أجمل رسائل بريد الجمعة

طــــــريق العـــودة ! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أريد أن أكتب إليك قصتي وألتمس لديك النصيحة‏..‏ فأنا رجل في الثانية والأربعين من عمري ‏..‏ نشأت في أسرة متوسطة لأب يعمل موظفا بإحدي عواصم الأقاليم‏ ..‏ ويملك محلا تجاريا ورثه عن أبيه ويديره إلي جانب عمله ‏..‏

وكنت الابن الوحيد لأبي وأمي مع ثلاث بنات ‏..‏ واستمتعت دائما بحبهما ورعايتهما الخاصة لي‏,‏ وبالرغم من أنني لم أكن أكبر إخوتي وإنما الثالث في الترتيب ‏..‏ فلقد أصبحت لي بين شقيقاتي مكانة سامية باعتباري الذكر الوحيد بينهن ‏..‏ وبسبب حنان أمي الزائد علي ‏..‏ وضعف أبي العاطفي تجاهي ‏..‏ فأفضل الأشياء تأتي لي أولا قبل شقيقاتي ‏..‏ وأجمل الهدايا يخصني بها أبي وأمي دونهن‏ ..‏ وعيد ميلادي يتحول كل سنة إلي احتفال قومي ‏..‏ وأمي تغضب ممن يخطئ فيناديها بأم فلانة إشارة إلي شقيقتي الكبري

‏..‏ وتعتز بلقبها الذي ينسبني إليها دون غيره‏,‏ وبالرغم من حب شقيقاتي لي فلقد كن في بعض الأحيان يشكون من تمييز أبي وأمي لي ومحاباتهما لي علي حسابهن‏ ..‏ ويعاتبن أباهما وأمهما في ذلك‏,‏ فلا يلقين منهما إلا الاستنكار‏,‏ والاتهام بالغيرة مني‏ ..‏ بل والخصام لهن أحيانا إلي أن يعتذرن عن سوء أدبهن ‏..‏ فإذا أراد أبي أن يسترضيهن قال لهن إنني الولد الوحيد بينهن‏..‏ ومن الضروري أن يؤكد شخصيتي لكي أقوم بدور رجل الأسرة من بعده‏..‏ وأحمي شقيقاتي من عوادي الأيام‏..‏ فلا يملكن إلا الموافقة علي ما يقول‏..‏ وبالفعل فلم أكد أصل إلي سن المراهقة‏,‏ حتي صرت أهم شخصية في أسرتي وصاحب الكلمة المسموعة فيها‏..‏ ولا يجرؤ أحد علي معارضتي‏,‏ فأبي وأمي يتفاديان إغضابي بكل وسيلة‏..‏ وشقيقاتي يسلمن بالأمر الواقع‏..‏ ويحملن لي الحب بالرغم من كل شيء‏..‏

وكانت شقيقاتي متفوقات في الدراسة وينجحن كل سنة بسهولة‏,‏ ولا يسببن أية مشاكل لأبي وأمي من هذه الناحية‏..‏ أما أنا فلقد كنت أمضي في دراستي بصعوبة شديدة‏..‏ وأضيق بأوقات المذاكرة وأستعين بالدروس الخصوصية‏..‏ وأنجح مرة وأرسب مرة‏,‏ فإذا رسبت فلا إشارة من بعيد أو قريب إلي فشلي أو تعثري وإذا نجحت بصعوبة‏,‏ انهالت علي الهدايا والنقود وأقيمت الأفراح‏..‏ إلي أن حصلت علي الثانوية العامة بمجموع ضعيف والتحقت منتسبا بكلية نظرية‏,‏ وحصلت علي شهادتي ونجح أبي قبل إحالته للمعاش في تعييني بجهة عمله‏,‏ لكي أكون قريبا من تجارته وأشاركه فيها ‏..‏ ثم خرج أبي للمعاش وتفرغ لعمله التجاري وتوسع فيه وأشركني معه‏..‏

