هكذا شاءت الأقدارللراحل الكبير عبد الفتاح القصرى “صانع السعادة”أن يفنى عمره فى أضحاك الملايين ثم يبكى في أيامه الأخيرة وحده خلف قضبان من الحديد. أن يمضى حياته بين الناس الذين أحبهم وأخلص لهم ثم يرحل عن الدنيا وحيدا دون أن يودعه أحد.
إنها سيرة كوميديان أسعد الملايين كثيرآ بدأت بضحكات عالية ثم أنتهت بمأساة يصعب وصف أحداثها من شدة قسوتها.
عبد الفتاح القصرى من مواليد حى الجمالية بالقاهرة لأب كان يعمل فى زخرفة الذهب ولديه محله الخاص بمنطقة الصاغه.
جذور عائلة الراحل الكبير تمتد إلى العصر الفاطمى إستناداً إلى لقب (القصرى) فقدكان يطلق فى ذلك الوقت على كل من يعمل فى بلاط وقصور الحكماء والأمراء . وهناك رأى أخر يقول أن أصول عبد الفتاح القصرى تعودإلى صعيد مصر وبالتحديد من مدينه الأقصر وان لقب العائلة أشتق من نسبها إلى المدينة ( الاقصرى) وان المصريين هم الذين حولوه مع الزمن الى القصرى على سبيل التخفيف كما هى العادة.
وكغيره من نجوم عصره لا أحد يعرف على وجه اليقين تاريخ ميلاد عبد الفتاح القصرى.
لكن كل المصادر المتاحة تقول أنه من مواليد عام ١٩٠٦ .
قبل عمله بالتمثيل كان يهوى متابعة الفرق المسرحية ومن بينها فرقه فوزى الجزايرلى التى كانت تقدم عروضها على أحد مسارح الحسين .
والذى يهمنا هنا ان القصرى شأنه شأن معظم كوميديانات عصره حقق نقلة نوعيه مهمة بالتحاقه بفرقه الريحانى يكفى أن الريحانى هو الذى دفعه الى الإحتراف الكامل حين طلب منه ترك مهنه صناعة الذهب والتفرغ تماما للفن وعوضه فى سبيل ذلك بمرتب مغر وثابت ضمن له إستقرار حياته
ثم أن الريحانى هو الذى وضع يده على شخصيه المعلم أبن البلد التى صنعت شهرة القصرى حتى اليوم وهو الذى ظل يدعمها ويضمها من مسرحيه إلى أخرى بل وانتقل بها صاحبها الى شاشه السينما محققا من خلالها أقصى درجات النجاح الجماهيرى
ومن هنا كان طبيعيا أن يستمر القصرى فى مدرسة الريحانى حتى وفاة نجيب الريحاني عام ١٩٤٩ ثم يحاول التكييف مع مالك الفرقة الجديد بديع خيرى لكنه لم يستطيع فأنضم بعد سنوات الى فرقه إسماعيل ياسين عندإنشائها سنه ١٩٥٤ وأستمر بها حتى آخر دقيقه له على خشبه المسرح حيث بدأت مأساةحياته الأخيرة قبل وفاته سنه ١٩٦٤.
“البداية”
نعم لقد كانت مأساة إنسانية بكل المقاييس لرجل كان كل همه إسعاد الملايين فذاق من بعضهم أقصى ما يمكن أن يتحمله بشر.
رجل جعله القدر سببآ فى رسم البسمة والسعادة على الوجوه ثم كال له هذا القدر من صندوق العذاب والهوان مالا يطيقه بشر.
لحظة فقدان البصر ..
كانت بداية النهاية فى صيف 1962 حينما وقف القصرى على المسرح يؤدى أمام ملك الكوميديا إسماعيل ياسين مشهدا معتادآفي إحدى مسرحياته وعندما هم بالخروج من الديكور الجانبى للمسرح أظلمت الدنيا فى وجهه فجأة وأكتشف الرجل إنه قد فقد بصره.
