أجمل رسائل بريد الجمعة

هبوب الرياح ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

ربما تتذكر بعض وقائع هذه القصة, لأنك كنت طرفا مهما فيها, فأنا رجل في بداية العقد السادس من العمر, نشأت في أسرة متوسطة بين أب موظف وأم ربة بيت, وشقيقة تكبرني بعام ..

وقد مضت السنون, ووالدي يكافح لكي يوفر لاسرته الحياة الكريمة, وتزوجت شقيقتي والتحقت أنا بإحدي الكليات العملية, وفي صيف عامي الدراسي الأول سافرت إلي احدي دول جنوب أوروبا للعمل خلال الإجازة, فاستهوتني الحياة فيها, وقررت البقاء علي أرضها.. وحزنت أمي لذلك كثيرا, وأنا الابن الوحيد لها.. وشعر أبي بالقلق علي دراستي الجامعية..

لكني حاولت ارضاءهما بمواصلة الدراسة في هذه الدولة الأوروبية, والتحقت بالفعل بكلية عملية مناظرة لكليتي المصرية, وواصلت العمل والدراسة حتي تخرجت, وبدأت مرحلة الدراسات العليا, وفي هذه الفترة كان لي زميل مصري تزوج من سيدة من إحدي دول شرق أوروبا, وكانت زوجة هذا الصديق تلح علي دائما ان اتزوج وأضع حدا لمشكلة وحدتي, وعرضت علي الارتباط بشقيقتها ـ المقيمة في بلدها الأصلي, ورتبت لي الالتقاء معها, ودراسة شخصيتها, وسافرت إليها بالفعل في إجازة فوجدتها فتاة جميلة وطيبة, وترغب بصدق في الحياة العائلية فتزوجتها, ورجعت إلي مقر عملي علي أن تلحق هي بي حين تجد الفرصة لذلك, وصبرت هي علي ظروف بلدها حتي استطاعت الحصول علي جواز سفر ولحقت بي في الدولة التي اقيم وادرس بها..

وبدأنا حياتنا الزوجية معا في ظروف صعبة, نظرا لدراستي للدكتوراه, وعملي باحد المكاتب المصرية, فتحملت ظروفنا, وكانت لي نعم الزوجة الصابرة القانعة حتي حصلت علي الدرجة العلمية.. ولاحظت انه قد مضت ست سنوات منذ زواجنا دون ان تحمل زوجتي.. ولمست قلقها الشديد لذلك, فكانت كلما حدثتني في الأمر قلت لها إن الله لم يأذن لنا بعد بالانجاب.. واستوقفتها, وهي التي جاءت من دولة كانت تنكر الدين خلال فترة الحكم الشوعي, هذه الاجابة كثيرا, وقالت لي إنها تعجب لما ابديه من عدم السخط علي حرماننا من الانجاب.. واعتباره قدرا لا ذنب لأحد فيه, فكانت هذه النقطة بداية مناقشات طويلة بيننا عن القضاء والقدر, والتسليم بارادة الخالق, وكانت تسألني فأجيبها بما أعلم, واستوضح ما لا اعرفه من رئيسي, وكان رجلا متعمقا في الدين, واعود إليها بالشرح والتفسير, إلي ان فاجأتني ذات يوم بأنها

قد رتبت بالفعل مع رئيسي وزوجته دخول حظيرة الإيمان رسميا, ومضت السنوات.. وبعد مرور12 عاما علي زواجنا شعرت زوجتي بالانزعاج خوفا من تساؤلات أمي عن أسباب عدم الانجاب, وأنا الابن الوحيد لها, وطمأنتها من هذه الناحية, وكنت قد تحدثت مع أمي بالفعل, وقلت لها إنني لا استطيع أن اتخلي عن زوجتي هذه ابدا, وهي الإنسانة التي وقفت إلي جواري في اصعب مراحل حياتي, وهجرت مركزها المرموق في بلدها الأصلي, وتركت أهلها ودنياها السابقة باكملها من أجلي.. كما ان أسباب عدم الانجاب لا ترجع كلها إليها فهناك كما قال لي الطبيب نسبة كبيرة منها ترجع إلي.. فسكتت أمي, ولم ترجع إلي هذا الحديث مرة أخري.

