اجتماعياتكتابات د : أحمد خالد توفيق

طوق النجاة || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

لاحظت هذه الظاهرة، عندما قام أحد أقاربي بعمل تحليل لحمض البوليك في دمه، وهو تحليل يخبرك ما إذا كنت مريضًا بالنقرس أم لا .. لم تكن هناك أعراض مهمة وإنما هو قام بهذا التحليل على سبيل الاطمئنان على النفس. قاس طبيب المختبر مستوى حمض البوليك فوجد ارتفاعًا طفيفًا جدًا، فقال للمريض إنه مصاب بالنقرس.

ذهب المريض لطبيب باطني قال إنه مصاب بالنقرس، وأعطاه قائمة طويلة من الأدوية التي تمنع تكوين حمض البوليك أو تسهل فقده في البول، مع القائمة الشهيرة: لا تدخن .. لا تتعاط الأسبيرين أو القهوة .. لا تأكل اللحوم الحمراء والكبد … لا تستمتع بحياتك .. لا تعش .. الخ .

عندما أطلعني على النتائج، لم يبد لي تركيز الحمض مقلقًا لهذا الحد .. وفيما بعد قرأت عن مرض اسمه DRESS وهو مرض قاتل ينجم عن تفاعلات الأدوية.

هناك دواءان للنقرس يسببان هذا المرض، وينتهي المقال بنصيحة مهمة: لا تعالج ارتفاع حمض البوليك الذي لا أعراض له !… المخاطرة عالية جدًا.

أي أن ارتفاع حمض البوليك يجب أن يكون مصحوبًا بأعراض واضحة مؤذية للمريض، وإلا فلا داعي لتعريض المريض لآثار جانبية للدواء. يجب أن تكون أعراض النقرس عنيفة حقًا.

لكني وجدت أن الأطباء غالبًا ما يصفون أدوية النقرس لأي مريض يقيس حمض البوليك في دمه .. حتى لو كان الرقم سليمًا أو أقل من المعتاد .. أي أن الطبيب يطلب الاختبار وهو يعرف جيدًا أنه سيقول للمريض إنه مصاب بالنقرس ويكتب له قائمة الأدوية إياها، كأن إجراء الاختبار هو المرض نفسه وليست نتيجته !!

كتبت من قبل أن الطبيب يصف الحديد للمريض سواء كان يشكو من فقر الدم أم لا.. أي أن إجراء تحليل الهيموجلوبين هو مرض يُعالج بالحديد بصرف النظر عن نتيجته !. في الماضي كان الحديد يوصف من دون تحليل أصلاً، وكما قال زميل لي في سنة الامتياز: “اقلب شفة العيان واكتب له حديد “!! .

رأيت كذلك أن الأطباء يطلبون تحليل البراز .. وكل المختبرات تكتب في التحليل (حويصلات أميبية). سواء كانت موجودة فعلاً أو هي طريقة لإرضاء المريض والطبيب معًا، على أساس أن المحرقة لابد لها من جثث، حتى شاعت دعابة أن عدسة المجهر نفسها تلتصق بها حويصلات أميبية. وفي النهاية يكتب الطبيب عقار (مترونيدازول) في كل الظروف، بينما العقار عاجز فعلاً عن تدمير الحويصلات الأميبية لأنه لا يستطيع النفاد عبر الجدران السميكة التي تحيط بها.

ما معنى هذا ؟

فكرت في الأمر كثيرًا، ثم خطر لي أنها نظرية الشماعة أو طوق النجاة. لابد من شيء يتعلق به الطبيب إذا لم يجد تشخيصًا للمرض أو لم يجد شيئًا معينًا يشكو منه المريض. المريض كذلك يميل إلى الاعتقاد بأن حالته خطيرة، ويتضايق جدًا من الذي يصارحه بأنه غير مريض.

