من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أرجو أن تصدق كل كلمة أكتبها لك لكي تشير على بالرأي السليم
فأنا سيدة فى الثامنة والعشرين من عمري .. نشأت فى أسرة متوسطة الحال في حي شعبي , وكعادة أهل الحي كنا نلعب في الشارع , الأولاد مع البنات معظم ساعات النهار وفى سن مبكرة وجدت نفسي أستكين تحت حماية “ولد” من أطفال الجيران في التاسعة من عمره بدأ يمارس معي دور الأخ الأكبر فيمنعني من اللعب مع هذا ويضرب من أجلى ذاك .. ولا أستطيع أن أتصرف أي تصرف بغير مشورته أو أن أذهب إلى أي مكان إلا بإذنه وكأنه الآمر الناهي في حياتي!
وشجعني على ذلك أنى كنت وحيدة بلا أشقاء ذكور وأنى تربيت في أسرة تعمل فيها أمي وأبى معا فى محل تجارى صغير ولا تشعر كثيرا باهتمام أبى أو بسيطرته فالأم هي التى تعمل معظم ساعات النهار وهى التي تدبر حياتنا, وتشترى لنا ملابسنا أما الأب فغير مبال فى معظم الأحوال, وهكذا وجدت في هذا الصبي ما افتقدته في أبى من قوة وحزم ورعاية, ولن أطيل عليك فى سرد ذكريات طفولتي لكنى سأقول لك أننا واصلنا التعليم الابتدائي ونحن مرتبطان بهذا الشكل حتى إذا واصلنا إلى المرحلة الإعدادية كنا قد أصبحنا مشكلة حقيقية بالنسبة لأمي التي كثيرا ما هددتني بالابتعاد عنه وأيضا لأبيه الذي كثيرا ما هدده وضربه ليتوقف عن اعتبار نفسه مسئولا عنى!
وحين وصلنا إلى أوائل المرحلة الثانوية لم يجد أبوه مفرا من أن يصطحب ابنه معه إلى بيتنا ويقابل أبى ويعرض عليه الأمر ضاحكا .. ثم يطلب منه قراءة الفاتحة على خطبتي لأبنه لكي يستريح من هذا الصداع ! ورحب أبى وتمت قراءة الفاتحة, واعترف بنا الأهل كخطيبين وحين وصلت إلى الثانوية العامة عقدنا القران ودخلت الامتحان ونجحت ونجح هو أيضا والتحق بكلية الزراعة والتحقت أنا بمعهد الخدمة الاجتماعية.
وبعد عامين بدأ خطيبي يستعد لإعداد الجهاز فترة الدراسة مؤقتا وعمل بائعا في محل تجارى لكي يوفر متطلبات الزواج, وفى هذه الفترة بدأت معاناتي معه .. فكثرت مشاجراتنا .. وكلما تشاجرنا ترك العمل ويظل هكذا حتى اصالحه , وعرف هو نقطة ضعفي فأستغلها تماما, ونصحني البعض بأن تكون لى “شخصية” معه لكنى لم أستطع قط يا سيدي , وكلما أفلتت أعصابه معي تحملت وقلت لنفسي إنه يكافح لإعداد الجهاز ولا أحد يساعده وينبغي على أن أصبر.
ثم تزوجنا بعد 3 سنوات .. وطالبته بالعودة للدراسة فدخل امتحان السنة الثالثة من الخارج ونجح وحصل على البكالوريوس وحصلت أنا أيضا على شهادتي.
وكان المفروض أن تكتمل سعادتي .. لولا أني لم أحمل خلال السنوات الخمس التي مضت من الزواج .. ولولا أن طبعه لم يتغير معي , فحياتنا معا دائما مزيج من السعادة والمشاكل فى نفس الوقت! وأيامنا إما سعيدة جدا .. وإما تعيسة جدا ومشحونة بالمشاجرات والغيرة والمشاحنات حول الحمل والإنجاب, وكلما تشاجر معي امتدت يده على بالضرب كما سبق أن ضربني مرة ونحن مخطوبان فى الشارع ورغم ذلك فأنا أرفض تدخل أحد من أهلي أو أهله بيننا ..