وخطبت شقيقتي الكبري والشقيقة الوسطي لشابين مناسبين وبدأنا نستعد لإتمام زواجهما‏,‏ فإذا بأبي يغمي عليه فجأة في المحل ‏..‏ وينقل إلي البيت فلا تمضي ساعة حتي يكون قد لقي وجه ربه‏ ..‏ ووجدت نفسي أمام المسئولية التي أعدني لها أبي من البداية ‏..‏ وكان زواج الشقيقتين هو أول اختبار كبير لي ‏..‏  فقلت لهما إنني سأتحمل مسئوليتي تجاههما بحيث لا تتأثر التجارة بتكاليف الزواج‏..‏ وأعددتهما للزفاف علي نحو رأيته مناسبا للظروف ورأتاه هما أقل بكثير من المطلوب والممكن‏.‏

ونشبت بيني وبينهما بعض الخلافات ‏..‏ فاتهمتاني بالتقطير عليهما‏ ..‏ وتمادت الكبري تطالب بحقها في التجارة وفي البيت الذي نملكه ونقيم فيه ونؤجر بعض شققه ‏..‏ وفي قطعة أرض للبناء تركها أبي‏,‏ لكني رفضت توزيع التركة علي هذا النحو لكيلا تتفتت وتضعف التجارة ‏..‏ وساندتني أمي بالطبع ضدهما‏,‏ وتدخل بيننا بعض الأقارب‏,‏ فلم أتنازل عن موقفي وانتهي الأمر برضوخهما وفي نفسيهما شيء من المرارة تجاهي ‏..‏ ونبهني تجرؤ الأخت الكبري علي مطالبتها بحقها في الميراث إلي التخوف من أن يتدخل الغرباء بيننا في المستقبل للمطالبة بمثل ذلك‏,‏ وأقصد بذلك أزواج الشقيقات‏..‏
وكنت قد عرفت بعد وفاة أبي أن أرض البناء مكتوبة باسم أمي وكتمت ذلك عن شقيقاتي تحسبا للأيام ‏..‏ فطالبت والدتي بنقل ملكيتها لي بدون علم الشقيقات‏,‏ لكي أحمي ميراث أبي من طمع أزواج البنات‏,‏ واستجابت لي أمي بعد بعض التردد‏ …‏

وجاء الدور علي شقيقتي الصغري لكي تخطب وتتزوج‏,‏ فتكرر معها ما حدث مع الأخريين ولكن بصورة أقل حدة لأنها مسالمة بطبيعتها وتكره الشقاق‏.‏
وبمجرد زواجها وقبل أن تنفجر المشكلة بدأت أنفذ ما اعتزمته وصارحت أمي بنيتي‏,‏ وترددت كالعادة في البداية‏,‏ لكني زمجرت في وجهها متسائلا‏:‏ هل تريدين أن يظفر أزواج البنات بثمرة كد أبي وكفاحك معه علي طول السنين‏,‏ فلم تحتمل غضبي ومعارضتي ووافقتني علي ما أريد‏,‏ وبدأت بتغيير السجل التجاري باسمي‏,‏ ثم عقد ايجار المحل‏,‏ ثم بدأت جهودي لنقل ملكية البيت‏,‏ وحصلت علي توقيع شقيقاتي علي توكيل عام لي لفترة محددة‏,‏ بعد إقناعهن بأنني سوف أسوي به مشكلة الضرائب وعوائد البيت المتراكمة‏ ..‏ وأبيع الأرض لتوزيع ثمنها علي المستحقين‏,‏ وبمساعدة أمي استجبن ووقعن بالرغم من تشككهن الصامت‏,‏ وجاءني زوج الكبري محتجا ومطالبا بسحب توقيع زوجته فأهنته وطردته من المحل‏.‏

ومضيت فيما اعتزمته إلي أن تمت الإجراءات ‏..‏ وأثبت لشقيقاتي حسن نيتي‏,‏ فبدأت أدفع لكل منهن مرتبا شهريا صغيرا‏,‏ باعتباري قد تجاوزت صعوبات البداية واستقرت أحوال التجارة‏.‏
ووجدت من حقي بعد ذلك أن أتزوج فتزوجت من موظفة تعرفت عليها عن طريق العمل ‏..‏ واعترضت أمي عليها وعلي مستوي عائلتها لكني لم أجد صعوبة كبيرة في إقناعها‏ ..‏ وانضمت زوجتي إلي بيتنا ‏..‏