رائج :   الأحلام الغريبة ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

وشغلت بالتفكير في وسيلة لغرس الطمأنينة في نفس زوجتي من هذه الناحية, وهداني تفكيري إلي ان اكتب لك منذ اثني عشر عاما رسالة أقول لك فيها إنني وزوجتي لم نرزق بأطفال.. وانه لو كان هناك من خلال بريد الجمعة طفل يحتاج لن يرعاه, فنحن علي استعداد لذلك.. وبعد نشركم ردكم علي باسبوعين نشرتم قصة طبيب سوهاج الذي لديه اربعة أبناء ووجد في الصباح علي باب منزله طفلا رضيعا سماه خالد, ويريد من خلال بريد الجمعة أسرة لم ترزق بابناء لكي تتولي رعايته وتنشئته, فاتصلت بكم علي الفور من الخارج, ورجوتك ان ترتب لي الحصول علي هذا الطفل مع العلم بأنني لن استطيع العودة إلي مصر إلا بعد شهرين.. وطمأنتني علي ذلك.

وعشت أنا وزوجتي هذين الشهرين, ونحن في قمة السعادة.. وقد بدأت اناديها علي الفور بأم خالد, وبدأت هي تناديني بلقب أبي خالد ونشعر بمتعة كبيرة, وهي تردده, وحضرت إلي القاهرة, والتقيت بك في مكتبك, وقمت بالاتصال بطبيب سوهاج تليفونيا, وقدمتني له ثم اعطيتني السماعة وتحدثت معه, وحين علم أنني سأعود بالطفل إلي مقر اقامتي بالخارج سألني في قلق: وكيف سآراه أنا, واتابع حالته.. أنني اريد ان أراه مرة كل ستة أشهر علي الأقل!

وكم كانت صدمتي كبيرة حين عرفت باستحالة اصطحابي هذا الطفل الذي عشت انا وزوجتي معه في الخيال شهرين كاملين.. وسألتك متحيرا: ماذا سأقول لأم خالد حين ارجع إليها!

ووجدتك تترفق بي.. وتقول لي إن من الواضح ان هذا الطبيب الفاضل قد تعلق بهذا الطفل الذي احتضنه, وحماه من الضياع.. ويريد ان يطمئن عليه من حين لآخر, لكن هذه ليست نهاية المطاف, ولايستدعي الأمر الحزن.. ولسوف تحاول ايجاد حل آخر لي.. وبالفعل فقد رتبت لي لقاء مع مديرة بالشئون الاجتماعية بمبني مجمع التحرير, ورحبت بي المديرة, وارسلت معي مندوبة إلي احدي دور الأيتام, وكانت معي زوجتي فرأينا طفلا سبحان الخلاق العظيم في جماله.. وسماحة وجهه والنظرة الطيبة في عينيه.. وروت لنا مديرة الدار قصته فعرفنا أنه تعرض مع امه لحادث فماتت الأم, ونجا الطفل, ولم يستدل علي شخصية أبيه, أو امه منذ أكثر من عام..

وبطريقة تلقائية سألنا مديرة الدار عن الاسم الذي اختاروه له, وسجلوه في أوراقه, فإذا بها تجيبنا بأنه : خالد! وصرخت زوجتي من الفرحة حين سمعت الاسم .. أما أنا فقد ظننت في البداية انك قد رتبت مع مديرة الدار اختيار اسم خالد لهذا الطفل المحروم, تلطفا منك بنا.. لكني تبينت بعد الاطلاع علي شهادة ميلاد الطفل المحررة قبل عام انه يحمل بالفعل اسم خالد منذ انضمامه للدار فتعجبت لتصاريف القدر التي حرمتنا من طفل سوهاج, ووهبتنا آخر من القاهرة يحمل الاسم نفسه.

وبعد إجراءات إدارية طويلة ادت إلي تأخير عودتي لعملي عشرة أيام عن الموعد المقرر حدثت المعجزة ورجعنا إلي مقر عملي وحياتي, ومعنا خالد وعمره 16 شهرا, ولن احدثك عن عمق السعادة والمرح والبهجة التي أضفاها علي حياتنا هذا الطفل الجميل, ولاعن حجم اللعب والملابس التي تدفقت عليه ..

