من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
منذ أربعين سنة استأجرنا شقة بمصر الجديدة في موقع متميز بأحد المنازل القديمة بمبلغ خمسة جنيهات بعد أن دفعنا خلوا قدره 150 جنيهاً, وظللنا ندفع هذه القيمة التي زادت زيادة طفيفة حتى أصبحت عشرة جنيهات , وكنت أشعر وأنا أدفع الإيجار الذي أعطي مثله تقريباً للبواب بشئ من المرارة حيث كان هذا الإيجار حين استأجرنا الشقة يكفي لشراء 15 كيلو جراما من اللحم,
وأصبح الآن يكفي بالكاد لشراء ربع كيلو جرام, وكان هذا الأمر دائماً يؤرقني إلى أن جاء يوم منذ حوالي عشر سنوات , وكنت أستمع فيه إلى حديث الشيخ الشعراوي _رحمه الله_ وكان يفسر الآية الكريمة :
} لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ{ .. ففسرها ثم قال: “إنه حتى لو كان القانون يعطيك الحق في شئ تعتقد أنت أن فيه ظلما حرام عليك .. كما هو الحاصل في قانون إيجار الأراضي الزراعية والمساكن فكأنما أراد الله أن تتضح الرؤية لي فقلت لزوجي ما رأيك أن تكف عن هذا الإثم وننصف أصحاب البيت الذي تسكن فيه .. فرد عليّ قائلاً: ومن ينصفني في الـ14 شقة التي يستأجرها مني ساكنو العمارة التي اشتريناها منذ عشرين سنة إنني ظالم ومظلوم بنفس هذا القانون وهو يسري على الجميع ..
وكان كلام زوجي منطقياً لكنه لم يصادف قبولا عندي ولم يرح قلبي فقررت ألا أثير الموضوع معه ثانية وأن أفعل شيئاً أريح به ضميري واتصلت بصاحب البيت وقلت له إنني سأزيد الإيجار إلى 50 جنيهاً بناء على ما سمعته وسألني الرجل عن رأي زوجي في ذلك فحكيت له ما دار بيننا والتمس هو له العذر في رده وشكرني, ومضت ثلاث سنوات ثم تحدث زوجي معي ذات يوم عن قانون الإيجارات وكيف أن العمارة تؤجر كلها بما تؤجر به شقة واحدة فوجدتني أخبره بحقيقة ما فعلت , فلم يعترض ولكنه قال لي أن هذا لا يكفي ولا تزيدي الإيجار مرة أخرى ..
غير أنني بعد سنتين كنت بصدد البحث عن شقة لشغالة عندي في منطقة دار السلام فوجدت أن أقل شقة يمكن سكناها إيجارها مائة جنيه فلم أستطيع أن أقاوم رغبتي في زيادة إيجار الشقة التي أقيم بها رغم تنبيه زوجي عليّ بعدم فعل ذلك.
وقررت أن أزيد الإيجار إلى ثمانين جنيهاً على أن يكون ذلك من مصروفي الشخصي وبدون علم زوجي ثم تجنباً للمشكلات ومضت على هذه الزيادة ثلاث سنوات أخرى ووجدت الذي لم أتعود أن أخالفه في شئ ولم أتعود أن أكذب عليه يحذرني بمناسبة دفع الإيجار من أن أرفع الإيجار.. ولم أستطع مصارحته بما فعلت .. فثار ثورة كبيرة لمخالفتي أمره, وقال لي إنني لو أعطيت هذه الزيادة للفقراء لكان أفضل .. وقلت له إننا والحمد لله نعطي لهم وزوجي والحمد لله ممن يجزلون العطاء لوجه الله, وإن هذا حق الناس ولسنا أحراراً في أن تعطي حقاً علينا لغير أصحابه, والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه : }ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ {
وأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد حرم علينا أموال الناس في حجة الوداع, وعبثاً حاولت أن أقنعه ليكف عني غضبه الشديد ولكنه راح يؤنبني مصراً على أنه كان يجب عليّ أن أطيعه حتى انتهت المشادة إلى أن حزنت ومررت بأزمة نفسية ذهبت بسببها للطبيب, وعشت القضية برؤية أوضح قررت بعدها أن أتصل بأصحاب البيت وأدفع لهم ما أراه حقا وعدلا وهو ما يعادل القوة الشرائية للجنيهات الخمسة التي اتفقنا عليها في العقد منذ أربعين سنه,
وأن أدفعها من مالي الخاص واتصلت بصاحب البيت وأخبرته بما أنوي فعله وطلبت إليه أن يسامحنا عما كان منا من قبل .. وعرضت عليه أن أدفع له مبلغ 230جنيهاً شهرياً ورضي الرجل بمائتي جنيه فقط , وقال له أنه راض وسعيد وشكر لي هذه المعاملة .
