أجمل رسائل بريد الجمعة

اللحظات العصيبة ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أنا فتاة أبلغ من العمر27 عاما.. نشأت في أسرة مترابطة بين أب يعمل عملا حرا وحالته المادية ميسورة وأم ربة بيت وشقيقة تصغرني بعامين، ولقد كانت شقيقتي الصغرى هذه تفوقني دائما جمالا وخفة وحبا للنا وقبولا منهم وتملأ أي مكان توجد فيه دائما بهجة ومرحا, كما كان لي ابن عم يكبرني بعامين يدرس بكلية الطب, وعلي قدر كبير من الاخلاق والطيبة والرقة والوسامة. وكان ابن عمنا هذا يزورنا كثيرا فولدت بذرة الحب الصامت داخلي تجاهه واحببته كثيرا, لكني نجحت في كتمانه وإخفائه عن الجميع, حين عرفت أنه حب من طرف واحد.

ومضت بنا الأيام هادئة يزورنا ابن عمي في المناسبات المختلفة ونرحب به ونجلس معه كلنا, ويمضي الوقت بهيجا سعيدا والحب الصامت ينمو في أعماقي ويتوحش, وأنا أكابده واجاهد لاخفائه لكيلا يشعر به أحد..

إلى أن فوجئت ذات يوم بأمي تبلغني بأن ابن عمي قد اتصل بأبي وحدد معه موعدا يجيء لمقابلته مع ابيه لأمر مهم.. ولم يكن ذلك أمرا مألوفا في علاقته بنا إذ كان يستطيع زيارتنا في أي وقت ويعرف الأوقات التي يوجد فيها أبي بالبيت فيأتي بلا موعد سابق, فخفق قلبي بشدة حين عرفت بقدومه مع ابيه لمقابلة أبي, وتساءلت هل تكون السماء قد استجابت لدعائي فغرس الله حبي في قلبه بعد كل هذه السنوات؟.

وترقبت موعد زيارته بقلق واضطراب.. وجاء ابن عمي مع ابيه في الموعد المحدد وصافحت عمي وصافحته ثم دخل الجميع إلى الصالون, واختلوا ببعضهم البعض لفترة من الوقت, وقلبي يكاد يقفز بين ضلوعي من سرعة الخفقان, ثم خرجت أمي من الصالون وهي تطلق زغرودة مدوية, فكدت أفقد الوعي من الفرحة. وقبل أن انطق بأية كلمة أو أسألها عن سبب ابتهاجها, فوجئت بها تقول لي أنا وشقيقتي ان ابن عمنا قد قرأ الفاتحة مع أبي وطلب يد.. أختي ! وانفجرت دموعي بغير وعي مني على الفور, وتوجهت لأختي بالتهنئة وأنا في شدة الاضطراب وأنا لا ادري بما أقول أو أفعل, ولا أعرف هل أدركت شقيقتي وأمي حقيقة مشاعري في هذه اللحظة العصيبة أم ان ابتهاجهما بالخبر قد غطي لديهما على كل شيء آخر..

لكن الموقف قد انقضى الي حال سبيله على أية حال, وفسر الجميع دموعي على انها دموع الفرح والابتهاج لأختي الحبيبة, وفي الأيام التالية لذلك جاهدت نفسي كثيرا لكيلا تبدو علي آثار الصدمة والحزن وخيبة الأمل, لكني بالرغم من ذلك وجدت نفسي استسلم لنوبات متتالية من الحزن والاكتئاب, وأميل للعزلة والانطواء, وأفقد اهتمامي بالحياة وكل الأشياء, وخلال ذلك تقدم لي أكثر من شاب يريد الارتباط بي, وكلما تقدم لي أحدهم أجد نفسي تلقائيا أعقد مقارنة بينه وبين حبيبي.. أو خطيب أختي الحبيبة فتنتهي المقارنة دائما لغير صالحه, وأرفضه للفارق الشاسع بينه وبين المثال الذي أحببته وأردته لنفسي!.