رائج :   عندما مسك الطفل يدي وقبلها … وقال : أنا أحبك ياستاد ؟؟!!

لكن يكفي ان أقول لك فقط إنه قد اصبح كل شئ في حياة زوجتي.. ومنذ اليوم الأول خصصت له اجندة دونت فيها كل صغيرة وكبيرة تتعلق به وبصحته ومواعيد التطعيمات المختلفة.. واسم كل دواء تناوله.. ودرجات حرارته علي مدار الشهر.. الخ. وعندما بلغ عامه الرابع الحقناه برياض الأطفال ثم بالمدرسة الانجليزية لمدة عامين, ثم باحدي المدارس المصرية لكي يتأسس في لغة بلده, ولمدة ثلاث سنوات, وكان يؤدي امتحاناتها بالقنصلية المصرية.

وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره عملت بفتوي احد الشيوخ الاجلاء بضرورة مصارحة الابن في هذه السن بحقيقة وضعه, فصارحته أنا وزوجتي علي مضض بالحقيقة, وروينا له قصة وفاة أمه, وعدم التوصل إلي هويتها, وكيف انني قد احتضنته, وتركت عنواني في الدار التي كان فيها عسي ان يظهر والده الحقيقي ذات يوم أو جده أو خاله, فلم يظهر أحد, ولهذا فلم اتركه, ولن اتركه, وسيظل ابنا لي إلي يوم الدين.

ولقد تألمنا نفسيا أنا وزوجتي بعض الشيء خلال هذه الفترة, ونحن نرقب انعكاسات الحقيقة المؤلمة علي نفس هذا الابن الصغير, لكننا تغلبنا علي الموقف بتكثيف الحنان والرحلات والنزهات والمرح.

وفي الصيف الماضي هبت علي حياتي الآمنة فجأة عدة عواصف تزامت كلها في وقت واحد تقريبا, فلقد مرضت أمي مرضا شديدا ورحلت عن الحياة رحمها الله وشعرت بالحزن الشديد عليها. وخلال انشغالي بوداع والدتي اتصلت بي زوجتي وابلغتني انها قد لاحظت بعض الاهتزازات المريبة في رأس ولدنا ويده, فنقلته إلي المستشفي حيث بدأت الفحوص والاشاعات, وعدت إلي مقر عملي منزعجا ـ ليصدمني الطبيب صدمة قاسية بأن نتائج الفحوصات قد اكدت ان ولدنا مصاب بالفيروس المسبب لمرض الحصبة منذ صغره, لكنه كان ساكنا طوال هذه الفترة, ونشط فجأة فاصبحت نسبة شفائه وعلاجه ضئيلة للغاية, ونصح باجراء عملية لوضع انبوب معين يتم من خلاله حقن الصبي بدواء روفيرون مرتين في الاسبوع لكيلا تتدهور حالته أكثر خلال العمر المتبقي له من الزمان.

أما ثالثة العواصف فهي أنني وفي هذه الظروف الحزينة قد فقدت عملي بالمكتب المصري بالخارج الذي عملت فيه عشرين عاما, وبغير ابداء أية أسباب.

ولقد كنت ادفع للمستشفي نسبة من تكاليف العلاج, وثمن الأدوية وفقا لنظام التأمين الصحي المتبع هناك, فما ان علم المستشفي بفقدي عملي حتي اعفاني من دفع هذه النسبة علي الفور, واما مدرسة خالد فلقد كان بها سلم كهربائي مجهز للمعاقين يصل للدور الأول فقط لوجود حالتين به. فتم مده إلي الدور الثاني حيث يقع فصل خالد.. ورتبت المدرسة ان يزور احد المدرسين, وثلاثة من زملائه من نفس الفصل, واثنان من الفصول الأخري, مرة كل اسبوع ابننا خالد لكيلا يشعر بان المرض قد حال بينه وبين الدنيا.

