من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أنا شاب أبلغ من العمر28 عاما, نشأت في أسرة مكونة من أب يكدح حتى يجعل من أبنائه شيئا يفتخر به, وأم تجد سعادتها عند إحساسها بالتعب في سبيل أبنائها, وعدد من الأخوات الفضليات.
لقد مضت الأيام سريعا إلى أن وفقني الله بعد نجاحي في الثانوية العامة والتحقت بإحدى الكليات المنشأة حديثا واجتزت سنين الدراسة الأربع بتفوق والحمد لله وحصلت على المركز الأول على قسمي وتحقق ذلك بفضل من الله ثم بدعاء والدي ووالدتي, ولم أصف لك مشاعري ومشاعر والدي ووالدتي عند نجاحي,
فلقد انهمرت الدموع وارتميت في أحضانهما وازدادت سعادتنا جميعا بما جاءت به الأخبار من كليتي بتكليفي أنا ومجموعة من الزملاء الأوائل للتعيين بوظيفة معيد بالكلية, بالإضافة إلى موافقة الكلية على العمل بها بعقد إلى حين الانتهاء من إجراءات التعيين, وفي ضوء ذلك لم أتسلم الوظيفة التي توفرها الكلية لخريجيها وإنما عملت بكليتي التي أحببتها وتمنيت أن أعمل بها بعد تخرجي,
وكنت أرغب في الالتحاق بالدراسات العليا بإحدى الجامعات بالقاهرة, لكن ذلك كان يمثل عبئا ماديا على أبي في الوقت الذي كان ينتظر فيه أن أتحمل فيه مسئولية نفسي, لذلك طلبت من والدي أن أؤجل دراستي إلى أن أعين رسميا بكليتي وذلك بحجة أخذ فترة راحة بعد تعب أربع سنوات انتهت بتفوقي والحمد لله, إلا أن والدي رفض ذلك وشعر بحاسة الأب بالسبب الحقيقي لرغبتي هذه,
وأكد لي أنه على استعداد أن يصرف على تعليمي حتى آخر جنيه في جيبه, فأثر ذلك كثيرا في نفسي وعزمت على أن أبذل قصارى جهدي حتى لا يضيع تعب والدي وحرمان نفسه من الكثير لأجلي هباء, ورجوت الله أن تنتهي إجراءات تعييني في وظيفة معيد سريعا حتى أعفي والدي من بعض أعبائه, وبعد مرور عام على عملي بالكلية بالتعاقد وتكليفي للتعيين بوظيفة معيد اجتزت بنجاح السنة الأولى في تمهيدي الماجستير, إلا أن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن,
فتم إلغاء تكليفي أنا وزملائي جميعا بسبب قرار ظالم من الكلية فضاع حقي وحق زملائي, ووقفت في مفترق طرق وأنا مازلت في بداية الطريق والدموع تملأ عيني وطعم الظلم مرير في فمي, وجلست مع والدي أحدثه وأنا أبكي بموقفي من الكلية والحزن جاثم على صدري كصخرة لا تتزحزح فإذا به يهديء من روعي ويخفف أحزاني بكلمات لا أنساها حتى الآن,
فطلبت منه السماح لي بالسفر للدول العربية, حيث أن تخصصنا مطلوب بشدة هناك لكي أكون نفسي ماديا من جهة وأستعيد ثقتي بمن حولي وفي نفسي من جهة ثانية, ومرة أخرى رفض والدي مجرد فكرة السفر, لأنني كما حدثني الرجل الثاني في المنزل وهو حي والأول بعد وفاته, فما كان مني إلا أن دعوت له بطول العمر ودوام الصحة, وصرفت النظر عن السفر للخارج,
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد بل طلب أبي استكمال دراستي العليا راجيا مني ألا أتأثر بما حدث وكانت لا تزال الفرصة متاحة لي لتسلم عملي الأساسي إلا أن والدي أصر على عدم تسلمي لوظيفتي الأساسية إلا عند تسجيلي للماجستير وشجعني على العمل مرة أخرى في كليتي بالتعاقد, ومر العام الثاني على تخرجي وعملي بالكلية للعام الثاني على التوالي وأنا أحاول جاهدا أن أبدو متماسكا وألا يظهر الحزن على قسمات وجهي بعد أن ملأ قلبي,
ولم يكن ذلك اعتراضا على ما قدره الله لي, ولكن الإحساس بالظلم كان مريرا, وهو ما شعر به والدي فطلب مني عند سجودي أن أقول: حسبي الله ونعم الوكيل فيمن ظلمني وكفى, وذكرني بقوله سبحانه عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم, فهدأت نفسي كثيرا, وفي منتصف العام الثاني وأثناء دراستي بالدراسات العليا أعلنت كليتان مناظرتان لكليتي عن حاجتهما لمعيدين في تخصصي للتعيين بها, إلا أنني رفضت أن أتقدم لأي منهما,
فقد كان لي تجربة مؤلمة في نفسي حيث كان لي حق وضاع, فما بالك بمثل هذه الإعلانات وهي كما معروف مجرد إجراءات شكلية في حين أن أصحاب النصيب ينتظرونها, لكن أبي نصحني بالتقدم لهما, مؤكدا لي أنني لن أخسر شيئا وتقدمت بالفعل بأوراقي للكليتين, وانتهى العام الدراسي ووفقني الله في الحصول على تمهيدي الماجستير بتقدير لم أكن أتصور أن أحصل عليه,
