من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
قرأت رسالة الإعصار المدمر للزوجة التي يعتزم زوجها الزواج من فتاة صغيرة كانت تذاكر دروسها مع ابنته وتتأخر في العودة لبيتها, ويتبرم ابن كاتبة الرسالة بتوصيلها إلي محطة المترو فيتطوع الأب للقيام بهذه المهمة..
وبعد قليل نشأت بينهما علاقة واعتزم الزواج منها بالرغم من فارق السن الكبير وفارق المستوي الاجتماعي.. فضلا عن أنها تشترط للزواج منه أن يطلق زوجته وأم أولاده وأن يخرجها من شقة الزوجية لتحل هي محلها بين أولاده.. ويرفض الزوج أن يدع زوجته في بيتها مع أولادها ويتزوج بمن أرادها في مسكن آخر, مع أنه لا مأوي لكاتبة الرسالة سوي هذا المسكن,
قرأت هذه الرسالة فأصابتني بالأكتئاب واستدعت إلي ذاكرتي قصة محزنة كنت أحد شهودها القريبين, وأريد أن أهديها إلي زوج كاتبة الإعصار لعله يتفكر فيها طويلا ويراجع نفسه فيما هو ماض إليه.. فلقد عملت بعد تخرجي في كلية الهندسة بإحدي شركات القطاع العام.. فلفتت نظري في هذه الشركة فتاة في العشرين من عمرها جمالها من النوع الصارخ وقوامها ممشوق ومثير, والوجه أبيض مشرب بالحمرة والعينان زرقاوان والشعر ذهبي..
وكان مؤهلها دبلوم التجارة, ولاحظت بعد قليل أنها موضع اهتمام رئيس الشركة الذي يقترب من الستين والذي عينها سكرتيرة له, كما لاحظت أنها تركب سيارة فارهة لا تسمح لها امكاناتها بشرائها, ثم عرفت بعد ذلك أن رئيس الشركة يعتزم الزواج منها بالرغم من أنه زوج لسيدة فاضلة وأب لولدين أكبرهما يدرس بالهندسة.. وأنه يقوم ببناء فيللا جديدة في منطقة العجمي لتكون عشا للزوجية الجديدة, وكان ابنه الطالب بالهندسة يتردد علي في القسم الذي أعمل به في الشركة للتدريب لأنه في نفس تخصصي,
كان شابا وسيما ورياضيا ومتدينا ويصلي معي في مسجد الشركة ويركب سيارة سيات صغيرة, فروي لي أن والده طلب منه الذهاب إلي موقع الفيللا الجديدة مع سكرتيرته للإشراف علي أعمال التشطيبات الأخيرة لها بناء علي رغبتها فذهب معها في سيارتها الفارهة..
ففوجيء بها تمارس عليه كل فنون الإغراء لكي تغويه وتنال منه فلم يستجب لها حتي هجمت عليه في الفيللا الخالية تقبله وتضمه رغما عنه فصفعها وبصق عليها وأسرع بالفرار متألما.. ثم انقطعت السكرتيرة عن العمل بعد ذلك بفترة قصيرة وعرفنا أنها تزوجت رئيس الشركة وأنه صمم بإيحاء منها علي أن يقيم الولدان معه في الفيللا الجديدة بحجة رعايتهما في الدراسة, خاصة أن أكبرهما في نهائي كلية الهندسة ولابد أن يحصل علي تقدير عال لكي يعين معيدا, ورفض الابن الأكبر الإقامة مع أبيه بعد زواجه من هذه الفتاة
فخيره الأب مسلوب الإرادة مع زوجته الجديدة, بين أن يقبل ذلك أو يطلق أمه ويخرجها من مسكنها ويلقي بها في عرض الطريق وهي لا مأوي لها إلا بيتها, فلم يتزحزح الابن الأكبر عن موقفه وأصيبت الزوجة الأولي بالرعب فتوجهت إلي فيللا الزوجة الجديدة في غيبة زوجها في العمل وتوسلت إليها أن تدع لها الولدين, لكي تهنأ هي بحياتها الجديدة مع زوجها.. وأكدت لها أنها غير ساخطة علي زواجها من زوجها بل ودعت لها ربها بالسعادة والفلاح, فلم يهتز لها جفن ورفضت طلبها في برود وأستدعت زوجها تليفونيا لكي يطرد زوجته وأم أبنائه من بيتها,
وجاء الزوج مهرولا وانفجر في شريكة عمره وتحملت هي ثورته في صبر ثم راحت تستعطفه أن يترك لها ولديها ويسعد هو بحياته مع زوجته الجديدة, وذرفت دموعا غزيرة وأهانت نفسها في استجداء زوجها واستعطافه حتي كاد يلين ويستجيب لرجائها وقبل أن يفعل نظر إلي فاتنة قلبه يستأذنها بالنظر أو يستطلع رأيها فهزت رأسها في إشارة صامتة يمينا ويسارا هزة واحدة كانت كافية أن يستأسد الزوج من جديد ويطرد شريكة عمره شر طردة, ولم يجد الابن الأكبر مفرا في النهاية من أن ينقذ أمه من الطلاق والطرد بالانتقال كارها إلي عش الزوجة الجديدة, وكان يعرف أنها تريد كسر إرادته عقابا له علي ما فعل معها..
