من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أنا سيدة عمري 37 سنة .. تزوجت منذ 20 عامًا، وواصلت تعليمي بعد زواجي حتى تخرجت، وتم تعييني معيدة بالجامعة .
ونظرًا لزواجي صغيرة في السابعة عشرة من عمري ووجود فارق كبير في السن بيني وبين زوجي فلقد كنت أنظر دائمًا إلى زوجي كمثل أعلى وككل شيء لي في حياتي .
لكني مع مرور السنوات وتجربة الأيام بدأت أكتشف أن زوجي ليس ناجحًا في حياته، وأنه يلجأ دائمًا لإخوته أو لأي إنسان آخر لمساعدته، وظل يتنقل من فشل إلى فشل حتى سئم الجميع مساعدته ، فلم يجد أمامه سواي ليعوض عجز إمكاناته، ولم أرفض ولم أتوان في ذلك بل قدمت له كل ما استطعت من مساعدة مادية ونفسية وواصلت التقدم في عملي حتى أصبحت أستاذًا مساعدًا بإحدى كليات القمة، وكان عليّ أن أدبر دائمًا مطالب حياتي بما يكفل لنا أن نظهر – أنا وزوجي – بالظهور اللائق بمستوانا العائلي لأننا – للأسف – من أسرتين كبيرتين كل أفرادهما ناجحون وفي مناصب مرموقة .
وليست هذه هي المشكلة .. لكن المشكلة الحقيقية بدأت حين رأى زوجي أن الحل الأمثل لمشكلاتنا المادية هو أن أسافر للعمل في إحدى الدول العربية ، ولا أنكر أنني قد تحمست لذلك في البداية لأن مرتبات أساتذة الجامعة في هذه الدول كبيرة لكنني راجعت نفسي بعد قليل فوجدتني لا أرغب في خوض هذه التجربة لأني سأسافر إلى مقر عملي وأقيم به وحدي لارتباط أولادي بمدارسهم المختلفة وضرورة بقاء زوجي معهم ..
فضلاً عن أننا نعيش في بلدنا في مستوى معيشي مرتفع ولا ينقصنا سوى القدرة على تأمين مستقبل أولادنا وإجراء بعض التجديدات في مسكننا وأثاثنا ، وصارحت زوجي بذلك وأنا على يقين من أنه سوف يقر رغبتي في ألا أتركه وأترك أولادي وبيتي ، من أجل مطالب من هذا النوع ففوجئت به يصدمني صدمة شديدة بغضبه وباتهامه لي بالتراخي وعدم الجلد على الكفاح ويقول لي : إن من واجبي ألا أكون أنانية حرصًا على صالح أولادي .
وتألمت لموقفه .. وذهلت له .. ومع أنني كنت أستطيع أن أصر على ما أريد وأستمسك بعدم تنفيذ حكم النفي الذي أصدره زوجي ضدي .. فلقد أحسست بجرح كرامتي ومشاعري كزوجة وقررت السفر ليس تنفيذاً لإرادته وإنما لأنه مادام لا يتمسك بي .. فلن أستمسك أنا به أيضاً.
وسافرت إلى مقر عملي الجديد في أول تجربة اغتراب لي عن بيتي وأسرتي بعد عشرين عامًا من الحياة العائلية المستقرة وأدهشني أنني وجدت مثيلات لي في مقر عملي ، ولهن نفس ظروفي تقريبًا ويعملن ويقيم معهن أزواجهن بلا عمل أو في انتظاره منذ سنوات ، أو وحيدات ينفذن عقودًا للعمل وأزواجهن في بلادهم يعملون ويرعون الأولاد !
وأحسست كأني أمام مسرحية هزلية تقوم فيها النساء بدور الرجال ، والأكثر غرابة أن معظم من رأيتهن – ولهن نفس ظروفي – كن راضيات عن حياتهن وغير ساخطات على أزواجهن ما عدا سيدة واحدة يدل حالها على أنها تعاني ما أعاني منه .
واحتملت عامي الأول ما استطعت من قوة أعصاب بصبر وعدت في الإجازة السنوية وأنا أتوقع من زوجي أن يبادرني بأمر صارم لي بعدم السفر مرة أخرى لأنه في حاجة إليّ ولأن أولادي يحتاجونني فضلاً عن أنني امرأة ولا يصح أن أغترب وحيدة بعيدة عن زوجي في مجتمع آخر ، فصدمت للمرة الثانية بإصراره على عودتي للسفر بعد انتهاء الأجازة واعتبار ذلك أمرًا مفروغًا منه وليس موضوعًا للمناقشة ! فأمضيت الأجازة مكتئبة وعدت للسفر بعد انتهائها كما فعلت أول مرة ولكن مع اختلاف جوهري هو أنني رجعت لمقر عملي وأنا أحمل في صدري كراهية شديدة لزوجي الذي كنت أحبه حبًا كبيرًا وأعتبره كل شيء في حياتي طوال عشرين سنة وكان أهم دوافعي للسفر هو أنه البديل الأخف وطأة للطلاق حرصًا على مصلحة أبنائنا .