وبعد إنجابي لطفلي الأول بدأت المشاكل بين أمي وزوجتي ‏..‏ وتحولت حياتي إلي جحيم‏ ..‏ فأمي تتهم زوجتي بعدم احترامها وتتهمني بعدم حمايتها من وقاحة زوجتي ‏..‏ وزوجتي تتهمني بالضعف مع أمي وتقاعسي عن حفظ كرامتها إلي آخر هذه القصة الشائعة‏.‏

إلي أن جاء يوم وطلبت مني أمي أن أبحث لنفسي عن مسكن آخر لأنتقل إليه مع زوجتي لكي تقضي ما بقي لها من عمر في سلام ‏..‏ لكن كيف السبيل إلي ذلك ‏..‏ والحصول علي شقة أخري سيكلفني الكثير ويرهق تجارتي‏,‏ فاقترحت عليها أن أبني لها شقة من غرفة وصالة فوق السطح فاستاءت للاقتراح وبكت كثيرا ثم قبلت في النهاية وأصبحت لها شقة صغيرة‏ ..‏ وتم فك الاشتباك بينها وبين زوجتي‏,‏ لكنه ومنذ ذلك اليوم استقرت المرارة في نفس أمي تجاهي وقالت لي إنها لن تغفر لي إخراجها من بيتها الذي أفنت فيه عمرها لكي تنفرد به تلك الصعلوكة التي تزوجتها‏..‏ كما أصبحت دائمة الشكوي من غيابي عنها وعدم رعايتي لها وتتهمني بالتلكؤ في تلبية طلباتها‏.‏

وبعد عامين من انفرادها بهذا المسكن رحلت عن الحياة دون أن أنجح في إزالة المرارة من نفسها ‏..‏
وبعد شهور من رحيلها فوجئت بشقيقاتي يطلبن مني أنصبتهن في تركة أبي بدعوي أن أبناءهن قد كبروا وكثرت مطالبهم وأزواجهن موظفون ومرتباتهم محدودة‏.‏

وجاءت اللحظة التي تخوفت من مجيئها أكثر من عشر سنوات‏ ..‏ ولم أجد مفرا من مجابهتهن بأنهن لايملكن شيئا‏,‏ وأن كل شيء باسمي‏,‏ وأن ما أعطيه لهن حتي ولو كان قليلا فإنه من باب المساعدة‏.‏ وليس من باب الحق‏..‏ وانفجرت العاصفة‏..‏ وتدخل بيننا الأزواج والأهل‏..‏ ولجأت شقيقاتي إلي زوجتي لكي تتدخل لدي فاعتذرت بأنها لاتريد التدخل بين الأشقاء ‏..‏ وحثتني سرا علي ألا أضعف أمامهن لأن لدينا أطفالا وهددت شقيقتي الكبري برفع قضية ضدي فانفجر بركان غضبي واعلنتها بقطع المساعدة عنها وعن اختيها مادمن يتنكرن للجميل ونفذت ذلك‏!‏

وحل الخصام بيني وبين شقيقاتي منذ ذلك اليوم‏,‏ وقاطعنني وقاطعن زوجتي وبيتي وأصبحت اذا التقيت بإحداهن في الطريق اشاحت بوجهها بعيدا عني‏.‏ ولم آبه لذلك وإن كنت رحت اشكو منهن ومن جحودهن لكل من ألتقي به من الاهل والأقارب

وفي هذه الاثناء اقترحت علي زوجتي ان انقل البيت والارض الي اسمها حتي اذا نازعتني شقيقاتي لم يجدن باسمي سوي التجارة التي يصعب إثبات حقهن فيها‏,‏ وعلي ان آخذ منها الضمانات الكافية لإثبات ملكيتي لهما واستردادهما فيما بعد‏,‏ وكدت افعل ذلك ثم فضلت في اللحظة الأخيرة ان انقل قطعة الارض وحدها الي اسمها ‏..‏ واتخذت الاحتياطات اللازمة‏,‏ فاستكتبتها ايصال امانة بقيمة الارض واحتفظت به‏.‏
فمضت الايام دون ان تنازعني شقيقاتي في المحاكم وقيل لي إنهن رفضن ذلك بالرغم من تحريض بعض ازواجهن لهن احتراما لذكري أبينا وأمنا ـ وشعرت بالاطمئنان من هذه الناحية فرأيت ان استعيد قطعة الارض من زوجتي واعرضها للبيع وأضع ثمنها في البنك واتوسع بجزء منه في التجارة وطلبت من زوجتي مرافقتي الي الشهر العقاري لإتمام ذلك‏,‏ فلم تجد مبررا للاستعجال وطالبتني بالتمهل حتي نتأكد أولا من زوال الخطر نهائيا ‏..‏