ولقد ألح عليّ بعض الأهل والأصدقاء أن أكتب إليك بالمشكلة بعد أن سمعوها وقالوا لي أن هذا المنطق غائب عن الكثيرين وأن الحكومة لن تستطيع بأي حال من الأحوال أن تصل إلى إنصاف أصحاب الشقق القديمة وأنه يجب أن تترك هذه القضية لضمائر المستأجرين كله على حسب إمكاناته فمن يخش حساب اليوم الآخر فعليه أن يحاسب نفسه بهذه الطريقة , فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا, أما الذين لا يستطيعون لفقرهم ونقص إمكاناتهم فاعتقد أن الله يغفر لهم استفادتهم من هذا القانون ويسوي الحسابات بمعرفته يوم القيامة ..
فما رأيك في ذلك يا سيدي..
ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
أنت تثيرين يا سيدتي في رسالتك هذه قضية مهمة هي قضية “العدل” في حياة الأفراد.. واستهدائهم به في معاملاتهم الشخصية وهي قضية خطيرة بالفعل .لأن أحد أسباب المعاناة الأساسية في حياتنا بصفة عامة هي غياب روح العدل لدى كثيرين منا في تعاملهم مع المجتمع ومع الآخرين, والحق أن أسباب يسر الحياة في المجتمعات المتقدمة هو أن الفرد ينشأ فيها علي الإيمان المطلق بالعدل في التعامل مع غيره. وعلى الاقتناع المطلق أيضاً من ناحية أخرى بعدالة القوانين التي تحكم حركة الحياة في مجتمعه فيطلب حقه.. ويتمسك به.. ولا يماري في أداء حقوق الغير عليه, ولا يرضى عن نفسه إذا هو نال ما ليس من حقه أو أعطى للغير ما يقصر عن حقوقهم.
ولكن للقضية التي تثيرينها في رسالتك هذه أبعادا أعمق واعقد من أن يتكفل السلوك الفردي العادل وحده بحلها والتعامل معها .. وإذا كنا نؤمن بأن من واجب الإنسان أن يعدل بين نفسه وبين الآخرين بغير انتظار لأن يفرض عليه المجتمع هذا العدل .. ففي الحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم ويقول: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” ما يجعل هذا العدل واجباً دينياً وأخلاقياً كذلك , ولقد قال النووي في تفسيره هذا الحديث الشريف أن المراد بالمحبة الدينية , وقال أيضاً إن الحديث يحمل على عموم الأخوة في الدين.
وأنت يا سيدتي قد اخترت أن تفعلي ما ترين أنه الحق والعدل .. في حياتك الشخصية فكأنما قد استهديت في ذلك بهذا الحديث الشريف وعملت به , أو كأنما قد عملت بمقولة الفيلسوف الألماني كانط الذي قال” كن كاملاً في عالم ناقص يكمل العالم على مر الزمان”.
وأيا كان اختيارك فلا يملك أحد إلا أن يحييك على حرصك على تحري العدل والإنصاف و الإستبراء من كل شبهه غير أن للقضية , كما قلت من قبل وجوهها الأخرى الأكثر تعقيداً واستعصاء على الحل على هذا النحو.. ولهذا فأني أضع رسالتك تحت أنظار قراء الباب وأترك لهم أن يتأملوا سطورها ويتفكروا فيها.
- نشرت عام 1999
- من أرشيف جريدة الأهرام