من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أنا شاب فى الثالثة والثلاثين من عمرى .. نشأت فى أسرة عادية وعشت حياة هادئة .. وتعرفت وأنا فى نهاية المرحلة الثانوية بطالبة فى غاية الأخلاق والجمال , وتحاببنا وتعاهدنا على الزواج بمجرد أن أنهى دراستى الجامعية ..
والتحقت فى العام التالى بإحدى الكليات النظرية ولحقت هى بى بعد عام آخر فى نفس الكلية .. واستمرت علاقتنا طاهرة وبريئة فكنا نتقابل فى ساحة الكلية وفى الأماكن العامة .. ونترقب اليوم الذى أتخرج فيه وأصبح قادرًا على التقدم لأسرتها .. لكننى تعثرت للأسف فى دراستى الجامعية ..
ورسبت أكثر من مرة فطال مشوار التعليم بالنسبة لى وتضافرت معه ظروفى المادية الصعبة , فيئست من أمل اجتماع الشمل بيننا وطلبت من فتاتى أن نقطع علاقتنا , وأن تقبل من يتقدمون إليها ممن يقدرون على أعباء الزواج , ورفضت هى ذلك بإصرار وقاومت طويلاً انهيار الحلم لكنى ألححت عليها بأن تستسلم للأمر الواقع , وألا تبدد سنوات العمر الثمينة فى انتظار حلم صعب التحقق , واستسلمت أخيرًا لذلك وقطعنا علاقتنا ,
ونحن مازلنا فى المرحلة الجامعية وتخرجت فتاتى قبلى بعام وتقدم لها شاب ممتاز وفى مركز مرموق , ورحبت به أسرتها وتمت خطبتها له , وبعد أسابيع من الخطبة أرسلت إلى تبلغنى باستعدادها لفسخ الخطبة إذا كنت على استعداد للزواج منها ولو بعد حين , لكنى أشفقت عليها من أن تربط مصيرها بمصير شاب مكافح مثلى لن يقدر على تكاليف الزواج قبل سنوات , وأرسلت إليها أرفض عرضها الكريم وأعتذر عن عدم قبوله وأرجو لها السعادة فى حياتها الجديدة , وصدمت هى بردى القاطع ..
فمضت فى مشروع زواجها , وانقطعت أخبارها نهائيًا عنى , ومضت عدة سنوات وجدت خلالها عملاً فى إحدى الشركات الكبيرة وتحسنت أحوالي المادية وبدأ الأهل يحثوننى على الزواج ورشحت لى إحدى قريباتى فتاة رأتها مناسبة لى من كل الوجوه , ورأيتها أنا فلم أقتنع بها , أو بمعنى أصح لم أجد فى نفسى ما يرغبنى فيها أو ينفرنى منها , وترددت فى القبول , لكن الجميع شجعونى على الارتباط بها وحثونى عليه فمضيت فى إجراءات الخطبة والزواج بلا حماس وتمت الخطبة فى موعدها وتحدد موعد القران , وشغلت بإعداد مسكن الزوجية وشغلت خطيبتى بإعداد مستلزمات الزواج وقبل موعد الزفاف بثلاثة أيام ذهبت إلى وسط المدينة لبعض الأعمال , فإذابى أجد نفسى فجأة أمام فتاتى القديمة التى لم أرها منذ عشر سنوات كاملة وهى تدفع أمامها عربة أطفال بها طفلة صغيرة وتنظر إلىّ بدهشة وابتهاج .. وأنا أنظر إليها مذهولاً وعاجزًا عن الكلام!
واندفعت إليها محييًا فى شوق وحنين وحيتنى هى بحرارة شديدة ودفعت العربة أمامها ببطء كأنها تدعونى للسير إلى جوارها , وسرت معها منفعلاً ومبتهجًا وتبادلنا الحديث والسؤال عن أحوال كل منا .. وعلمت منها أنها ليست سعيدة مع زوجها , وصارحتها بأننى سأتزوج بعد ثلاثة أيام لكنى لست مقتنعًا بزوجتى المقبلة ولا أدرى لماذا أمضى فى مشروع زواجى منها .. كأننى مرغم عليه !
وطال حديثنا لأكثر من ساعتين وأنا لا أشعر بما حولى , وهى كذلك وجاءت لحظة الفراق التى لا مفر منها فطلبت أن تعرف عنوانى وتليفونى , لكنى فضلت ألا تعرفهما إشفاقا عليها من المتاعب التى قد تهددها , إذا تجدد الأمل فى اللقاء داخلنا مرة أخرى وأحنت هى رأسها ومؤمنة على ذلك.. وودع كل منا الآخر داعيًا له بالسعادة فى حياته.
وبدأت حياتى الزوجية مع زوجتى محاولاً أن أنفض من رأسى صورة فتاتى القديمة وشخصيتها الدافئة الجذابة , فمضت شهور الزواج الأولى فى فتور ولم أشعر بوجود زوجتى فى حياتى ولاحظت عليها ضعف شخصيتها وافتقادها للباقة الحديث مع الآخرين .. وطلبت منها أن تغير من نفسها وطبعها ورفضت الاستجابة لذلك فإذا بخيال فتاتى القديمة يطل على من جديد ويشاركنى حياتى كل يوم فأغيب معه فى لحظات حلم جميل .. ثم أفيق منه على وجه زوجتى وصوتها وحديثها الذى لا يمنعنى وإذا بى أجد نفسى أفكر فى الاتصال بفتاتى القديمة كل لحظة , ثم أتراجع لأنى لا أريد لها العناء ولا أريد أن أخون زوجتى التى تنتظر مولودنا الأول الآن.
إن خيال فتاتى .. يلاحقنى كل يوم .. ويحثنى على ألا أتوقف أمام أى شئ سوى سعادتى .. فأنفصل عن زوجتى وأتحمل تبعات ذلك النفسية والعائلية والاجتماعية رغم صعوبتها وأطالب فتاتى بألا تكون أقل شجاعة منى وبأن تنفصل عن زوجها وتتحمل تبعات ذلك مهما كانت قاسية عليها ثم نحقق معًا الحلم القديم الذى اعترضته ظروفى المادية وتعثرى فى الدراسة من قبل .. ويستغرقنى هذا الحلم طويلاً فأضيق بزوجتى وبكل ما تفعل .. ثم أنظر إلى بطنها المنتفخ بالمولود المنتظر .. فأتراجع وأرد نفسى إلى دنيا الواقع , فبماذا تنصحنى يا سيدى .. هل أقدم على الخطوة المؤلمة وأهدم أسرتى واحكم على مولودى بأن يجئ للحياة فى بيت لا يعيش فيه أبوه .. أأمتثل لأقدارى وأواصل حياتى مع زوجتى قابلاً بها.
لقد أخطأت خطأ عمرى حين رددت بالرفض على رسالة فتاتى القديمة حين أرسلت لى تبلغنى باستعدادها لأن تفسخ خطبتها إذا كنت مستعدًا للتقدم لها .. ومازلت نادمًا على هذا الرفض .. فهل ترى فى الإمكان تصحيح هذا الخطأ القديم الآن؟
ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
أخطاء الحياة لا ينبغى أن تصحح على حساب الأبرياء الذين لم يرتكبوها , ولا بارتكاب أخطاء جديدة أشد هولاً وحين يتأخر التصحيح عن موعده المناسب فإن الإقدام عليه فى الوقت الضائع يصبح خطأ آخر يضاف إلى أخطائنا القديمة ولا ينتقص منها.
فإذا كنت قد ندمت الآن وبعد عشر سنوات على أنك قد رفضت يد فتاتك الممدودة إليك تحثك على أن تخطو الخطوة الصحيحة فى اتجاه تحقيق الحلم القديم , فليس من النبل أن تقبل بأن يدفع ثمن هذا الخطأ الآن أطفال فتاتك القديمة وأبوهم وأسرتها وأسرة زوجها , وتدفعه أيضا زوجتك وأسرتها ومولودك المنتظر.
