليس قبل أن يصل خالد إلى الحيرة معقل العرب فى غرب الفرات ..

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

مقالات ذات صلة