أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

فتاة من قاع المدينة .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أعتذر في البداية عن أية لمحة ألم قد تسببها قراءة هذه الرسالة اللاذعة للبعض , وأعترف أنني حاولت أن أخفف قليلا من الصورة القاتمة التي ترسمها للحياة فى قاع المدينة.. فنجحت في بعض فصولها وفشلت في فصول أخرى.

تقول كلمات الرسالة : أنا فتاة عمرها 18 عاما , أقول لك فى البداية إنني لا أكتب إليك هذه الرسالة لأستعطفك أو لأثير عطف أحد قرائك , فالحق أنني لا أقبل العطف من أحد ولو كان من أقرب الناس.. وأكره نظرة الشفقة في عين أحد ولو كان قريبا مني. لكني أكتب إليك هذه الرسالة لأروي لك قصة حياة لناس قد لا يعرف بعض قرائك الكثير عن حياتهم , وقد لا تلتقون بهم كثيرا وسأروي لك كل شئ بصراحة مهما كانت جارحة أو مثيرة للقرف.. وأرجوك ألا تحس بالغثيان وأنت تقرأ بعض تفاصيل حياتي .

لقد عرفت الفقر منذ طفولتي.. وعاشرت المرض منذ تفتحت عيناي للحياة فقد ولدت فى غرفة مظلمة لا تري النور ولا تعرف الماء.. وترعرعت كما يقولون فى وسط محروم من كل شئ  يضئ بلمبة الجاز ويشرب من ماء الطلومبة ومضت طفولتي بطيئة.. لكن عن أي طفولة أتكلم.. إن أمثالي لا يعرفون الطفولة التى يتحدث عنها الآخرون.. لذلك فسأروى لك بعض لمحات من هذه الفترة التى أسميها طفولتي !

لم أعرف في طفولتي كلها سوي قماش الدمور الرخيص رداء خارجيا وداخليا فى نفس الوقت.. لم ألبس طوال طفولتي فستانا مما تلبسه الصغيرات لا جديداّ ولا مستعملاّ مما تخلعه بعض الأسر على أطفال الفقراء , لم آخذ فى حياتي قرشا أو نصف قرش في يدي عند الذهاب إلي المدرسة كما يفعل الأطفال ..

وستسأل : وهل دخلت المدرسة فأقول لك نعم دخلتها رغم كل هذه الظروف , فأبي المكافح العامل في إحدى المصانع قد حرص علي تعليمي أنا وإخواني الأربعة.. أملا أن يجنبنا مصيره هو.. وفى المدرسة كنت أرى الأطفال يشترون المصاصة ويمصونها فيتحلب ريقي عليها ولا أستطيع شرائها.

ورغم كل ذلك مضت بنا الحياة ونحن نقاوم أبي وأمي وأنا وإخوتي, ثم تدهورت بنا الأحوال, وفقدنا غرفتنا المظلمة في انهيار المنزل , واضطررنا للسكنى في بدروم عمارة تمليك مكونة من 10 شقق بلا أجر ندفعه مقابل خدمة سكان العمارة كلهم , والقيام بأعمال بواب العمارة , وتصورنا أن متاعبنا قد انتهت لأن البدروم أوسع من الغرفة. .

لكن ما لقبناه ومازلنا نلاقيه كان أشد وأقسى .. خمسة أولاد ثلاث بنات وولدان أنا أكبرهم في المدارس جميعا, مطلوب منهم النجاح واجتياز عقبات المجموع للاستمرار في التعليم المجاني , لكن كيف يذاكرون دروسهم وهم جميعا في خدمة سكان العمارة في أي وقت , من الليل أو النهار.. روحي هاتى عيش , أكنسي السلم , أغسلي العربية , هاتى المكواة وصدقني إن هذا ما يحدث طوال النهار بلا مبالغة.. فكيف نذاكر دروسنا وكيف نجيب المجموع المطلوب ؟

 ورغم كل هذا العذاب فقد واصلت دراستي وحصلت على دبلوم التجارة لكن أختي رسبت.. وأخي على وشك الرسوب هذا العام لنفس السبب وحين أفكر فيما يحدث لنا أسأل نفسي وماذا يستطيع أبى وأمي أن يفعلا ؟

إنهما يغالبان الفقر والمرض والظروف القاسية بلا هوادة.. إنني أتعذب حين أرى أبي عاريا نازلا في بالوعة المجارى لكي يسلكها في عز الليل , والناس نائمون والدنيا تمطر.. لأننا عاجزون عن النوم لأن مياه المجاري طافحة وبللت المراتب التي ننام عليها.. لقد زارتنا كل أمراض الدنيا.. بسبب الحياة مع المجارى في بدروم واحد.. وتلطمنا بين العيادات الخارجية للمستشفيات المجانية..