وإنما ينبغى أن يتحمل الإنسان ثمن أفعاله بشجاعة ويقبل تبعاتها بشرف .. ونحن فى النهاية لا نعيش فى جزيرة مهجورة وإنما بين أهل وبشر وأبناء يتأثرون سلبًا وإيجابًا باختياراتنا فى الحياة , ولا نستطيع حتى ولو راودنا هذا الحلم الجميل فى الخيال أن “ننسى كل شئ ولا نتوقف إلا أمام سعادتنا الشخصية فقط” كما تقول فى رسالتك ,
وبغض النظر عما سوف يترتب عليها من شقاء للآخرين , ذلك أن هذه هى الأنانية .. الكريهة .. والفردية البشعة التى تنجم عنهما معظم الكوارث العائلية والاجتماعية ولقد تخليت أنت عن حلمك القديمباختيارك ولم تتمسك به ولم تكافح من أجله , وإنما استسلمت سريعًا للانهزامية .. والشك فى قدرتك على تحقيق الأحلام ففقدتها , باستسلامك وإحباطك , وليس بسبب الظروف المادية وحدها بدليل أنه لم تمض عدة سنوات إلا وكانت أحوالك المادية قد تحسنت وراح الجميع يحثونك على الزواج.
وكثير من أحلام الإنسان فى السعادة يتبدد فى الهواء ليس لعجزه عن تحقيقها .. وإنما لشكه فى قدرته على أن يحققها لنفسه بالكفاح الجاد والتمسك بالأمل حتى النهاية.
وفى رواية “السيمفونية الريفية” للأديب الفرنسى أندريه جيد قال الأب الكاهن بطل الرواية: ” ما أكثر الأشياء التى كان من السهل الإقدام عليها لولا تلك الاعتراضات التى يتفنن الإنسان أحيانًا فى ابتكارها لنفسه, وكثيرا ما حيل بيننا وبين هذا العمل أو ذاك لأننا قد سمعنا صوتا من داخلنا أو من المحيطين بنا يقول لنا: إننا لن نقدر عليه , ولو لم نسمع هذا الصوت ونستجيب لها لكشفت لنا التجربة عن قدرتنا على نيله والفوز به”!
وأنت قد سمعت هذا “الصوت” المحبط من داخلك ففتّ فى عضدك .. وأقعدك عن الكفاح لتحقيق حلمك والتمسك به , مع أنه لم يكن مستحيلاً فما معنى أن تتعذب به الآن وقد قامت بينك وبينه سدود حقيقية كالجبال!
إننا نندم غالبًا على ما يفوتنا من فرص الحياة ونتصور فيها دائمًا “السعادة المثلى” التى حرمتنا منها الأقدار , مع أننا لا نستطيع أن نجزمبأننا كنا سنسعد بها لو كانت الحياة قد سمحت لنا بها ولم تسمح لنا ظروف الحياة بأن نختبر هذه “السعادة المثلى” ونتحقق منها لأنها لم تتح لنا من الأصل.
ولأننا فى النهاية إنما نلتقى بأقدارنا المقدورة علينا شئنا ذلك أم أبينا, ولأن سعادتنا وشقاءنا فى الحياة هما أيضًا من قدر الله مهما تحسبنالهما أو اجتهدنا.
فهون عليك يا صديقى ولا تستسلم لأحلام اليقظة الجميلة التى تعلم أنت قبل غيرك أن دونك ودونها أهوال ترتج لها أركان عدة أسر وأنك لا تقدر على الإقدام عليها إلا فى دنيا الخيال الحالمة الجميلة , ونصيحتى لك أن تدع فتاتك لحياتها وزوجها وأطفالها وأن تنفض صورتها من خيالك لكى لا تظل حائلاً بينك وبين قبولك لزوجتك والتواؤم معها , فهذا الخيال نفسه هو الذى يظلم زوجتك ويضعها دائمًا موضع المقارنة الظالمة مع أخرى لا ترى أنت منها سوى طيفها الشاعرى القديم ولم تعش معها حياة مشتركة ولم تختبرها فى كل أحوالها الدنيوية وحين تنجح فى إبعاد هذه الصورة عن خيالك فسوف تعترف لزوجتك بحقها العادل فى أن تكون امرأة أخرى مختلفة عن فتاتك القديمة فى شخصيتها وملكاتها وقدراتها وسوف تكتشف فيها من المزايا ما يرغبك فيها .. وما ترضى عنه وعنحياتك معها وتدع من أجله تلك الأحلام القديمة راقدة فى سلام فى خزينة الذكريات.