رائج :   علامات الخطر ! ..رسالة من بريد الجمعة

وتخرج خطيب أختي في كليته وعمل بأحد المستشفيات الاستثمارية.. وتحدد موعد الزفاف وكادت أختي تطير فرحا بعريسها, وتكاد تمشي فوق السحاب.. وأقيم حفل الزفاف, وكان جميلا وبهيجا, والفرحة تظل الجميع خلاله وانتقلت أختي إلي بيت الزوجية, وراحت تنهل من نهر السعادة الذي وهبته لها الأقدار مع زوجها, وبعد عام من الزواج رزقت بطفل جميل يجمع بين وسامة ابيه وذكاء أمه وخفتها, وطارت أختي من السعادة بزوجها وطفلها الجميل وحياتها الموفقة, ودرج الطفل على الأرض ودخل عامه الثالث وأصبح بهجة العائلة كلها.

وفي صيف العام الماضي رافقت أختي وزوجها وطفلها الي المصيف لقضاء بضعة أيام.. وذات صباح خرجت الأسرة السعيدة من البيت وأنا معهم يتقدمنا زوج أختي حاملا الشمسية, وأنا وأختي وطفلها من خلفه فعبر ابن عمنا الطريق قبلنا وتوقفنا ونحن ننتظر خلوه من السيارات فإذا بالطفل الصغير ينفلت من بين أيدينا لكي يلحق بأبيه ويهرول ناحيته, ورأت أختي سيارة مسرعة تتجه نحوه فانطلقت إليه كالسهم لإنقاذه وإبعاده عن الخطر..

ودفعته بالفعل بعيدا عن السيارة لكنها لم تنج للأسف منها, وانما اصطدمت بها صدمة مروعة وسالت دماؤها على الطريق وتحولت البهجة الي حزن أليم.. ونقلت اختي الي المستشفي في حالة خطيرة.. لكن القدر لم يمهلها طويلا فاسلمت الروح بعد قليل وكان آخر ما نطقت به هو كلمات توصيني بها بطفلها الصغير.. 

ثم صعدت انفاسها الطاهرة إلى السماء يرحمها الله.. ويخيم الحزن على حياتنا جميعا, وتجف دموعنا من كثرة البكاء. وتعتزل أمي الحياة والناس.. لفترة طويلة وتغلق عليها غرفتها بالأسابيع رافضة أن تغادرها أو تستقبل فيها أحدا.. وتصر على ألا يضاء مصباح واحد في بيتنا الحزين. ويمضي عام طويل ثقيل على هذه المأساة المؤلمة التي غيرت كل شيء في حياتنا.

ثم يجيء زوج أختي منذ فترة قصيرة ليطلب يدي من أبي ويبرر طلبه له بحرصه على ألينشأ ابنها بين أحضان غريبة.
ويعده أبي بأن يفاتحني في الأمر لكنه لا يقوى على ذلك ويكلف أمي بهذه المهمة, فتبلغني برغبة زوج شقيقتي.. وتسألني عن رأيي فيه فلا أعرف بماذا اجيبها, ولا أعرف هل أنا سعيدة بهذا الطلب أم حزينة له.. لأنه لا يجيء إلا كأثر لهذه المأساة الأليمة.

لقد وعدت أمي بالتفكير في الأمر, لكني لم أنس حتى الآن وجهها الحزين وهي تعرضه علي, ولا دموعها الغزيرة وهي تحدثني بشأنه, ومازلت حائرة في أمري حتي الآن.. ولم استطع الرد على أمي بموقف محدد فبماذا تنصحني يا سيدي؟

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

من أسوأ ما يفعله الانسان بحياته هو ان يتكتم رغباته الحقيقية.. ويتجنب التعبير عنها بكل الوسائل ويكابدها في أعماقه وحده. فيشتد ضغطها عليه في بعض الأحيان.. ويحاول هو من جانبه أن يتخفف من هذا الضغط فيجد نفسه لا اراديا يندفع إلى إنكار هذه الرغبات ونفيها ويتمادي في ذلك أحيانا إلى حد ابداء الرغبات المعاكسة لها, ومحاولة اقناع نفسه والآخرين بانها هي الرغبات الحقيقية له وليست تلك التي يتحرج من اعلانها والاعتراف بها!