وواجهت معه مشاكل الحياة فبعد التخرج لم يعمل وإنما افتتح بمساعدة أبيه محلا صغيرا فى مكان بعيد لم ينجح واضطر أن يغلقه ويعود إلى الحي الشعبي الذي نشأنا فيه ويتخذ من “فترينة” على الرصيف مكانا لبيع بضاعته, وتحسنت الأحوال قليلا لكنى كنت أضيق أحيانا بمشاجراته وضيق العيش فأترك له الشقة وأعود إلى بيت أبى غاضبة.. وأعجب لأني لا أجد راحتي فى بيت أبى الذي طالما وجدت الراحة فيه من قبل .. أما أمي فتجدها فرصة لتكرار نصائحها لى بأن انفصل عن زوجي, وأبحث عن الأمان مع غيره مادمت لم أنجب منه ولست مستقرة معه فيدخل كلامها من هذا الأذن ليخرج من الأذن الأخرى بلا أي تأثير, ثم بعد عدة أيام أجدني أذهب إليه كالمنومة فى الشارع الذي يقف فيه وأشير إليه فما أن أرى ابتسامته حتى أنسى كل ما حدث وأرجع معه إلى البيت.
وذات يوم كانت أخت زوجي فى زيارتنا فخرجت فى الصباح الباكر لأمر ما ثم عادت بعد دقائق حاملة معها طفلا حديث الولادة “بالدم والسرة” وعرضت حماتي علينا أن نحتفظ بهذا الطفل ونربيه لعله يهدئ نفوسنا ولم أتكلم وتمنيت من أعماقي أن يوافق زوجي .. فوافق وأخذنا الطفل فعلا وفرحت به فرحة كبرى وبدأت انشغل به ساعات نهاري التى يغيب فيها زوجي , أما هو فلم يتغير فى شئ .. وراح يضربني لأتفه الأسباب ولا ينقذني منه حتى صراخ الطفل .. ورغم حبه له فلقد قال لى أكثر من مرة انه يريد طفلا من دمه.
ومضت الحياة بنا بالرغم من ذلك حتى عرفت أنه اقترب من جارة له فى الركن التجاري الذى يقف فيه .. وانه يريد أن يتزوجها لكي ينجب منها فلم أحتمل أكثر من ذلك وحملت “ابني” وعدت إلى بيت أسرتي , وطلبت من أبى أن يقابله ويطلب منه الطلاق وذهب إلى أبى واتفق معه على كل شئ .. وحدد معه موعدا لكي نذهب إلى الشقة و”نفك” الأثاث وننقله إلى بيتنا ثم نذهب معه إلى مكتب المأذون لنتم إجراءات الطلاق.
وفى صباح اليوم المحدد أحضر أبى عربة نصف نقل وأثنين من الأقارب وذهبنا إلى شقتي لنتسلم العفش .. ووجدته ينتظرنا وأقسمت لنفسي ألا أضعف معه مرة أخرى مهما حدث فحييته تحية عادية وانشغلت مع الموجودين فى فك الأثاث وتحميله بالسيارة .. وبجمع الأواني والصيني فى كراتين صغيرة ومضت ساعة ونحن نعمل وهو يساعدنا حتى أنزلنا الأثاث ولم تبق سوى بعض الكراتين فبدأت أستعد للانصراف إلى المأذون وقبل أن نغادر الشقة قلت له فجأة: “ابقى اسأل على” فهز رأسه صامتا ثم أمسك يدي وقبلها ..
فلم أشعر بنفسي إلا وأنا أقبل يده وأبكى وأبى واقف مندهش ومذهول أمامنا, وقريباي والسائق ينظرون إلينا متعجبين وبعد دقيقة أخرى من الصمت استجمعت إرادتي وطلبت من السائق وأقاربي على استحياء أن يعيدوا الأثاث إلى الشقة مرة أخرى فانفجر أبى فى صائحا: هو لعب عيال؟ والله لا أتدخل فى أمر لكما مرة أخرى وسأنصرف الآن , فإذا بسائق اللوري يقول لأبى منشرحا: انصرف أنت فى سلام وقسما لأعيد هذا الأثاث إليهما بغير أن أتقاضى من أحد أجر هذه “العطلة”.. فلقد ذقت من قبل “مرار” هذه اللحظة وأعرف معنى خراب البيوت! ثم دفع القريبين إلى خارج الشقة وأعادوا الأثاث خلال دقائق وهم يتضاحكون وساعدونا فى إعادة تركيبه وشكرناهم من أعماقنا وانصرفوا سعداء وهم يوصوننا بألا نفرط فى بعضنا البعض وأن نتقى وساوس الشيطان.
وعدت إلى حياتي مع زوجي من جديد يا سيدي .. لكنى أشعر أن شيئا بيننا قد انكسر فأنا أحبه لكنى اكره “أفعاله” وأنا لا أستطيع الاستغناء عنه لكنى أريد أن أعيش معه فى سلام, وهو يحبني ولا يستطيع الاستغناء عنى لكنه لا يريد أن يحيا معي حياة طبيعية بلا مشاكل ولا مشاجرات.
