قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || القانون

انفطر قلبها في أسى ولوعة ، وخيل إليها أنه ينتزع من بين أضلاعها ، مع انتزاع الطبيب لتذكرته الطبية من ذلك الدفتر الأنيق ، الذي يحمل اسمه في كل صفحاته ، ومناولتها إياها ، وهو يقول في لهجة رجل عملي ، لم يعد لديه وقت للعواطف أو المشاعر :
ـ من الضروري أن تبتاعي هذا الدواء اليوم ، وإلا فسيحيّا ابنك بعاهة مستديمة مدى الحياة.
ألقت نظرة بلا معنى على التذكرة الطبية ، وهي تغمغم:
ـ هل يتكلف الدواء كثيرًا ؟

أجابها في ضجر:
ـ سلي الصيدلي.
ثم هتف ينادي مساعده:
ـ المريض التالي يا عبده.
خفضت وجهها في استلام وانكسار ، وحملت ابنها الهزيل ، ذا الأعوام السنة ، وغادرت باب العيادة الفاخر ، وقلبها نهبة للحزن والحيرة ..

إن الذي تحمله هو ابنها الوحيد ، لم تنجب سواه في عمرها ، ولا أمل لديها في أن تفعل ، فلقد استأصل الأطباء رحمها مع مولد هذا الابن ، بخطأ طبيب ناشئ ، حاول أستاذه تدريبه على أسلوب جديد للتوليد ، فكان من نصيبها أن يثقل الطبيب الناشئ رحمها ، ثم ينقذها أستاذه من الموت باستئصال وعاء الإنجاب الوحيد في جسد أيه امرأة ..

وبعدها لقى زوجها ، العامل الأجري الصغير مصرعه ، عندما سقط من الطابق الرابع في منزل تحت الإنساء ، كان يعمل فيه عامل بناء ..
ومنذ ذلك الحين وهي تكافح لتحيّا ..
ولكن نوائب الدهر لم ترفع يدها عنها بعد ..
ها هو ذا ابنها الوحيد يصاب بمرض عضال ، يهدده بعاهة مستديمة ، وها هي ذي تقف عاجزة عن إنقاذه ..

وتوقفت مترددة أمام صيدلية كبيرة ، ثم دفعت قدميها دفعا تخطو داخلها ، وامتدت يدها إلى الصيدلي بالتذكرة الطبية ، وهي ترتجف في توتر ، فالتقطها منها الصيدلي البدين ، وقلب شفتيه امتعاضا وازدراء ، وهو يتأمل مظهرها الرث ، ثم أعادها إليها قائلا في برود:
ـ هذا الدواء يتكلف أربعين جنيهًا ..
ارتجف كل عرق في جسدها ، عند سماع المبلغ ..

أربعون جنيهًا ؟! ..
إنها لم تربح في عمرها كله مثل هذا المبلغ ..
ولكن ماذا تفعل ؟ ..
أتترك وحيدها يواجه مصيره المظلم ؛ لأنها لا تملك مالا ؟ .. 
إنها حتى لا تملك حسنا ، لتراودها فكرة الاتجار بنفسها لشراء الدواء ..
لا تملك حتى القوة للمزيد من العمل ..
وفي صوت خافت منكر ، غمغمت:
ـ ألا يمكنك أن ..

ولكنه لم ينتظر ليستمع إليها ..
لقد فارقها ضجرًا ، ليلبي طلب تلك السيدة المكتظة ، التي تطلب شراء دواء لإنقاص وزنها ، يبلغ ثمنه ضعفي ثمن الدواء الذي يحتاج غليه الابن المسكين ..
وغادرت الصيدلية كطير ذبيح ، وارتكنت إلى بابها تبكي في مرارة ، وهي تحمل ابنها على كتفها ، والتذكرة الطبية في يدها ..
وفجأة ، دس أحدهم في يدها ورقة مالية ، جفت دموعها وهي تتطلع إليها في دهشة ، وارتجف قلبها وهي تتصور ما حدث ..

لقد ظن الرجل أنها تتسول، فمنحها ذلك الجنيه .. 
تتسول ؟! .. يا له من عار ! ..
إنها لم تكن لتفعل هذا أبدًا ..
ولكن ..
ماذا تفعل سواه ؟! ..
عادت تستعرض موقفها كله ثم ضمت ابنها إلى صدرها في إشفاق ولوعة ، وراحت أعماقها تصارعا ..
ولم لا تتسول ؟! ..
ولم لا تقبل الأقدام أيضًا من أجل وحيدها ؟ ..
وفي حياء تمتمت :
ـ “حسنة لله” ..
خُيل إليها أن أحدًا لم يسمع صوتها ، فرفعت عقيرتها قليلًا:
ـ أريد شراء دواء لذلك الطفل اليتيم .

تطلع إليها بعض المارة في إشفاق ، وابتسم آخرون في سخرية وخبث ، واقترب كهل منها ، ودس في يدها ورقة مالية كبيرة ، و ..
وفجأة ، هوت على كتفها يد قوية غليظة ، وارتفع من خلفها صوت صارم يقول في قسوة :
ـ ماذا تفعلين يا امرأة ؟

انكمشت في رعب ، والتفتت إليه بعينين هلعتين وجسم مرتجف ، وأرعبتها تلك الصرامة البادية في ملامحه ، وهو يستطرد :
ـ ألا تعلمين أن التسول يخالف القانون ؟! ..
أرادت أن تشرح له موقفها ، وأن تريه التذكرة الطبية ، إلا أن الرعب والرهبة ألجماها ، فبقيت صامتة مستسلمة ، في حين قال أحد المارة في إشفاق:
ـ دعها ترتزق يا ( شاويش ) .
وأضافت سيدة :
ـ ربما كان ابنها مريضًا حقًا .

صاح ( الجاويش ) في صرامة لا تقبل الجدل :
ـ وليكن .. القانون هو القانون .
وتأوه ابنها ألمًا ، وزادت هي في ضمه إلى صدرها ، ولم تنطق بحرف واحد ، وقد سالت دموع اليأس والمرارة على وجهها ، وهي تسير أمام الشرطي إلى قسم الشرطة في استسلام تام ..
الآن فقط أدركت ماهية القانون ..
قانون الأقوياء ..

________________
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ لعنة البحر ـ رقم 5)

رائج :   الحكم بحبس سعد لمجرد 6 أعوام ……اعترافات صادمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *