اجتماعياتكتابات د : أحمد خالد توفيقوعي

أحزان الصراف الآلي .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

نُــشر في: 2 مارس 2016

يبدو هذا العنوان موحيًا، له مذاق عناوين الروايات المترجمة العظيمة مثل (مقتل طائر مغرد) أو (لا يوجد لصوص في هذه المدينة) .. لكن القصة الحقيقية أبسط من هذا بكثير.

ككل شيء في الحياة يقتحم الكمبيوتر مجالاً جديدًا في كل يوم، وهذا يُفترض به أن يبسط الأمور لكنه في مصر بالذات يعقّدها. وكالعادة يبدو مصطلح (هيكلة الدهولة) الذي ابتكرته جريدة العربي الناصري مناسبًا جدًا. إن دخول الكمبيوتر قد أقحم في الحياة المصرية مصطلح (السيستم واقع). السيستم واقع فلن تحصل على مالك من المصرف في وقت دفع القسط. السيستم واقع فلن تحصل على تذكرة قطار قبل تحركه. السيستم واقع فلن تستطيع دفع فاتورة الهاتف. السيستم ذلك الإله الوثني القديم قد نام تحت أعماق المحيط مثل (كتولو)، ولا يعرف أحد سوى الخواجة لافكرافت متى يتحرك.

هنا دخل الصراف الآلي الساحة.

في البدء كان الأمر اختياريًا، والصفوة فقط هم من يتعاملون مع بطاقات الفيزا بشيء من الألاطة، ثم صارت معظم المصالح الحكومية تصرف الرواتب ببطاقات عن طريق الصراف الآلي ATM. هكذا ولدت ظاهرة جديدة في المجتمع المصري هي طوابير كروت الفيزا.

تقرر أن الوقت قد حان وأنك بحاجة للراتب لدفع دروس العيال، وقسط الجمعية، والثلاجة التي ليس فيها جرام لحم، وفاتورة الكهرباء اللعينة التي بدأت تلوح في الأفق. هكذا تقرر أن تخدع الجميع وتذهب للصراف الآلي في وقت لا يغادر فيه الناس بيوتهم. السابعة صباحًا مثلاً موعد مبكر بما يكفي. لو ذهبت في الخامسة صباحًا فلسوف يتم تثبيتك وفتح كرشك على الأرجح. لابد من وقت يجمع بين البكور والأمن.

رائج :   ماليزيا .. موهبة الإعتماد على الذات || الجزء الأول

لكنك تكتشف أن مصر فيها 90 مليون نسمة، وأن الكل فكر بنفس طريقتك. هكذا تذهب لآلة الصرف الآلي لتكشف أن هناك 6782 مواطنًا.

المشكلة أن أي طابور في العالم لابد أن يتحرك، حتى طابور من يثبون في لهيب البركان المشتعل لدى قبائل الإنكا، أو طابور من ستقطع داعش رقابهم، لكن هذا الطابور ثابت تمامًا.

الفكرة هي أن كل مواطن يبدأ محاولة الفهم لطريقة السحب، ثم يجري دورة تدريبية بسيطة لنفسه ويجرب عدة حلول وعدة اختبارات، بينما تلك السيدة البائسة المحبوسة داخل الآلة تكرر بلا توقف:

Thanks for banking with us

وتفشل العملية فيطلق سبة، بينما يتنهد الآخرون في ضيق، ويستغفرون الله. يقول الرجل الأصلع ذو الشارب:

ـ”يمكن ما فيهاش فلوس ؟”

ويقول المسن ذو الشعر الأبيض:

ـ”عطلانه باين “

الرجل الفاشل يجرب في عصبية اكثر. يضغط الشاشة بجنون حتى يوشك على كسرها، كأن هذا يجلب المال بسرعة .. يجلبه جدًا. والنتيجة هي أنها فقدت حساسيتها كأنه يتحسس رخامة المطبخ. يجرب مرة ومرة.

أحد الواقفين في الطابور يشتم الحكومة:

ـ”كان ماله الصرّاف يعني ؟”

ويقول آخر في تفلسف:

ـ”عندك عبد العزيز حجازي مثلاً ………………”

ينتظر الكل ما سيقول لكنه لا يكمل العبارة أبدًا. يقنط الرجل الأول فيرحل، هنا يأتي بعده واحد يعرف ما يفعله، ويتحرك بسلاسة لكن المشكلة هي أنه يدس في الآلة 18 كارتًا على التوالي، ومن الواضح أنه يصرف لعدد من معارفه. دعك من المجند الذي جاء ليسحب للباشوات كلهم. وهنا تتذكر قوانين مورفي الشهيرة: من يقف أمامك في طابور المصرف يقوم بأعقد عمليات ممكنة. الآن جاء دور تلك المرأة الريفية المذعورة المسنة .. يا اختاااااااااي !.. تعرف عندما تراها أن الأمر سيحتاج إلى نصف ساعة.

رائج :   هزيمة يونيو المستمرة || (2) : أسئلة الهزيمة

تطلب هي من أول واحد واقف أن يدس لها الكارت (يادلعدي) ثم تحاول تذكر الرقم السري .. ثم تبدأ العملية المعقدة. ويتدخل آخرون من أولاد الحلال ليساعدوا فتصير عملية السحب جماعية. لن تجد بلدًا آخر في العالم يقوم فيه 17 واحدًا بعملية السحب من الصراف الآلي، والكل يعرف الرقم السري للكل. والمرأة تصر على سحب 1616 جنيهًا . يقنعونها أن الآلة لا تسحب الكسور لكنها مصرّة. يظهر رجل ذكي من الخلف ويصيح في حزم:

ـ”وسع يا عم .. رقمك كام يا حاجة ؟”

ويكرر المحاولة في حزم لكنه يظفر بذات النتائج. يطلق سبة ويبصق ثم ينصرف غاضبًا بينما يتلقى الكثير من الـ (هأو)..

السيدة البائسة المحبوسة داخل الآلة تكرر بلا توقف:

Thanks for banking with us

ثمة ملاحظة اخرى هي ان الآلة تسألك هل تريد إيصالاً ؟ لا قيمة للإيصال لأنه من الممكن أن تقرأ الرقم على الشاشة. الإيصال مضيعة للوقت أثناء الطباعة ومبدد للورق. لكن المرء يشعر بأنه أحمق عندما يقترح أحدهم أن يعطيه شيئًا فيقول لا. الاستخسار. الشعور المصري المزمن بأن هناك خدعة حكومية ما. لا يمكن أن يتلقى السؤال دون أن يقول نعم. تطبع له الآلة الايصال فيسحبه ويمزقه ويلقيه أرضًا دون ان يلقي عليه نظرة واحدة.

رائج :   هزيمة يونيو المستمرة || (٩) الإعلام المصري في حرب يونيو: جزء ١ من ٢

ـ”عندك عبد العزيز حجازي مثلاً ………………”

يقولها الواقف خلفي لكن لا أحد يسأله هذه المرة ..

طبعًا يستمر الطابور إلى أن تبتلع الآلة كارت أحدهم، فيحتشد العشرون رجلاً يحاولون حل المشكلة ويضغطون كل الأزرار ويتصلون بمركز الخدمة.

على الأرجح ينتهي ما في الآلة من مال قبل ان يأتي دورك أنت. يخرج أول واحد في الصف ملوحًا بالبطاقة ويسب .. تشعر بالهلع يتملكك والشعور بأن كل هؤلاء قد أكلوا رزق عيالك. أنت تكرههم. هنا يصيح أحد الواقفين:

ـ”المكنة في شارع أحمد ماهر شغالة”

هنا ينطلق الجميع في حماسة ليلحقوا بها قبل أن تفرغ. طبعًا الرجل الذي أعلن عن الصراف الآلي في أحمد ماهر لن يذهب هناك، وإنما هو يبعدهم ليجرب الماكينة الموجودة في شارع بطرس وحده، أما أنت فتتسلل كاللص للماكينة الموجودة عند محطة القطار.

التقدم العلمي جميل، لكنه في مصر يتحول إلى مشكلة. آلات الصرف قليلة . الموجود منها تالف غالبًا، والتي تعمل منها لم يتم تلقيمها بالمال. سيكون عليك ان تجرب مرة أخرى مع آلة أخرى في منتصف الليل آملاً أن يكون الجميع قد ناموا. وآملاً ألا يفتح اللصوص كرشك هذه المرة.

على كل حال لا يمكنك أن تتذمر. ما دمت تقبض راتبك فما زال هناك أمل. الآن أنت تفهم مثلي أحزان الصراف الآلي، و تدرك أنها موضوع ذو شجون يمكن أن تكتب عنه عدة قصائد شعرية. لو دفعوا لك ثمن هذه القصائد الشعرية فليكن ذلك نقدًا وليس عن طريق الصراف الآلي.

مقالات ذات صلة