رائج :   صوت الطاحونة ! .. رسالة من بريد الجمعة

وأحسب أن هذا هو ما تفعلينه الآن بنفسك يا آنستي وما تكررين به نفس الخطأ القديم الذي ساهم في تعقيد هذه المشكلة منذ البداية. فلقد كنت تكابدين حبك الصامت لابن عمك من قبل ان يبدي رغبته في الارتباط بشقيقتك الراحلة يرحمها الله, ولم يكن من العسير عليك في ذلك الوقت ان تشعري أقرب الناس اليك وهما والدتك وشقيقتك الراحلة باهتمامك بأمره حتى ولو لم يكن لذلك من أثر على تغيير موقفه منك,

إذ كان ذلك في حد ذاته كفيلا بتفادي الكثير من اللحظات العصيبة التي كابدتها خلال فترة تقدمه لطلب يد شقيقتك وبعدها وربما كان قد أدى الي تحفظ شقيقتك في قبول الارتباط به مراعاة لمشاعرك وتجنبا لايلامك, وسياق القصة لا يوحي من الأصل بأنه كانت ثمة قصة حب عميق قد جمعت بينهما قبل الزواج ويكاد يؤكد ان الامر لم يكن يتعدى حدود التقارب المألوف بين شباب العائلة الواحدة في سن الزواج, وفي مثل هذه الظروف لم يكن من العسير على أخت بارة بشقيقتها ان ترفض شابا اعجبت به اذا علمت بحب شقيقتها له.. 

فإن لم تذهب إلى حد ذلك, فلقد كان من الممكن على الأقل ان يراعي الجميع مشاعرك عند قبولها الارتباط به, وان تتجنب والدتك على سبيل المثال أن تصدم مشاعرك صدمة هائلة وأنت تترقبين سماع نبأ طلبه ليدك فإذا به يطلب يد أختك.
لكن آفة الانسان في بعض الاحيان هي تكتم احاسيسه ورغباته حتى عن أقرب الناس إليه, ولو صارحهم بها أو اكتفي حتي بالاشارة المتحفظة إليها لربما استطاعوا إعانته على التعامل معها, وتفادوا إيلامه من حيث لايريدون.

وما أكثر الآلام واللحظات العصيبة التي ماكان المرء ليكابدها لو كان قد اعتمد في حياته اسلوب الصراحة في المشاعر والرغبات بغير ان يخجل منها ويتكتمها عن الآخرين وكأنها من الخطايا والآثام!
وما أكثر ما تذكرني بعض مواقف الحياة المماثلة بما قاله الروائي الفرنسي الراحل البير كامي في تقديمه لروايته الشهيرة سوء تفاهم من أنه: ـ لو أن كلمة واحدة قد قيلت لما وقعت هذه المأساة! لكن آفة الانسان انه قد لاينطق أحيانا بالكلمة التي تجنبه الآلام والمعاناة في الوقت المناسب!
وها أنت تكررين الآن يا آنستي هذا الخطأ البشري القديم!

وتتظاهرين أمام نفسك قبل الآخرين, بالتردد أمام قبول طلب ابن عمك الارتباط بك, وتفضلين انكار رغباتك الحقيقية ونفيها إلى حد التظاهر امام النفس بعدم الرغبة فيها, ففيم كل هذا العناء يا آنستي.. وإلام تستمرين في التظاهر بعكس ما ترغبين وما تشعرين به؟