وأريد أن أسألك الآن يا سيدي هل أنا مغالية حقًا في إحساسي بوجوب أن يقوم الرجل على زوجته وأن يكون غيورًا عليها ؟
وهل أنا أنانية فعلاً كما يتهمني زوجي ؟. لقد أحببت زوجي دائمًا وأخلصت له منذ ارتبطت به لكني الآن أكرهه وأمضي ساعات طويلة شاردة تراودني فيها أحلام غريبة كأحلام اليقظة فأتخيل أنني زوجة لرجل يمنعني من العمل حرصًا عليّ ويبدي غيرته ويرفض التفاهم حول هذا الأمر ويكرمني ويقوم على أمري كما وصف الله الرجال بأنهم “قوامون على النساء” . وأفيق من تخيلاتي على وحدتي وأفكاري فأزداد اكتئابًا يومًا بعد يوم .
والحق أنني لست أرفض مبدأ العمل ، فلقد كنت أعمل في بلدي وسأواصل العمل به ، بل ولا أرفض مساعدته بكل ما أملك .. لكن ما لا أقبله أو أحتمله هو أن يلفظني زوجي الذي كنت أحبه ويرسلني إلى بلد آخر لأحضر له المال حتى ولو كان ذلك بحجة تأمين مستقبل الأبناء . إنه يا سيدي يريد بقائي في عملي هذا لعدة سنوات مقبلة وأنا لا أستطيع تحمل فكرة تخلي زوجي عني وعدم تمسكه بي .. فهل أطلب منه الطلاق ؟ ومن المخطئ منا .. أنا أم هو ؟ وماذا حدث لبعض الرجال يا سيدي .. حتى هانت عليهم كرامتهم إلى هذا الحد ؟ إنني أرجوك أن تنصحهم بأن يحافظوا على زوجاتهم لأني أشعر بحزن شديد على حالي ، ولابد أن هناك كثيرات يشعرن بمثل ما أشعر به .. وشكرًا .
ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
قوامة الرجل على زوجته يا سيدتي هي قوامة تكليف وليست قوامة تشريف بصفة عامة ولنحتكم في ذلك إلى نص الآية الكريمة التي يتجاهل البعض نهايتها غالبًا عند الاستشهاد بها وتقول (( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله )) صدق الله العظيم ومنها نفهم أن هذه القوامة مشروطة بقيام الزوج بتكاليف الرجولة وأعبائها ، ومنها “بما أنفقوا” وليس من هذه “التكاليف” بأي حال من الأحوال أن ينفي الزوج زوجته إلى أرض بعيدة رغمًا عن إرادتها ورغبتها ومتجاهلاً كل اعتباراتها الشخصية لكي تعمل وتعرق وتكافح وتجمع له المال لكي يؤمن به مستقبل أبنائه أو يجدد حياته ، وإنما من تكاليفها الأساسية أن يقوم هو بكل ذلك نيابة عنها ..
فإذا أتيحت لزوجته فرصة لم يتح له مثلها ورغبت هي في الاستفادة منها بإرادتها الحرة لكي توفر لأبنائها حياة أفضل جاز له أن يوافق على ذلك .. وجاز له أيضًا أن يرفض ويتمسك بحقه في أن تقر زوجته في بيتها معه ومع أبنائه مفضلاً صالح الأسرة والأبناء وحماية زوجته مما قد تتعرض له على الاعتبارات المادية .. وأما أن يكرهها زوجها أدبيًا على ذلك ويمارس معها الابتزاز النفسي لتقبل بما لا تريده متهمًا إياها بالأنانية لرفضها الاغتراب والبعد عن زوجها وأبنائها فهذا هو “التنطع” الذي ما كان لك أن تقبلي به من البداية ، أو تضعفي أمامه .
فالزوج هو المسئول شرعًا وقانونًا عن إعالة أسرته وتأمين مستقبل أبنائه، وللزوجة أن تعينه على ذلك بمحض إرادتها وإحساسها بمسئوليتها المشتركة عن أبنائها وأسرتها لكن ذلك كله في النهاية ليس واجبًا عليها ، ولا تكليفًا من تكاليفها حتى ولو كانت ذات مال والمرأة كما يقول لنا الإمام محمد أبو زهرة رضوان الله عليه : “تعمل إما لحاجتها أو لحاجة المجتمع إليها” وحاجتها للعمل هذه قد تكون حاجة مادية وقد تكون حاجة نفسية .