بدأ يتحسس قطع الديكور وهو يصرخ بصوت عال( مش شايف) وظن الجمهورالمتواجد بالصاله أنه جزء من المسرحية فزاد ضحكهم وتصفيقهم للرجل الذى كان يعتصر من الألم وهناأدرك إسماعيل ياسين أخيرا هول المأساة فأخذ بيده الى كواليس المسرح.
لينفجر القصرى فى البكاء وهو يصيح ((مش شايف))((نظرى راح ياناس)) وعلى الفور تم نقله الى المستشفى حيث تبين أن إرتفاع نسبة السكرفي دمه هو المسؤول عن فقدانه بصره.
وبعد ثلاثة أشهر ونتيجة للعلاج المكثف عاد اليه بعض من بصره لكنه كان دخل فى دوامة أخرى أشد وطأة فقد أجبرته زوجته الشابه على تطليقها بل وأجبرته على أن يكون شاهد على زواجها من صبى البقال الذى ظل القصرى يرعاه لمده خمسة عشر عامآ.
والغريب والمفجع لهذا الرجل هو إقامة زوجته السابقة وصبي البقال في شقته وأمام عينيه دون ان يستطيع أن يحرك ساكنا .
تلك كانت الصدمة الشديدةالتي أفقدته عقله ودأخلته في دوامة الهزيان. وفى يوم ٢٤ يناير من عام ١٩٦٣ نشرت جريدة الجمهورية صورة مؤثرة للقصرى وهو يمسك باسياخ حديد شباك شقته الواقعة بالدور الارضى فى حارة جانبيه من حارات شارع النزهة المتفرع من شارع السكاكينى بالقاهرة وكتب بجانب الصورة كلمات نطق بها الراحل الكبير للصحفي الذي نشر تلك الصورة حيث قال:
“لقدبدأ الضوء والحياة يفارقان عيني وحياتي كلها”.
بعد نشر صورته خشيت مطلقته أن يشكوها لآحدويفتضح أمرها فأغلقت الباب عليه.
وأصبح هذا المسكين الذي أسعد الملايين يصرخ كل يوم من وراء النافذة يطلب من السكان سيجارة وطعام وصغار الصبيه بالحارة يضحكون ويستهزؤن به.
والزوجه السابقه وزوجها الجديد يخرجان كل يوم للتنزه بأمواله التي سلبوها منه عنوة.
وحينما حركت المأساه قلب الفنانه مارى منيب إصطحبت معها زميلتها الفنانه نجوى سالم وراحتا تزوران صديق العمر فى شقته المتواضعة ونشرت الجمهوريه تفاصيل الزيارة المثيرة يوم ١٣ يناير من عام ١٩٦٤ حيث إدعت إحدى صديقات مطلقته أن القصرى غير موجود فى الشقه فلم تسمح لهما السيدة بالدخول الا بعد معاناة
وبعد أن أخفت مطلقه القصرى نفسها ظهرت لتقابل مارى منيب مدعيه أنها تعامل مطلقهاأحسن معامله. وبعد الحاح وافقت السيدة على ان تأتى بالقصرى للقاء زائريه وعادت بعد ربع ساعة كاملة وهى تقود القصرى لتكشف مارى ونجوى سالم ومعها محمد دواره فداحة المأساة.
لقد فقد القصرى ذاكرته أو جزءا كبيرا منها , وفقد أيضا بصره وان كان يتضح انه يرى وعلى الفور قررت مارى منيب إدخال زميلها المستشفى على حسابها وأسرعت بالاتصال بمستشفى الدمرداش حتى تحجز له سريرا هناك
لكن المأساة لم تنته عند هذا الحد فقد عاد الرجل بعد أسابيع الى بيته ليكشف ان مطلقته باعت أثاث المنزل وتركته على البلاط وبعد أيام كان قد دخل من جديد الى مستشفى القصر العينى حيث أكد طبيبه المعالج د.ذكى سويدان إصابته بتصلب الشرايين وأن هذه الإصابة قد أثرت على اجزاء كبيره من المخ مما أدى إلى فقدانه للذاكرة وإصابته بالهزيان الشديد
على الجانب الأخر كانت البلديه قد وضعت الشمع الأحمر على البيت الذى يسكن فيه تمهيدا لازالته فأصبح الرجل ليس فقط أسير محنه المرض فقط وانما بلا مأوى أيضا.
