أجمل رسائل بريد الجمعة

نظـرة العتـاب ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أكتب لك لتساعدني في مواجهة أسوأ مشكلة يمكن أن تواجه أبا بعد أن كافح طوال حياته ليؤدي رسالته نحو أبنائه علي أكمل وجه مهما تكن التضحيات.

إنني رجل أقترب من الستين, وقد نشأت في أسرة عريقة من الأسر التي كان يقال عنهاإنها إقطاعية في احدي محافظات الوجه البحري, وعشت طفولة عادية, ولكن نظرا لظروفي الخاصة فقد كنت أشعر بالتميز عن زملائي لما لأسرتي من سطوة ونفوذ وجاه وقضيت طفولتي بين بيت جدي في احدي المدن الساحلية صيفا ومنزل والدي في الريف شتاء خلال الدراسة,

حتي وصلت إلي الجامعة والتحقت بإحدي الكليات العملية وكان ذلك في عام 1965, وبدأت دراستي بالكلية كغيري من الطلبة إلي أن جاء اليوم الذي غير مجري حياتي كلها, فقد حدث خلاف بيني وبين أحد اساتذتي بسبب سؤال سألته ورفض الاجابة عليه وكان من نتيجة هذا الخلاف أن فصلت من الكلية لتكرار مرات الرسوب, وساءت علاقتي بأبي للغاية.

وبتأثير حماس الشباب واندفاعه اتخذت قرارا دون أن أفكر فيه طويلا, لكنني رأيت وقتها أنه الحل لما أنا فيه من عناء, وهو انني يجب أن أبدأ حياتي دون الاعتماد علي أحد, فقمت بالتطوع بالجيش بالثانوية العامة في أحد الأسلحة المهمة, والتحقت بأحد مراكز إعداد الفنيين ودرست به لمدة سنتين متواصلتين دراسة هندسية صعبة بالاضافة للعلوم العسكرية, وتخرجت برتبة صغيرة ولم أكن أعلم أنني بذلك قد أصبحت في نظر كثيرين فاشلا وأنتمي إلي طبقة اجتماعية غير التي انتمي إليها بحكم نشأتي,

ولم أهتم بذلك كثيرا فقد كنت اتقاضي راتبا جيدا كما كانت مهنتي التي درستها في الجيش قريبة جدا من هوايتي التي حالت بيني وبينها ظروف تعثري في الدراسة الجامعية, كما كنت أشعر بالفخر لأنني أشارك في الدفاع عن وطني من موقع هام. وهكذا سارت بي الحياة وأنا أتجنب المناسبات العائلية وغيرها حتي أتفادي نظرات الأقارب وأعفي نفسي وغيري من الحرج. إلي أن فكرت في الزواج فواجهت مشكلة رتبتي الصغيرة ولقب متطوع الذي احمله ولا أدري لماذا هذه النظرة الغبية القاصرة الجاهلة التي ينظر بها لي ولمن في مثل حالتي بعض الناس ويبدو أنها سائدة في مجتمعاتنا العربية فقط.

المهم أنني عانيت مشكلة زواجي, حيث رفضتني الكثيرات برغم ظروفي العائلية الجيدة ولم يكن والداي يرضيان لي بالطبع بالزواج ممن هي في نظرهما لاتنسابنا.

إلي أن أكرمني الله بزوجة يرضي عنها والداي ومناسبة لي وواصلت حياتي وأنجبت أولادي حتي تخرجت الابنة الكبري في الجامعة ويدرس بقية الابناء بالجامعة بكليات جيدة, والحمد لله وهنا تأتي المشكلة.

وأرجو ألا تستغرب مما سأقوله فقد كنت ألاحظ نظرات عتاب في عيون أولادي مع انني لم أقصر في شيء أبدا نحوهم فنحن نعيش والحمد لله في مستوي جيد اجتماعيا وماديا, ولقد استقلت من الجيش عام 1982 والتحقت بعدة أعمال أكرمني فيها الله وأصبحت أمتلك ثروة صغيرة في البنك يعينني عائدها علي مواجهة أعباء الحياة؟ بالاضافة إلي مساحة لا بأس بها من الأرض الزراعية ورثتها عن أبي رحمه الله, كما أمتلك فيلا في الأرياف وسيارة وشقة بالمدينة الساحلية.

فما هي المشكلة إذن انها ببساطة في العرسان الذين يتقدمون لابنتي فبالرغم مما ذكرته من ظروفي وبالرغم من أنها تحمل شهادة البكالوريوس من احدي الكليات العملية المشهورة لصعوبة دراستها وأنها تعد دراسة الماجستير بعد تخرجها بتفوق وجميلة ومتدينة وعلي خلق ومحجبة, بالرغم من كل ذلك فإنه ما أن يعرف العريس عملي السابق في الجيش ورتبتي الصغيرة حتي يغير رأيه.. هل تصدق ذلك؟!