وبعد شهور أخري كررت عليها الطلب ‏..‏ فكررت الرجاء بالانتظار فترة أخري ‏..‏ وفي هذه اللحظة ساورني الشك لأول مرة ‏..‏ فاتجهت الي الدولاب الذي أحتفظ فيه بأوراقي واضع علي بابه قفلا كبيرا وبحثت في الاوراق لأطمئن علي ايصال الأمانة‏,‏ فإذا به قد اختفي وسألت زوجتي عنه فقالت إنها لاتعرف عنه شيئا‏.‏

وتحركت الهواجس داخلي لكنني كتمت مشاعري وتظاهرت بالاستهانة بالأمر وطلبت منها الذهاب معي للشهر العقاري لنقل ملكية الارض‏,‏ علي أن اعطيها ورقة أخري تلغي أثر الايصال وتثبت انه لاتوجد اي ديون لي عليها‏,‏ ففوجئت بها تقول لي في برود شديد إنها لن تفعل ذلك إلا اذا أعدت إليها أولا ايصال الأمانة الذي وقعته وصرخت فيها‏:‏ ألا تثقين في؟ فأجابتني بنفس السؤال‏:‏ أولا تثق أنت في؟

وانفجرت المشاكل بيننا كل يوم بعد ذلك‏,‏ وبذلت المستحيل لاقناعها بما أريد واحضرت لها محاميا في البيت ليعرض عليها صيغه الإقرار الذي سأوقعه لها دون جدوي‏,‏ ففقدت صبري في النهاية وانهلت عليها ضربا ورفعت سكين المطبخ في وجهها‏..‏ وعلا الصراخ وبكاء الأطفال‏..‏ وتبادلنا أقذع السباب والاتهامات‏..‏ واتهمتها بسرقة ايصال الامانة واغتصاب الارض‏,‏ فلم تتورع عن ان تقول لي إنني سرقت شقيقاتي فجن جنوني وهجمت عليها فأسرعت بالفرار بملابس البيت الي الشارع‏,‏ ولم تمض ساعة حتي فوجئت بشقيقيها يهجمان علي مسكني ويتضاربان معي‏,‏ وتجمع الجيران‏..‏ وجاءت الشرطة واصبحت فضيحتنا بين الجيران مدوية وانتهي الأمر بطلاقي لها‏..‏ وضياع قطعة ارض ثمنها ربع مليون جنيه ووجدت نفسي في دوامة من قضايا النفقة‏..‏ والاعتداء بالضرب وتبديد المنقولات ومشاكل حضانة الأطفال‏..‏ ورؤيتهم‏..‏ الخ

وتحولت حياتي الي منازعات مستمرة واستدعاءات الي قسم الشرطة وحضور لجلسات المحاكم‏..‏ ومقابلات مع المحامين‏..‏ وتقديم الطعون في الأحكام‏..‏ والهروب من البيت من حين لآخر للمبيت في الفنادق الرخيصة فرارا من تنفيذ حكم وكل مايمكن ان تتصوره من البهدلة‏..‏ وقد تكشفت زوجتي التي عاشرتها عشر سنوات عن نمرة شرسة لاترعي حرمة لأحد او لشيء ولا هم لها إلا ابتزاز اكبر قدر ممكن من المال مني‏,‏ او سجني وبهدلتي‏,‏ وفي غمرة ضيقي بكل شيء ضعفت فعرضت عليها ذات يوم ان نتنازل عن القضايا المتبادلة واسلم لها بملكية الارض واكف عن مطالبتها بها ونرجع لحياتنا الزوجية من اجل اطفالنا بعد كل ماحدث فإذا بها ترفض باصرار‏..‏ وتصر علي مواصلة النزاع بدعوي أنها لاتأمن علي نفسها معي بعد ما حدث‏!‏