نجوى سالم
وضربت نجوى سالم مثلا رائعا فى الوفاء حيث سارعت على الفور بمخاطبه كل الجهات لانقاذ القصرى فقررت نقابه الممثلين وقتها صرف إعانه عاجله قدرها “عشرون جنيها” ولم تنسى النقابه المشكوره أن تخصم منها مبلغ سبعه جنيهات قيمه إشتراكات متأخرة على القصرى
كما قررت النقابة أن تصرف له معاشا شهريا قدره عشر” جنيهات” وسعت نجوى سالم أيضا لدى صلاح الدسوقى محافظ القاهرة وقتها فحصلت للقصرى على شقة بالمساكن الشعبية فى منتطقه الشرابية ايجار “٢٨٠” قرشا فى الشهر
دفع الأديب الكبير يوسف السباعى من جيبه خمسون جنيها لشراء غرفة نوم حتى يجد القصرى سريرا ينام عليه كما وفرت له نجوى سالم جهاز تليفزيون ١٤ بوصه عن طريق صلاح عامر رئيس مؤسسة السينما والمسرح والتليفزيون
غير أن هذا كله لم يكن كافيا اذا كان علاج القصرى يحتاج الى نفقات دائمة فقادت الفنانة هند رستم حملة بين الفنانين للتبرع لعلاج زميلهم
ونشرت جريدة الجمهورية وقتها اسماء المتبرعين للراحل الكبير منهم :
- فريد الاطرش (١٠٠ جنية )
- عبد الحليم حافظ (٥٠ جنيها )
- كل من شركة دولار فيلم وشركة الشرق ( ٣٠جنيها )
- كل من جمال الليثى وجبرئيل تلحمى (٢٥)
- وكل من شادية وعباس حلمى (٢٠)
- حلمى رقلة (١٥)
- مارى كوينى(١٠جنيه)
- خمسة جنيهات كل من مريم فخر الدين أحمد مظهر وحسن رضا .
يكفى الاشارة هنا الى ان عبد الحليم حافظ ( لم يعمل مع القصرى قط) ومحمد الكحلاوى هما فقط اللذان زاراه فى غرفته المتواضعة بمشفى الدمرداش بالاضافه طبعا الى نجوى سالم التى كانت لا تفارقه وتقسم معه لقمة عيشها
حينما وضع القدر نهاية لتلك المأساة واعلنت مستشفى المنيرة فى التاسعة من صباح الاحد الثامن من مارس ١٩٦٤ وفاة عبد الفتاح القصرى بعد أيام من دخوله اليها لم تجد شقيقتة ( بهية ) بجوارها فى جنازته سوى نجوى سالم وصديقين له هما قدرى المنجد وسعيد عسكرى الشرطة
وفى الطريق الى مدافن باب النصر توقفت السيارة لتلتقط رجلين أخريين ( حلاق وترزى ) ليحمل الرجال الاربعة على جثمان القصرى ويشيعوه الى مشواره الأخير.
والشئ المضحك حد البكاء ان مصلحة الضرائب بحثت بعد عام ١٩٧١ عن شقيقة القصرى بعد سبع سنوات من رحيله المفجع لتطالبها بمبلغ ( ١٤٨٢ جنيه و ٢٢٠ مليما ) قيمة الضرائب متأخرة على الرجل الذى افنى عمره فى خدمة الفن وعاش أشهره الأخيرة معدما من كل شئ.
الصحة والمال ووفاء الزوجة والاصدقاء.
- رحل القصرى بعد ان قضى عليه الأكتئاب النفسي والمرض وقلة الوفاء وخيانة الزوجة.
- رحل ابن البلد الذى يحمل بين طياته شفافيه ونقاء وخفة دم ومرح اولاد الحارة المصرية الأصيلة.
- رحل الرجل الذي أسعدنا جميعآ بأعماله الخالدة وترك كنوزآستظل خالدة في تاريخ السينما العربية لرجل يعد من عظماء الكوميديا في القرن العشرين.
- رحمه الله وجعل كل آلامه في موازين أعماله