والتحقت بمرحلة الماجستير في العام الثالث من تخرجي وعملت أيضا بالتعاقد في كليتي, ونسيت تماما أوراقي التي تقدمت بها إلى هاتين الكليتين وفي نهاية العام الدراسي وافق أساتذتي بالدراسات العليا على التسجيل لدرجة الماجستير, ثم فوجئت بأبي في أحد الأيام يبشرني بأن الله سيعيد إلي حقي وابتسمت شاكرا,
وأخذت حديثه لي على أنه من باب تشجيعي وإعطائي الأمل في الغد, وبعد أن أوشكت على التسجيل بعد في استكمال إجراءات تعييني في وظيفتي الأساسية وقبل أسبوع واحد فقط من تسلمي العمل, وبعد انتهائي من عملي بالكلية توجهت لمنزلي فإذا أجد أمي وهي تستقبلني أمام باب المنزل والدموع في عينيها وفوق خديها,
ثم تأخذني بين أحضانها وهي تقول بصوت متهدج مبروك, وأنا في حالة من الذهول لا أعي من أمري شيئا وإذا بي أري أبي واقفا فاتحا ذراعيه ويأخذني بالأحضان والقبلات ودموعه تنهمر من عينيه كالمطر وأنا مازلت في حالة بين الوعي واللاوعي إلى أن اخبرني أبي بقبولي في وظيفة معيد التي تقدمت لها منذ سنة ونصف السنة في إحدى الكليات المناظرة لكليتي, وأفقت على جواب الترشيح بين يدي وأنا لا أصدق ما يجري وسعدت بذلك سعادة لا مثيل لها ليس لأن الله قد عوضني عن ضياع حقي الأول فحسب,
بل لأن ذلك كان أمنية لوالدي الذي دعا الله كثيرا أن يحققها له غير أن القدر لم يمهلني يا سيدي لكي يسعد بي أبي طويلا فبعد شهر واحد فقط من وصول خطاب ترشيحي وفي أثناء استكمال إجراءات تعييني رحل والدي عن دنيانا وكما كان كالنسمة في حياته رحل في هدوء في مماته,
دون أن أرد له شيئا من فضله علي فبكيت بكاء الأطفال ومازلت ابكيه وقد كان هو الأب والأخ والصديق الذي وقف بجانبي وشد من أزري في الوقت الذي تخلى فيه عني الجميع وظل يكافح لسعادة أبنائه وتحقيق ما يرجوه لهم فكأنه كان ينتظر فقط أن يحقق الله ما كان يتمناه لي, ثم يسلم لي الراية ويرحل عن الحياة وهو يدعو لي ولأخوتي ويوصيني بوالدتي وشقيقاتي خيرا.
فإذا سألتني عن حال أسرتي بعد وفاة والدي خاصة أنك تعلم ماذا تعني وفاة والد الأسرة وعائلها, إذن تعلمت أن حياتنا سارت طبيعية لم يتغير شيء فيها ولم تتعرض الأسرة لأي أزمة مالية, والحمد لله وفقني الله بعد عدة أشهر من تعييني بالكلية في التسجيل لدرجة الماجستير بيسر وسهولة, هذا بالإضافة إلى نقلي من الكلية التي تسلمت فيها عملي إلى فرع لنفس الكلية قريب من محل إقامتي حتى أتمكن من رعاية والدتي,
ولم يتحقق ذلك إلا بفضل من الله وبفضل عمل والدي الصالح في حياته ودعاء والدتي أطال الله في عمرها. ومنذ عدة أسابيع وفقني الله سبحانه وتعالى في مناقشة رسالة الماجستير, وكم كانت سعادة أفراد الأسرة جميعا كبيرة لحصولي على درجة الماجستير ولم ينتقص من تلك الفرحة سوى غياب أبي عنا بجسده وهو الحاضر دائما معنا بروحه, وإنني أكتب رسالتي هذه عرفانا وتقديرا لأبي رحمه الله الذي بذل الكثير من أجلي, ولأتقدم بالشكر إلى أمي أطال الله عمرها, وجزاهما عني خير الجزاء, لكي أسأل قراء بريدك أيضا قراءة الفاتحة علي روح والدي في ذكرى وفاته, الأولى يرحمه الله.
ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
من المألوف في حياة الإنسان أن يتذكر في لحظات الفوز, من كانوا سيسعدون بفوزه أكثر مما يسعد هو نفسه به, فكأنما نتلفت حولنا حينذاك لكي نبحث عنهم.. ونستشعر السعادة في سعادتهم وفرحتهم الصادقة بما تمنوه طويلا لنا.
لهذا فمن الطبيعي يا أيها الشاب أن تتذكر والدك الطيب العطوف, حين تنتهي إجراءات تعيينك كمعيد بالكلية, وحين تحصل على الماجستير فتتراءى لك صورته وتستعيد حدبه عليك وأمنياته الطيبة لك وتضحياته الغالية من أجلك وأجل شقيقاتك, وتشعر بحب الدنيا كلها له.. وأسفك الشديد لغيابه عنك في هذه اللحظة أنه واحد من هؤلاء الآباء الطيبين الذين ينكرون أنفسهم من اجل أبنائهم ويحترقون لكي يضيئوا لهم طريقهم.. فلا عجب في أن تنطوي له على كل مشاعر الإكبار والإعجاب والامتنان..
وأن تظل روحه الطاهرة ترفرف دائما في أجواء حياتكم العائلية فإذا كنت تأسف لأنه قد رحل عن الحياة قبل أن ترد إليه أي شيء من دينه عليك فإنك تستطيع أن ترده إليه.. عن طريق تحقيق كل أمنياته لك ولشقيقاتك في الحياة ورعايتك لوالدتك, وقيامك بواجبات الرجل الأول في الأسرة بعد غياب أبيك على أكمل وجه إن شاء الله.. وبهذا تؤدي بعض دينك إليه وتفوز بسعادة الدنيا والآخرة بإذن الله.