قال لي صديق من أطباء الأطفال إنه يجلس في العيادة الخارجية بالمستشفى الذي يعمل فيه، تأتي الأم حاملة رضيعها الذي ترتفع درجة حرارته .. ينظر في حلقه فلا يرى شيئًا، لكنه يعلن أن الطفل مصاب بالتهاب في الحلق ويكتب له مضادًا حيويًا ومسكناً، بعد ثلاثة أيام تأتي الأم التعسة تعلن أن رضيعها ما زال محمومًا ويزداد سوءًا.

هنا يبحث صاحبي عن طوق نجاة آخر .. أريني زجاجة الدواء .. هذا الدواء هو (توتو 125) وأنا كتبت لك (زازا 125).. لقد خدعك الصيدلي .. لهذا لم يستجب الرضيع. فإذا كانت الزجاجة هي (زازا 125) فعلاً، فهناك طوق نجاة آخر: كيف أعطيت الدواء ؟!!! … هل أعطيته كل 6 ساعات؟ .. لا ؟.. أعطيته كل 8 ساعات؟.. يا لك من حمارة جاهلة .. أنا طلبت كل 6 ساعات .. الأمهات الجاهلات قاتلات الأطفال من أمثالك يجب حرقهن حيات.
طبعًا بهذه الطريقة سوف يجد طوق نجاة في كل الظروف.

عندما تخبر الطبيب أنك تدخن – ومن المؤسف أنك يجب أن تعترف – فأنت تلقي له طوق نجاة ممتازًا، أعاني تصلبًا في إصبع القدم الكبير يا دكتور.. السبب هو أنك تدخن . أرى أطيافًا خضراء في السقف يا دكتور .. السبب هو أنك تدخن. اكتشفت اليوم أن لي ثلاث آذان يا دكتور .. السبب هو أنك تدخن.

شماعة التدخين ممتازة وصالحة لكل شيء، والتدخين بالفعل يظهر في قائمة كل مسببات الأمراض تقريبًا.

الجمنزيوم طوق نجاة ممتاز عندما تتعامل مع الشباب .. هناك ذيل حرشفي ينمو في أسفل ظهري يا دكتور.. لأنك ترهق نفسك في (الجيم) أكثر من اللازم.

تحول إلى مذءوب عندما يكتمل القمر يا دكتور .. لأنك ترهق نفسك في (الجيم) أكثر من اللازم.

لا ينطبق موضوع طوق النجاة على الطب فقط ..

أذكر أن أحد وزراء الكهرباء في عصر مبارك قال إن سبب انقطاع الكهرباء المتكرر وارتفاع فاتورة الهاتف هو أن الناس تفتح الثلاجة ثم تقف شاردة تفكر فيما ستأكله ! معنى هذا أنك يجب أن تحزم أمرك ثم تنطلق كالقذيفة نحو الثلاجة لتأخذ ما تريد ثم تهرع عائدًا، طبعًا لو حدثت مجاعة فلسوف يصير هذا الخيار غير وارد.

في نفس الفترة قال أحد وزراء التموين إن الناس تذيب في الشاي كميات سكر غير معقولة، وهذا يؤدي لأزمة اقتصادية. الانفجار السكاني طوق نجاة جاهز منذ عصر عبد الناصر ويمكن تحميل أي تباطؤ اقتصادي عليه .. دائمًا نحن أكثر من اللازم ولابد من تقليل عددنا قليلاً، فلتأخذنا مصيبة كما قال عادل إمام في مسرحية الزعيم.

هكذا يمكنك فهم موضوع طوق النجاة هذا، البحث عن شماعة تعلق عليها كل شيء، فلو لم تجدها فأنت في مأزق حقيقي.. سيكون عليك أن تجد إجابات مقنعة.

  • د. أحمد خالد توفيق
  • تم نشر المقال فى 2015-2-6

رائج :   في الغرفة 101 || د : أحمد خالد توفيق

مقالات ذات صلة