إننى أقول لنفسي أحيانا إنني يجب أن أتحمل وأعيش معه وأرضى بالقليل لكي يحس بالأمان ويهدأ ويستقر.
وأقول لنفسي فى أحيان أخرى إنني يجب أن أنفصل عنه وأتعذب بعض الوقت إلى أن أنساه ثم أبدأ حياتي من جديد.
وبين هذا وذاك احترت واحتار دليلي وقد كتبت لك هذه الرسالة وأنا فى أشد حالات الضيق راجية أن تشير على بالرأي السديد وأعدك بأن أعمل به, لكن أرجوك ألا تطلب منى الطلاق لأن معناه أن أحكم على نفسي بالموت وأن أحرم طفلا من أب يمكن أن يوجهه التوجيه السليم حين يكبر حتى ولو قال بعض الناس انه ليس ابننا.. فبماذا تشير على؟
ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
لم تدعى لى يا سيدتي مجالا للاختيار, فلقد حسمت الأمر كله برفضك أساسا لفكرة الانفصال .. وحسنا فعلت لأنك لن تستطيعي فعلا الانفصال عنه ولن يهدأ لك جانب إذا حرمت منه, فهو تحت جلدك وممتزج بدمك وطفولتك وصباك, وأنت أيضا تحت جلده وممتزجة بدمه وحياته حتى ولو لم يدرك ذلك تماما الآن.
إذن فلا مكان لحل الانفصال فى القصة كلها .. لأنها قصة عمر وقصة حياة من هذا النوع الذى يقول فيه الشاعر:
كأن لم يكن فى الناس قبل متيم
ولم يك فى الدنيا سواك حبيب
وأنا أصدقك فى كل ما قلت .. وأعجبت كثيرا بشهامة هذا السائق الإنسان وحكمته وأرى أن مثلكما لن يهنأ له عيش بعيدا عن الآخر ولو عاش فى قصور فاخرة, لأن سفينة كل منكما لن تلبث أن تعود إلى مرفئها القديم مهما تقاذفتها الأمواج بعيداّ عن الشاطئ فلا داعي للتجارب الفاشلة إذن .. ولا داعي لتكرار أخطاء الآخرين ممن تحدوا أنفسهم وجربوا حظهم بعيدا فظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم وبدأوا حياة جديدة مع الغير وقلوبهمرهائن لدى آخرين فشقوا بحياتهم وأشقوا غيرهم.
غير أن آفة هذا النوع من الحب الملتهب هو انه لا يعرف وسطا بين السعادة والشقاء أبدا فإما سعادة لاذعة حريفة وإما تعاسة حريفة ولاذعة أيضا, لأنه كالنار المتأججة دائما ومع ذلك فحتى التعاسة فيه لها مذاق خاص أرحم كثيرا من النوع الآخر البغيض.
وإذا كانت القاعدة القديمة تقول: أن من يحب أقل يسيطر أكثر, فالواضح أنك تحبين أكثر وتسيطرين أقل! لكن لا بأس بذلك فليس بين المحبين حساب , والمهم هو أن تتجنبي هذه الحياة “الحريفة” اللاذعة وتستمتعي بسعادتها, ولا مفر أمامك من الصبر عليه إلى أن يزداد نضجا وحكمة وفهما للحياة .. ولا مفر أيضا من أن تحاولي التماسك أمامه قليلا لكيلا تشجعيه على تكرار الأخطاء السابقة معك, وأن تتجنبي المشاحنات معه بقدر الإمكان, وأن تحاولي إقناعه بأنه حين يؤذيك جسديا إنما ينال فى الحقيقة من عمره وحياته ووجوده كله, وأنكما قد شببتما عن الطوق ولم تعودا صغيرين يلعبان فى الطريق ويجوز بينهما ما كان يجوز وهما فى سن الطفولة أو الصبا.
وسوف تتحسن الأحوال بإذن الله حين تتحسن ظروفه المادية .. وحين تنضجه الأيام والليالي ويعرف قيمة الكنز الذي أعطته له الدنيا, وحين تعملين أيضا وتساعدينه ف تحمل أعباء الحياة, وحين يأذن الله لكما بالإنجاب وحذار ساعتها أن تتخليا عن هذا الطفل المحروم فمن يدرى فلعل الله قد جمع بينكما من جديد وصان عشكما من الدمار حماية لهذا البرئ من الضياع.