ومع ذلك فلقد قبل لكي يحفظ علي أمه أمانها وكرامتها, وبدأ حياته في رعاية أبيه وزوجته الشابة.. وكان شابا فارع القامة مفتول العضلات وسيما وسامة الرجال, كريم الخلق وكان أبوه دميما ذابل النظرات متهدل القامة يبدو إلي جواره كالقزم إلي جانب العملاق.. فلم يكد يستقر المقام بالابن في حياته الجديدة حتي عاودت الحية الرقطاء فحيحها معه.. ومارست عليه كل الضغوط والإغراءات إلي أن انهارت مقاومته في النهاية واستسلم لإرادتها, وأصبح الأب والابن ينهلان من معين واحد ولم يغب ما يجري عن ملاحظة الابن الأصغر المراهق..
فانتهز فرصة غياب الأب والأخ ذات يوم وهاجم الحية الرقطاء يطلب نصيبه من المتعة المحرمة, فقاومته وشكته لأخيه بعد عودته. فانفجر فيه وصفعه بقوة, وأوغرت الصفعة صدر الأخ الأصغر علي أخيه ورغب في الانتقام منه فباح بسره للأب المخدوع ورتب معه الأمر بحيث يتيح له ضبط زوجته الشابة مع ابنه الأكبر متلبسين بالجرم المشهود, وتم ذلك بالفعل.. فلم يتمالك الأب نفسه وأفرغ مسدسه في الاثنين معا, وانفجرت الفضيحة كالزلزال المدمر..
وكانت بداية لسلسلة من الكوارث التي دمرت رئيس الشركة أدبيا ومعنويا إلي الأبد, فلقد فتحت خلال التحقيق كل الملفات, وسئل عن مصدر الأموال التي بني بها الفيللا واشتري بها لزوجته الجديدة السيارة الفارهة.. وفتح لها بها حسابا متخما بالرصيد في البنك ليؤمن لها حياتها وتبين أنها كلها أموال مختلسة من الشركة.. فعوقب بالسجن خمس سنوات علي جريمة زوجته وابنه وبالسجن سبع سنوات علي جرائم الاختلاس, ولست أدري هل نفذ العقوبة كاملة أم وافته المنية قبل أنتهائها, فلقد انقطعت عني أخباره بعدها.