وخلاصة القول أن العمل حق للمرأة وليس واجبًا عليها ، وصاحب الحق يستطيع أن يتنازل عن حقه بإرادته بلا لوم عليه من أحد ، أما صاحب الواجب فلا يستطيع أن يتخلى عن واجبه ، إلا حق عليه اللوم ، واتهام زوجك لك بأن رفضك للسفر والاغتراب والحياة وحيدة في مجتمع غريب “أنانية” من جانبك ، اتهام مضحك حقًا !
فأنت – كما تقولين في رسالتك – تقومين بتحمل العبء الأكبر من مسئولية الأسرة ، وأسرتك في النهاية تعيش في مستوى معيشة مرتفع نسبيًا ، ولا يؤرقكم إلا ما يهجس لكل رب أسرة من رغبة في تأمين مستقبل الأبناء .. وهي رغبة شريفة في حد ذاتها ولكن بشرط أن يضطلع بتحقيقها زوجك ، ولا بأس أيضًا بأن تضطلعي بها أنت إذا كانت فرص تحقيق ذلك أمامك غير متاحة لزوجك ولكن بشرط أيضًا أن ترغبي أنت في ذلك بإرادتك الحرة وبغير إكراه أدبي أو نفسي لك وبغير أن تدفعي ثمنًا لذلك الاغتراب والحياة كزوجة وحيدة في أرض غريبة ، أما أن يطالبك زوجك بكل ذلك وينعي عليك “عدم الجلد على الكفاح” ويتهمك بالأنانية .. فهذا نموذج فريد حقًا للمنطق المعكوس وليّ الحقائق .
فزوجك يطالبك بالجلد والكفاح وربما يذكرك أيضًا بقول الشاعر الروماني العظيم فرجيل : ” إن المجد لا ينال تحت الفراش .. ولا تحت الأغطية ” وفي نفس الوقت يتدثر هو بأغطية العجز والفشل والتخبط والقبوع في بيته وبلده بجانب الأهل والأبناء ! فأي تناقض هذا .. وهو يقدم لهم عمليًا هذا النموذج العجيب لرمز الأب في مخيلتهم !
إن مال الدنيا لا يغني هؤلاء الأبناء شيئًا إذا فسدت قيمهم ، وإنه لأفضل لهم مائة مرة أن ينشأوا على القيم الصحيحة في أسرة سوية يعولها الأب بموارده المحدودة وتعينه الأم بما تملك يداها وينشأ الأبناء بين أبوين متحابين متعاونين عن أن يرثوا أموال قارون وقد فقدوا احترامهم لأبيهم واختلت قيمهم وموازينهم ودفعوا ثمن تمزق الأسرة وتبادل الأدوار فيها غاليًا من أخلاقهم واستقرارهم النفسي والعائلي .
وبعد كل ذلك فإني أقول لك إنه لو كانت هناك دوافع مادية ملحة كإنقاذ الأسرة والأبناء من مأزق مالي طارئ أو لسد ديون عجزت الأسرة عن سدادها أو لتلبية مطالب ضرورية كتوفير المسكن مثلاً لما كان لك يا سيدتي أن تترددي في قبول التضحية وتحمل تبعاتها النفسية .. أما أن يكون الهدف وراء ذلك هو الطموح المعتاد لدى كل إنسان إلى حياة أفضل ، و”الوسيلة” هي الابتزاز والإرغام وإرسال الزوجة رغمًا عنها إلى المنفى فإنه يحق لك تمامًا أن تحزني .. وأن تستسلمي للتأملات وأحلام اليقظة التي ترين فيها الأوضاع الطبيعية للحياة وقد عادت إلى حياتك وليست الأوضاع المعكوسة .
إن نصيحتي لك هي أن تصححي هذا الخطأ الذي استمر أكثر من عام على غير إرادتك قبل أن يستقر ويتحول إلى أمر واقع أو تتعودي عليه إلى النهاية فالحق أنه أخطر من الخطأ نفسه أن تعتاد عليه فيصبح أمرًا مألوفًا لنا ويفقده قدرته على إثارة العجب والاستنكار .
وقديمًا قال أحد المؤرخين لنا : “تبدأ الكارثة حين يصبح الاستثناء من القاعدة أمرًا مألوفًا .. وتصبح القاعدة أمرًا غير مألوف ” ورأيي هو أن تعودي إلى بيتك وأبنائك وعملك ببلدك بعد نهاية هذا العام الدراسي مكتفية بما حققت لأسرتك من خير ، وأن تبلغي زوجك بقرارك الحاسم والنهائي برفضك الاغتراب وحيدة مرة أخرى ، وليتفضل هو بالكفاح والاغتراب إذا كان راغبًا فيهما .. أو فليرض بحياته ويشكر ربه على نعمة الزوجة المطيعة المضحية المخلصة والأبناء الصالحين وما أتيح له من أسباب الحياة وهو ليس بقليل قبل أن تتحول كراهيتك العارضة المؤقتة إلى كراهية حقيقية مريرة .. ويفقدك للأبد فيلوم نفسه يوم لا ينفع اللوم ولا الندم