لقد كنت أعمل في أشرف مكان يمكن أن يعمل به انسان يحب وطنه فهل المشكلة في الرتبة الصغيرة وحدها وهل هي عار يوصم به الانسان طوال عمره وينظر له علي أنه فاشل. رغم أنني من المقاتلين القدماء في حرب 73.

انني لا أدري ماذا أفعل وماذا أقول وكيف أتصرف ؟ انني لا أريد أن أحرم أولادي من حياتهم الطبيعية وحقهم في الحياة الكريمة كغيرهم ولا أدري مبررا لعقابهم علي شيء لم يكن لهم فيه يد, ويكفيني أنا ما عانيته طوال عمري بسبب عملي السابق والذي كان يمثل عقابا علي جريمة لم أرتكبها. انني لا أتحدث عن نفسي فقط ولكن أعلم أن معظم زملائي القدامي يعانون نفس المشكلة والتي كان لها نفس الأثر علي حياتهم. انني أطلب مشورتك ورأيك السديد. فماذا تقول لي؟

رائج :   الهدية المتأخرة ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

يخيل إلي أن الجزء الأكبر من المشكلة إذا كان ثمة مشكلة في الأمر, إنما يدور في أعماقك أنت وليس في أذهان الآخرين, فأنت ياصديقي تشعر بأن فترة تطوعك للالتحاق بالجيش وعملك فيه عدة سنوات برتبة صغيرة خروج علي سياق وضعك العائلي والاجتماعي اضطررت إليه راغبا أو كارها بسبب فصلك من كليتك المرموقة وتوقفك عن الدراسة.. وتوتر العلاقة بينك وبين ابيك نتيجة لذلك,

وبالتالي فإنك لاتنظر إلي هذه الفترة من حياتك وتلك الرتبة الصغيرة التي حملتها خلالها.. كرمز لإرادة التحدي والكفاح التي دفعتك لاتخاذ القرار ببدء صفحة جديدة من حياتك معتمدا فيها علي نفسك وحدك.. ولا كرمز لمحاولتك الجادة لتعويض ما خسرته بفصلك من الكلية باقتحام مجال جديد ومحاولة إثبات الذات فيه, وانما تنظر اليها كرمز لفشلك الجامعي ولفترة عصيبة من حياتك بؤت فيها بالخسران وخيبة الأمل.. وتوتر علاقة الأهل بك وإحساسهم بأنك قد أضعت فرصك الثمينة في الحياة بسبب عدم جديتك في الدراسة وليس بسبب ذلك الخلاف الذي تشير إليه بينك وبين أحد اساتذة الكلية.

ومع التسليم بمسئوليتك الكاملة عن الفشل الدراسي.. فإنك لم تقف مكتوف الأيدي عاجزا أمام انهيار الاحلام.. وانما تحركت للأمام واتخذت قرارا جريئا بالتطوع للالتحاق بالجيش والدراسة في أحد مراكزه الفنية, وحققت نجاحك فيه واتخذت طريقا جادا وشريفا في الحياة, وحين تحسنت أوضاعك العائلية اكتفيت من التجربة بما حققته خلال السنين.. وشققت لنفسك طريقا آخر في الحياة, ورعيت ابناءك حتي شقوا كلهم طريقهم بنجاح في التعليم, فلماذا تنظر إلي هذه الفترة من حياتك بما يشبه الخجل منها بعد أن تحسنت أوضاعك المادية والاجتماعية والعائلية, ولقد كان الأحري بك أن تعتز بها وترضي عنها وعن كفاحك الشريف خلالها؟

إن نظرة العتاب التي تقول انك تلمحها في عيون ابنائك لحملك تلك الرتبة الصغيرة التي لاتتلاءم مع جذورك العائلية, إنما هي في تقديري من أثر احساسك السلبي أنت بهذه الفترة من حياتك وليست من آثار إحساسهم بها.. إذ أنني لا أحسب أن أبناء ناضجين ينعمون بعطف أبيهم وحسن رعايته لهم يمكن أن يحملوا له مثل هذه النظرة بسبب مرحلة من مراحل كفاحه الشريف في الحياة, وأحسب علي العكس من ذلك أنك إذا تقبلت نفسك وظروفك ومراحل حياتك المختلفة ورضيت عنها.. فإنك لن تري مثل هذه النظرة الموهومة في عيون ابنائك ولن تري فيها إلا كل الفخر بك والاعتزاز بأبوتك لهم.
ونفس الشيء يمكن أن يقال عما تحسبه أثرا سلبيا لهذه الفترة في حياتك علي حظوظ ابنتك في الزواج, فقبولنا نحن لأنفسنا واعتزازنا بكل مراحل كفاحنا المخلص في الحياة هو دائما بداية الطريق لنيل قبول الآخرين واعتزازهم بنا.

والناس في النهاية كما يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: انما يتصاهرون بالاسلام والأحساب والأنساب, وليس بسجلهم الوظيفي قبل الارتباط..

Related Articles