انني حزين من اجل خالد, ومن اجلي ومن اجل زوجتي واتعجب لمفارقات القدر التي ترفقت بنا بعد الحرمان.. فوهبتنا هذا العزاء ثم تجهمت من جديد في وجوهنا فأنذرتنا بقرب الرحيل.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

مهما تجهمت السماء.. فلابد من لحظة تنقشع فيها السحب السوداء, وتلمع أشعة الشمس, فتطرد فلول الظلام والاحزان فترقب لحظتك المضيئة بإذن الله ياسيدي بعد هذه الرياح غير المواتية التي هبت علي حياتك في الفترة الأخيرة,

رائج :   دائرة الأنتقام ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

وثق بان الله سبحانه وتعالي لن يخذلك, ولن يتخلي عنك أبدا, وانت الذي كفلت طفلا يتيما محروما, وادخلت السعادة إلي قلبه, وحميته من الضياع, وإنما هي تقلبات الأيام, وشدائدها التي اعتصرت من قبل أهل الإيمان حتي هتفوا بصيحة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه, والذين معه حين اشتد بهم الضيق والحصر والهول: متي نصر الله؟ فجاءهم البشير من السماء ألا ان نصر الله قريب.

لقد تذكرت وأنا أقرأ كلمات رسالتك هذه ما قاله ذات يوم الشاعر الانجليزي الغنائي الفريد تنيسون 1809 ـ 1892 الذي كانت أشعاره تبث دائما الطمأنينة في النفوس:

اننا لانفهم شيئا
لكنه يسعني دائما ان أومن
بأن الخير آت للجميع
في نهاية الأمر
وكل شتاء لابد صائر إلي ربيع!

كما استعدت إلي الذاكرة ايضا ما قاله الشاعر العربي البهاء زهير:

لاتعتب الدهر في خطب رماك به
إن استرد فقد طالما وهبا
حاسب زمانك في حالي تصرفه
تجده اعطاك اضعاف الذي سلبا

ونحن لسنا في مجال محاسبة الزمن علي شئ.. إنما فقط نتأمل تصاريف القدر ونتفكر فيها كما انك لم تحاسب زمانك علي شئ من حرمانك من الانجاب وإنما تقبلت اقدارك بنفس راضية, وتسليم مطلق بإرادة الخالق جل شأنه.. وكان هذا التسليم, وهذه النفس الراضية هما مفتاح الحوار الطويل بينك وبين زوجتك الأجنبية الذي انتهي بكما إلي شاطئ واحد للإيمان.

فلقد طبقت من حيث لاتدري بهذا التسليم, ما كان ينصح به القديس فرانسيس داسيس اتباعه من أن يظهروا سلامهم النفسي للآخرين لكي يتساءلوا عما عمر قلوبهم براحة البال, وهذه الغبطة لعلهم يميلون ذات يوم إلي اختيار ذلك بأنفسهم.

وها قد شاءت الأقدار ان تمتنحنك باختبار جديد يتطلب منك ان تتعامل معه بالقدر نفسه من الإيمان والتسليم بارادة الخالق العظيم الذي تعاملت به من قبل مع محنة الحرمان من الإنجاب.. وما احسبك سوف تنكص من اجتياز هذا الاختبار بالصلابة والإيمان نفسها بإذن الله.

وما احسب ان تجهم السماء وهبوب الرياح غير المواتية سوف يستمر في حياتك لزمن طويل.. فلقد حان وقت التعويض عن الأحزان بإذن الله.. ولربما كذبت الأيام أشد الظنون تشاذما, ولربما صفت السماء وعادت البلابل للتغريد في حياتك علي غير انتظار.
ولاعجب في ذلك والله سبحانه وتعالي هو وحده عالم الغيب والشهادة الكبير واغتقال.. يخلق مالا تعلمون وهو علي كل شئ قدير فلاتبتئس.. ولاتستسلم للضغوط.

وثق في كل الاحوال والظروف بان التجربة لم تذهب سدي.. وانها لم تعبر حياتنا بلا جدوي فلقد فزنا بممارسة مشاعر واحاسس جميلة لم نكن لتعرفها ولولا ان اراد الله.. وتعلقنا بالأمل في رحمته.. ولن نمل الرجاء فيه ابدا إلي ما لا نهاية.


لطفا .. قم بمشاركة هذا الموضوع لعله يكن سببا في حل أزمة أو درء فتنة …

مقالات ذات صلة