والمستوصفات الخيرية نتعالج بالمزيج والحديد والزرنيخ.. وقاومنا الأمراض.. فنجونا من بعضها.. واستقر فينا بعضها الآخر.. وأنا شخصيا بقي عندي من الأمراض مرضان جليلان هما المرارة.. والتبول اللاإرادي أثناء الليل آسفة لأن أقول ذلك بلا خجل لكن هذه هي حياتنا.. ورغم كل ذلك لانعدم من يؤذي مشاعرنا بجهل أو بحماقة..

فأنا مثلا قد أسمع وأنا ماشية في الطريق واحدا معندوش دم يقول لي أهلا يا بوابة ! وأخي وأختي رغم صغر سنهما حاولا الانتحار بسبب كلام زملائهما لهما في المدرسة, بسبب فقرهما وعملهما في خدمة السكان , وكل ذلك بسبب البدروم اللعين صحيح أن راتب أبي الآن كويس لكن من أين يأتي بخلو رجل لغرفتين في أي مكان..

أما أنا فقد حصلت على الدبلوم وجلست في البدروم بلا عمل ومفيش فلوس راضية تيجى أبدا, كأن بيننا وبينها عداء مستحكماّ ونحن جميعا إخوتي وأنا نمضي النهار بطوله دون أن نمسك عشرة قروش نستطيع أن نشترى بها شيئا خاصا لنا وسأكون صريحة معك, على الرغم من أنني لا أعرفك. كلما ضاقت بي الدنيا فكرت في الطريق الخاطئ لأية فتاة لأنقذ نفسي من هذه الحياة لكني أراجع نفسي وأقول لها إن الشرف هو أغلي ما أملكه فكيف أضحي به ؟

وفى النهاية أقول لك إنني أقرأ في بابك رسائل لفتيات يشكين هموما تبدو بالنسبة لي ثانوية .. أو دلعا لا يستحق الوقوف عنده , وأحس أحيانا عندما أقرأ رسالة من هذا النوع أني أريد أن أمسك بشعر كاتبة هذه الرسالة وأن أجرها إلي بدرومنا لتري الهموم الحقيقية التي يعانيها البشر.

لعلها ترضي عن حياتها وتترك لنا نحن أن نكتب لك.. نفضفض معك بلا أي أمل في الحل عن بعض همومنا والسلام عليكم؟

رائج :   الجانب الآخر ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتبة هذه الرسالة أقول (رد الاستاذ عبد الوهاب مطاوع) :

وأجد نفسي أقول لها بلا وعي وأنفاسي مبهورة من ملاحقة عباراتها التلقائية اللاذعة بل السلام عليكم , أنت يا صديقتي فأنت التي تستحقين الإعجاب لصمودك وقوة احتمالك, وقبل كل شئ لرفضك الانسياق وراء وساوسك .

ولقد أدركت جوهر المسألة حين عرفت أنك إذا أقدمت علي ما فكرت فيه فإنك بذلك تكونين قد أهدرت رحلة كفاحك المريرة هذه ورحلة كفاح أبيك البطل في تربيتك وتعليمك رغم الأهوال … أنت من هذه الناحية تستحقين كل الإعجاب وتستحقين أن تفخر بصداقتك أي فتاة كريمة … يبقي بعد ذلك … أن أقول لك رغم كل المرارة والألم لست وحدك فيما قاسيت في طفولتك وفيما تقاسين الآن ..

ولربما كان هناك من قاسي الأهوال أكثر مما قاسيت, وأنت رغم كل ذلك مازلت في بداية حياتك ولابد أن تأملي في أن تكون الفصول التالية أكثر إشراقا , وأقل معاناة , فنحن لا نستطيع يا صديقتي مهما بدا الطريق أمامنا صعبا أن نكف عن الأمل أو أن نتوقف عن محاولة اختراق السدود وقفز الحواجز .. فلابد أن نأمل دائما في غد أفضل وإلا أصابنا الجنون , واستسلمنا لليأس والإحباط.

لابد أن نأمل دائما في المستقبل مهما بدا الحاضر عقيما وغير مبشر بالآمال ..

 إنني لا أخدرك بالأمل.. لكني أدفع عنك اليأس والإحباط وهما بوابة الشيطان إلى عقل وقلب الإنسان لابد أن ننظر إلي الأمام دائما بوجه مبتسم حتى ولو ظن بنا البعض البله , فالأمل هنا دفاع عن النفس ضد الجنون وضد شرور عديدة ..

وليس استغراقا في الوهم والأحلام وتذكري دائما أن أكثر لحظات الليل سوادا هي اللحظات التي تسبق مباشرة ظهور أول ضوء في الفجر, لذلك فإنه لابد أن يحين فجر يوما ما وسوف يحين بكل تأكيد, في يوم قريب ربما كان أقرب كثيرا مما تتصورين.

  • نشرت عام 2001

رائج :   الإجابة الصادقة .. رسالة من بريد الجمعة

  • من أرشيف جريدة الأهرام

رائج :   الشاطئ البعيد .. رسالة من بريد الجمعة

مقالات ذات صلة