وعند هذا الحد من القصة المفجعة تركت شركة القطاع العام وعملت كمهندس تصميم بشركة سيمون بانجلترا لمدة خمس سنوات, وكنت قد تزوجت وأنجبت فعدت بعد هذه الفترة فاشتريت ألف متر أقمت عليها فيللا صغيرة.. قضيت بها أجمل سنوات عمري مع زوجتي وبناتي الثلاث وابني, ثم أصيبت زوجتي بالمرض اللعين في الغدة الدرقية وانتشر المرض في بقية جسمها, وكانت زوجة فاضلة يجمعني بها حب كبير قوامه تفانيها في خدمتي وخدمة أبنائي, وبعد اجراء عدة جراحات, رجتني زوجتي باسم الحب الذي يجمع بيننا ألا أحضر لأبنائي زوجة أب بعد رحيلها عن الحياة
وطلبت مني أن أقسم لها علي كتاب الله علي ذلك فأقسمت لها, وفكرت في أن أسعد قلبها أكثر وأكثر فقمت وبغير أن تعلم ببيع الفيللا التي نقيم فيها صوريا لأبنائي وقمت بتسجيل عقد البيع ودفعت رسوم التسجيل وكانت مبلغا باهظا قدره 30 ألف جنيه, وعدت إلي البيت ومعي العقد المسجل فقدمته لها لكي يطمئن قلبها علي مستقبل أبنائها, وبعد قليل رحلت زوجتي عن الحياة قريرة العين راضية مرضية رحمها الله. وكنت في الخامسة والأربعين من عمري.. فكرست حياتي لأبنائي حتي زوجت بناتي الثلاث وسعدن بحياتهن وتزوج ابني وأنا الآن أنعم بأحفادي وأبنائي.. ويكفيني أن أسمع من زوج ابنتي الكبري ذات يوم أنني قد علمتهم معني الوفاء.
فاللهم اكرمنا في نهاية رحلتنا ولا تهنا واجمعنا بأحبتنا في مستقر رحمتك, فإذا كنت قد رويت لك كل ذلك فلكي أقول للكهل بطل قصة, الإعصار المدمر إن عليه أن يستيقظ من غفوته لأنه يسير في طريق الدمار والخسران الذي سبق لي أن رأيت رئيسي السابق يمضي فيه.. وأنه علي وشك أن يخسر زوجة أعطت عمرها له ولأولاده من أجل فتاة طائشة في سن أبنائه,
وأنه يكرر خطأ رئيس الشركة في الجمع بين أبنائه الشباب وفتاته الطائشة كما يريد أن يفعل, خاصة أنني أري في الفتاة التي يريد الزواج منها كثيرا من السمات المشتركة بينها وبين الزوجة الشابة في القصة المفجعة منها الجرأة, والقدرة علي الفعل, وعدم احترام العشرة بين الرجل وزوجته الأولي إلي جانب فارق السن الهائل بين الطرفين, وكلها سمات تنذر بأوخم العواقب, فليعتبر بما حدث لغيره ممن مضوا علي نفس الطريق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
سئل عمرو بن العاص ذات يوم وقد كان من دهاة العرب: ما الحكمة فأجاب: الإصابة بالظن ومعرفة ما يكون بما قد كان, فأما الإصابة بالظن فهو ما تعبر عنه الآن بحسن التقدير والتوقع والتبصر استنادا إلي استقراء حقائق الموقف ومحاولة تقويمها تقويما سليما.. وأما معرفة ما يكون بما قد كان فهو ما نترجمه الآن بدروس التاريخ وتجارب السابقين ومحاولة الاستهداء بها في معرفة ما قد يكون إذا تشابهت الظروف..