وعشت ثلاثة اعوام من الجحيم تركت بصماتها الغائرة علي حياتي كلها‏..‏ وخرجت منها بمرض السكر وارتفاع الضغط والصداع الدائم والخسائر المادية الكبيرة حتي كدت اشهر إفلاس التجارة‏ ..‏ لولا أن تماسكت في النهاية وعدت للتركيز في العمل واجتزت الفترة الصعبة واستطعت تعويض بعض الخسائر‏.‏

وفي وسط متاعبي واحزاني تلفت حولي فوجدتني أعيش في بيت الأسرة وحيدا بلا زوجة ولا اسرة ولا اطفال‏,‏ وليس حولي احد من شقيقاتي أو اقاربي ‏..‏ وتذكرت النظرة المريرة في عيني أمي خلال عاميها الأخيرين‏ ..‏ ونظرات القهر والحسرة في عيون شقيقاتي في آخر لقاء لي معهن وسألت نفسي‏:‏ كم مضي من السنين دون أن اراهن او اتحدث إليهن او تتصل بي احداهن واكتشفت لدهشتي انه قد مصت ست سنوات كاملة وانا مقطوع من الأهل‏..‏ وتساءلت‏:‏ هل يمكن ان يجيء اليوم الذي تنسي فيه شقيقاتي كل ماحدث بيننا ونرجع اخوة متعاطفين كما كنا في الايام السعيدة؟

إن كلا منهن تعيش حياتها في حدود دخل زوجها لكنهن يعشن جميعا في امان وسلام ومودة مع أزواجهن وأبنائهن‏,‏ ويتزاورن فيما بينهن ويزورهن الاهل والاقارب ويزرنهم‏.‏
وأنا أعيش وحيدا كالكلب الأجرب بلا أسرة ولا ابناء ولا شقيقات‏,‏ ولا اقارب‏..‏ ولا احترام من الأهل الذين استاءوا مني جميعا لما حدث مع شقيقاتي‏,‏ كما انه ليس لي اصدقاء بالمعني المفهوم‏..‏ وإنما زملاء في العمل ومعارف من التجارة وقد كرهت النساء من مرارة ما فعلته بي زوجتي السابقة‏..‏ وكرهت الزواج وسيرته‏..‏

فهل استطيع ذات يوم إصلاح ما أفسده النزاع بيني وبين شقيقاتي‏,‏ لقد اخطأت في حقهن لاشك في ذلك‏,‏ ولقد اعترفت لك بكل مافعلت ولم انكر منه شيئا ولم ادع البراءة‏.‏ واطلت في الحديث عن نشأتي وتمييز ابي وامي لي‏,‏ لكي تتفهم بعض اسباب سلوكي معهن‏..‏ لكن هل يبوء الإنسان بما فعل الي نهاية العمر؟ أولا من طريق للصفح والنسيان واستعادة الود القديم؟‏.‏ وهل هناك امل في ان تكون لي حياة جديدة بعد ما شهدت حياتي في الفترة الأخيرة من أهوال‏,‏ خاصة أن مطلقتي قد تزوجت من شخص آخر وانجبت منه وتنعم معه الآن بما اغتصبته من مالي‏,‏ في حين يعيش طفلاي بموافقتي مع جديهما لامهما ولا اراهما إلا يوم الاحد من كل أسبوع؟
فهل تكتب الي شقيقاتي كلمة تدعوهن فيها الي فتح صفحة جديدة معي خاصة‏,‏ وانني معترف الآن بأخطائي في حقهن وعلي استعداد ان اعلن ذلك لهن وأطلب عفوهن؟

رائج :   الأشواق الحبيسة ! .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

كل مانفعله في حياتنا نجزي عنه في الارض او في السماء او في كليهما معا‏.‏ فالحياة ليست اعتباطية كما يتصور البعض وإنما نحن نجني غالبا ثمار مازرعناه بأيدينا ولايفلت أحد ابدا بجريمته حتي ولو تأجل العقاب‏.‏

ولقد احسنت حين اسهبت في شرح ظروف نشأتك لكي تطلعنا علي جذور هذه الشخصية الانانية التي تشكلت فيك منذ الصغر‏,‏ واسهم والداك ـ غفر الله لهما ـ في تأكيدها لديك‏,‏ بدعوي إعدادك للقيام بدور الأب بعد أبيك وحماية شقيقاتك من غوائل الأيام‏,‏ فأسرفا في تدليلك وتمييزك بغير حق علي اخواتك فكأنما كانا يعدانك بهذه التربية الخاطئة لعكس الغرض الذي ينشدانه منها‏,‏ وخرجت الي الحياة بنفسية اعتادت التميز علي الاقربين‏,‏ واستحلال حقوقهم ‏..‏ والاستئثار بها دونهم‏,‏ فكان ماكان من امرك مع شقيقاتك ‏..‏ فأي عجب اذن ياسيدي في ان تضطرب احوالك علي هذا النحو فتفقد حياتك العائلية المستقرة ‏..‏ وتخسر بعض المال المغتصب علي يد من لم يترفق بك‏,‏ كما لم تترفق انت بشقيقاتك‏,‏ وتكابد الوحدة‏ ..‏ والانقطاع عن الاهل‏ ..‏ وابتعاد الشقيقات عنك‏.‏ ألسنا ندفع دائما ثمنا عادلا لأفعالنا واختياراتنا في الحياة؟

أو لم يكن في مقدورك أن تختار الطريق القويم فتكون أبا لشقيقاتك‏..‏ وتترفق بهن وتؤدي إليهن حقوقهن وترعي شئونهن‏..‏ فتفوز منهن بالحب والمنزلة الرفيعة والدفء العائلي الثمين‏..‏ وتحظي من الأهل والأقارب بالمودة والاحترام‏..‏ ولم تكن لتفقد سوي بعض ما فقدته بالفعل حين اغتصبته منك زوجتك السابقة؟‏..‏ لقد كان أقصي ما تحلم به شقيقاتك هو أن تعرض تلك الأرض للبيع وتوزع عليهن أنصبتهن العادلة في ثمنها‏..‏ أما البيت فمن العسير بيعه وتقسيمه لأنه مأواك الوحيد‏,‏ وأما التجارة فإن تفتيتها لم يكن مطروحا للنقاش‏.‏
فهل كانت الاستجابة لمطلبهن هذا أمرا عسيرا إلي هذا الحد؟

لقد عجبت لموقف والدتك مما فعلت بشقيقاتك أكثر من عجبي لتطلعك أنت للاستئثار بكل شيء دونهن‏,‏ ذلك أنها قد شاركت فيه بالنصيب الأوفر بمسايرتها لك في مخططك راضية أو كارهة‏,‏ وبصمتها علي نيتك وكتمانها لما اتخذت من خطوات علي طريق اغتصاب حقوق شقيقاتك‏,‏ ودون أن تردك عن ظلمك أو تقاومه بأي شكل من أشكال المقاومة‏..‏ أو تحذر منه بناتها ليتخذن من الإجراءات ما يدفع عنهن هذا الظلم ‏..‏ ولم تكتف بجنايتها عليهن في التنازل عن قطعة الأرض لصالح الابن المحبوب دون أخواته‏,‏ وإنما شاركت بعد ذلك أيضا فيما يسميه خبراء العلوم السياسية بمؤامرة الصمت ويعتبرونه أسوأ أنواع المؤامرات‏,‏ لأن المرء يري فيه إنسانا يحضر لاغتيال آخر أو النيل منه وبدلا من أن يرده عن غيه أو يحذر الضحية منه‏,‏ فإنه يسكت علي ما يراه ويتكتمه ويبخل حتي بالتحذير الذي لا يكلفه شيئا لإنقاذ الضحية‏,‏ فإذا كان هذا الأمر مرفوضا ومدانا مع الغرباء فكيف يكون الحال إذن بالنسبة لفلذات الأكباد؟

وكيف كان المصير بعد أن اعانتك والدتك علي ظلمك لبناتها وأثقلت ضميرها بهذا الاثم المبين؟‏.‏ هل لقيت منك التكريم والرعاية إلي ما لا نهاية أم رحلت عن الحياة حسيرة القلب وفي نفسها غصة مريرة منك؟ لقد نفيتها إلي سطح المنزل تخلصا من المشاكل المألوفة بين الزوجة الشابة وأم الزوج وزعمت أنك قد بنيت لها شقة صغيرة من حجرة وصالة فوق سطح البيت فضا للاشتباك بينهما‏..‏