لقد وقعت المأساة ولم يكن لك شأن في وقوعها.. ولا كان بمقدورك لوأردت ذلك ان تمنعيها, وزوج شقيقتك الراحلة لن يمضي بقية حياته أرمل مترهبا بلا زواج وبلا زوجة تشاركه رعاية طفله الصغير, وأنت لا تتوجهين بمشاعرك إلى أحد سواه وترغبين في الارتباط به, ومازال هو يحتل في قلبك وفي اعماقك نفس المكانة التي كانت له منذ قديم الزمان, فماذا يمنعك من الارتباط به ورعاية طفل شقيقتك الصغير معه, وإعانة أبويك ونفسك قبل الجميع علي الخروج من ظلام هذه المأساة العائلية الحزينة؟

رائج :   لعبة الحوت الأزرق … لعبة الانتحار

ان رفضك للارتباط بزوج شقيقتك لن يغير من حقائق الحياة شيئا ولن يعيد الراحلة العزيزة إلى دنيا الأحياء مرة أخرى للأسف, كما أن قبولك له على الناحية الأخرى لن يغير من الأمر الواقع شيئا ان لم يخفف الكثير والكثير من آثاره المؤلمة علي أبويك والطفل الصغير ووالده ونفسك.

ولهذا فإن ترددك أمام مطلب ابن عمك ليس في حقيقته سوى رد فعل لا ارادي للخجل النفسي الداخلي في اعماقك من ان تظهري أمام نفسك وكأنك قد استفدت ـ معاذ الله ـ من رحيل شقيقتك عن الحياة في تحقيق أمنيتك القديمة في الارتباط بمن احببته حبا صامتا طوال السنين..

لكن الحوار المنطقي الهاديء مع النفس كفيل بان يعينك علي التغلب على هذا الخجل النفسي, وعلى التسليم بأن قبولك للارتباط بابن عمك لا يتعارض مع حزنك الصادق علي رحيل شقيقتك عن الحياة ولا يعد خيانة للمشاعر الأخوية الصادقة التي جمعت بينكما..
ولهذا فلا مبرر للرفض ولا التردد حتى ولو كنت قد استسلمت خلال السنوات الماضية وفي بعض اللحظات لأحلام اليقظة التي كثيرا ما تراودنا وتجمعنا في دنيا الخيال الوردية مع من تحول دوننا ودونهم الأسباب والمقادير.. فمن رحمة ربنا بنا أنه لا يحاسبنا علي الأمنيات الصامتة ولا على أحلام اليقظة حتي ولو تعارضت مع الأعراف والتقاليد, مادمنا لا نفعل شيئا عمليا ييسر تحقيق هذه الأمنيات أو يقربها من دنيا الواقع.

وأنت لم تفعلي شيئا.. لتحقيق امنيتك القديمة.. أو للتعبير عنها ثم شاءت الاقدار التي لا راد لها ان تحولها إلى واقع.. وان تيسر الطريق اليها في ظروف درامية لا شأن لبشر بها فماذا يمنعنا من القبول بها.. حتي ولو تحفظنا رعاية لمشاعر الآخرين في اعلان ترحيبنا بها.. والابتهاج لها!

اننا ننصح من تواجه مثل هذا الموقف الذي تواجهينه الآن بألا تقبل بالارتباط بزوج شقيقتها الراحلة لمجرد الحرج العائلي الذي يفرض عليها رعاية اطفالها من بعدها, إذا كانت تخطط لحياتها مع انسان آخر ترغب في الارتباط به.. أو إذا كانت لا تستشعر مجرد القبول النفسي لزوج الشقيقة الراحلة.

وهذان الشرطان غير قائمين في حالتك يا آنستي.. فلست تخططين لحياتك مع انسان آخر ترغبين فيه, ولست أيضا تنفرين من زوج شقيقتك الراحلة وانما على العكس من ذلك,ترغبين فيه وتكنين له أعمق المشاعر, لكنك فقط تخجلين من الاعتراف لنفسك بذلك.. وتستشعرين الحرج الانساني والعائلي المفهوم في ابداء هذه المشاعر.. وهذه الرغبة 
فماذا يحول بينك وبين اسعاد القلوب الحزينة من حولك وأولها قلبك أنت بالارتباط به.. واحتضان طفله الصغير الحائر؟

Related Articles