والمشكلة هي أن البعض منا لا يعتبرون بتجارب الآخرين وأخطاء السابقين ويسيرون علي نفس الدرب المؤدي إلي الهاوية, أما لأنهم يتجاهلون هذه التجارب عن عمد لكيلا تثبط عزيمتهم عما يمضون إليه, وإما ـ وهو الأغلب الأعم ـ لأنهم يقعون في هذا الخطأ البشري الشائع الذي يقع فيه غالبا من يستسلم لحمي الرغبة في الأشياء وينقاد إلي أهوائه, وهو يعلل النفس بأنه لن يدفع الثمن الفادح الذي دفعه رفاق نفس الطريق من قبل, وهو الاعتقاد بأنهم بشر استثنائيون وستكون تجربتهم مخالفة لتجارب الآخرين في نتائجها لأنهم الاستثناء من القاعدة
ولأن الظرف مختلف .. وهو هاجس يراود للأسف كل من يخالف قوانين الحياة الطبيعية ويرتبط بمن تصغره بثلاثين أو أربعين عاما.. وهو وهم عجيب يعكس تناقضا غريبا في التفكير.. إذ أنه يفيد إدراك بطل التجربة أن حقائق الحياة ليست في صالحه, ويفيد علي النقيض من ذلك اعتقاده الموهوم أن النتائج الوخيمة لذلك لن تنطبق عليه هو بالذات وإنما سوف يستثني منها, لأنه إنسان مختلف ولأن شريكته في القصة إنسانة مختلفة إلي غير ذلك من سبل خداع النفس الذي لا يفيق منه صاحبه إلا علي دوي الكوارث, فالسبب الأساسي في هذه القصة المفجعة التي ترويها لنا يا سيدي هو نفس السبب في كل قصة مشابهة وهو مخالفة قوانين الحياة الأساسية,
ومحاولة القفز فوق حقائق العمر وإسقاط نحو أربعين سنة من فارق العمر من كل الحسابات والانسياق وراء الأهواء دون تبصر أو احتراس.. ومحاولة جني عسل الشباب في غير موسمه, فضلا عن التنكر لعهد الوفاء مع شريكة العمر, والمجازفة بأمان الأبناء واستقرار حياتهم جريا وراء المتعة والمغامرة والتجربة الشخصية علي حساب الجميع, ولقد كان الأديب الفرنسي أونوريه دي بلزاك يقول مفسرا زواجه لأول مرة. وهو يقترب من الخمسين من أرملة متوسطة العمر رافضا الاقتران بفتاة تصغره بثلاثين أو عشرين سنة رغم تهافت الصغيرات عليه ـ إن المرأة التي في الأربعين تعطيني كل شيء, أما الفتاة التي في العشرين فإنها ستأخذ مني كل شيء!
ولهذا فإن دعاءك إلي الله سبحانه وتعالي ألا يهيننا في أواخر الرحلة دعاء حق وصدق, لأن المرء إذا وضع نفسه حيث لا يليق بها أن تكون فقد أهانها.. ومن أهان نفسه أهانته الحياة وأهانه الآخرون وسقط اعتباره بينهم.. ولكل شيء في النهاية ضريبته العادلة والتي لا مفر من أدائها, فمن أراد المتعة اللاذعة في سن الكهولة والشيخوخة فليقبل تبعاتها وتداعياتها وعواقبها الوخيمة علي استقرار حياته وأبنائه ومكانته العائلية والاجتماعية,
ومن احترم قوانين الحياة ومثلها العليا فاز بالمشاعر العائلية الصافية والأحترام والأمان والكهولة المطمئنة والشيخوخة الهادئة حتي ولو صبر علي بعض نواقص حياته في أخريات الرحلة. ولقد اخترت أنت يا سيدي الوفاء لذكري زوجتك الراحلة وتكريس حياتك للأبناء من بعدها.. وفزت مقابل ما اعتري حياتك من نقص بحب الأبناء والأصهار والأحفاد وأحترامهم ورعايتهم.. وهو اختيار لا يملك الإنسان إلا أن يحترمه.. تماما كما لا يملك المرء إلا أن يقدر ظروف من لا يصبر علي نفسه بعد رحيل شريكته, فيتحري اختيار شريكة رحيمة ملائمة له في العمر والظروف ويقضي ما بقي له من الرحلة إلي جوارها حادبا علي أبنائه ومؤديا واجبه تجاههم علي أكمل وجه.
وكل مصيب فيما يختاره لنفسه مادام يحترم قوانين الحياة, ويحيا حياة فاضلة في اطار من تعاليم ربه ودينه.. وإني لأرجو أن يقرأ بطل قصة نحو الإعصار المدمر رسالتك التي أعتبرها طلقة تحذير قبل الاقتراب من دائرة النيران.. ويتفكر فيها مليا.. ويحسن فهم اشاراتها المخيفة قبل أن يمضي علي نفس الدرب الذي سار عليه من قبل بطل هذه الفاجعة التي ترويها لنا وكل فاجعة مماثلة.. والله فعال لما يريد.
لطفا .. قم بمشاركة الموضوع لعله يكن سببا في حل أزمة أو درء فتنة …