وأغلب الظن أنك قد أضفت إلي حجرة السطح المقامة من الأصل لخدمة أصحاب المنزل بعض المرافق وبابا واعتبرتها مسكنا صغيرا مناسبا لوالدتك‏,‏ وأنت تعلم جيدا أنه لم يكن من الرحمة أن تخرجها هي من مملكتها التي أقامتها بكدح السنين وعاشت فيها معظم سنوات عمرها وأن العدل كان يقتضي أن توفر لنفسك مسكنا مستقلا في الجوار القريب وأنت القادر علي ذلك لكي يظل بيت الأم مفتوحا للنهاية لبناتها وأزواجهن وأحفادها وأقاربها‏.‏

هذا عن والدتك التي ظلمت شقيقاتك من أجلك واعانتك علي ظلمك لهن‏,‏ فماذا عن زوجتك السابقة التي تقول إنها تنعم الآن بما اغتصبته من مالك مع زوج آخر؟ إن الأحري في البداية هو أن تقول انها تنعم بمالك ومال شقيقاتك المغتصب من الأصل‏,‏ وليس بمالك وحدك ‏..‏ وبعد ذلك لابد من أن نعترف بأنها كانت منطقية إلي حد كبير مع نفسها ومع القيم الأخلاقية السائدة في وسطها العائلي ووجدت صدي مماثلا لها في مسكنك؟ فلقد شهدتك عن قرب تغتصب مال شقيقاتك وتنفجر فيهن مغاضبا ومتوعدا وكأنك صاحب الحق المهضوم وليس الجاني‏ ..‏

كما شهدتك تقطع عنهن أيضا النزر اليسير من المال الذي كنت تعطيه لهن اتقاء لشكوكهن في نياتك وحماية لمخططك الذي تعد له في صبر ودأب‏,‏ فأعانتك علي ما تفعل وشجعتك عليه وربما تكون قد اشادت أيضا بذكائك وقدرتك علي تحويل الحق إلي باطل والباطل إلي حق دون أن تطرف لك عين‏,‏ ثم جاءتها الفرصة الذهبية لكي تنال جزءا من هذا الحق المغتصب‏..‏ فكيف كنت تتصور أنها سوف تتردد في اقتناصه دونك والتمسك به حتي النهاية ولو فقدت في سبيل ذلك زوجها واستقرار طفليها‏!‏

إنها تحكمها نفس القيم الأخلاقية التي سمحت لك باغتصاب حقوق شقيقاتك ومغاضبتهن ومقاطعتهن ست سنوات وحرمانهن من المساعدة البسيطة التي كانت تعينهن علي حياتهن‏,‏ ولقد كانت تتعامل معك خلال انفجار العاصفة بينك وبينهن بمنطق زميل المهنة المعجب بقدراتك المهنية‏,‏ وليس بمنطق الزوجة الحريصة بحق علي زوجها وأطفالها‏,‏ وعلي أن يكون مطعمها ومشربها هي وأطفالها من حلال وليس من حرام‏,‏

ولقد ذكرني تعاونكما معا خلال هذه الفترة بما قاله الروائي الفرنسي لاكلو في روايته العلاقات الخطرة عن المركيزة وصديقها اللذين كانا يتآمران معا علي الكونت الشاب لأسباب مختلفة‏,‏ فوصفهما بقوله‏:‏ لقد كانا مثل لصين يعملان معا ويجمعهما تقدير متبادل من كل منهما للآخر لعمله‏..‏ لكنه تقدير لا يرقي أبدا إلي حد الثقة‏!‏

لهذا فلقد كان من المضحك حقا أن تصرخ فيها متسائلا وقت سقوط الأقنعة‏:‏ ألا تثقين في؟ فترد هي عليك بنفس الانفعال‏:‏ أو لا تثق أنت في؟ وكأنما قد كان هناك مجال من الأصل لثقة أحدكما في الآخر‏..‏ وهو كما يراه صاحبه علي حقيقته ويلمس عن قرب نوع مثالياته وأخلاقياته؟ واحدكما يغتصب مال شقيقاته بلا حياء ويقهر أمه في أيامها الأخيرة‏..‏ والأخري تشجعه علي ذلك وتحثه عليه بدلا من أن ترده عنه‏.‏

فإذا كانت زوجتك قد أصابت في قول أو فعل ففي شيء واحد فقط هو قولها لك إن من يسرق شقيقاته لا يؤتمن علي زوجته‏,‏ فهذا حق لا نزاع فيه‏..‏ ثم في تخوفها من العودة إليك حتي ولو سلمت لها بملكية الأرض لأنها لا تأمن علي نفسها معك ‏..‏ وهذا أيضا حق لا مراء فيه لانك بحبك الشديد للمال وعدم تعودك لأن يعترض أحد طريق رغباتك لم تكن لتسلم باليأس أبدا من محاولة استرداد الأرض المغتصبة منها ولم يكن مستبعدا أن تدبر لها في صبر وصمت ما ترد به إليها الصاع صاعين‏,‏ ولربما وصل الأمر إلي حد ارتكاب جريمة‏,‏ فأي مجال إذن للحديث عن الثقة في مثل هذه الظروف؟

وهل لمست الفارق الرهيب بين شقيقاتك الفضليات اللاتي تعففن عن مقاضاتك في المحاكم أو الشكوي منك إلي الشرطة حين اكتشفن اغتصابك لحقوقهن‏,‏ وبين ضراوة زوجتك السابقة في الدفاع عما اغتصبته هي منك وملاحقتها لك بالشكاوي والقضايا والأحكام لاستئدائك أكبر قدر ممكن من المال ناهيك عن تبادل أقذع السباب والشتائم معك وتحريض أخويها علي الاعتداء عليك‏!‏

وأخيرا فإنك تتساءل‏..‏ هل يمكن إصلاح ما فسد بينك وبين شقيقاتك بعد كل ما حدث‏..‏ وخاصة أنك تعلن استعدادك للاعتراف لهن بأخطائك في حقهن؟ وجوابي هو أن الاعتراف بالذنب بل والندم أيضا عليه لا يكفيان وحدهما للتكفير عن مثل هذه الخطايا إذا كان الأمر يتعلق بحق للآخرين علينا‏..‏ وإنما لابد من أن يضاف إلي ذلك أيضا إبراء الذمة من هذا الحق‏,‏ إما برده إلي صاحبه وهو الأفضل والمندوب إليه‏..‏ وإما بالتحلل منه‏,‏ بمعني أن يطلب الغاصب من صاحب الحق أن يعفو عنه ويتنازل له عنه ويحله من إثمه‏,‏ فإذا فعل ذلك بنفس راضية وبغير إجبار أو إحراج‏..‏ فلقد برأ الغاصب من حق من عفا وأصلح‏.‏

فلا تنتظرن أن تعفو شقيقاتك عنك بمجرد إبداء الأسف والندم علي اغتصاب حقوقهن وحرمانهن والتضييق عليهن طوال السنوات الماضية‏,‏ ولا تأملن أيضا في أن يحللنك من الحق المعلق في رقبتك كالطائر في العنق لكي تنعم أنت بعز الأهل والشقيقات ورعايتهن لك وحدبهن عليك‏..‏ وإنما قدم الدليل علي أنك قد استوعبت الدرس الذي تلقيته من الحياة خلال الفترة الماضية‏..‏ وأشرك شقيقاتك معك بأنصبتهن العادلة في ملكية البيت ولن يغير ذلك من وضعه شيئا وعوضهن عن قطعة الأرض التي اضعتها وعن نصيبهن من التجارة بأقساط بسيطة تكون بمثابة إبراء لذمتك من ناحيتهن من جهة‏..‏ وإعانة شهرية مفيدة لهن من ناحية أخري‏,‏ وأنت قادر علي أن تفعل ذلك إذا أردت‏.‏ فهل أنت صادق النية في التكفير عما فعلت ؟‏!..‏

إنه اختبار جاد لصدق ندمك علي ما فعلت‏,‏ فإن اجتزته بنجاح كان ذلك إيذانا بتحول ايجابي جديد في شخصيتك لا يفتح لك قلوب شقيقاتك ويعيد إليك مودة الأهل واحترامهم فقط وإنما يمهد لك أيضا الطريق للتواصل السليم مع الحياة ويرشحك للسعادة والأمان من جديد بإذن الله‏.


لطفا .. قم بمشاركة الموضوع لعله يكن سببا في حل أزمة أو درء فتنة …

Related Articles